recent
جديدنا

رائدات الاسلام الفصل السابع عشر

Wisso

 


🌺ذات النطاقين🌺


يشهد التاريخ الإسلامي مواقف نسائية كان لها تأثير كبير في رقي الدولة الاسلامية ومن  اهم الشخصيَّات البارزة ذات النطاقين فأحببتُ أن أذكِّر نفسي وإخواني الكرام بشيءٍ من سيرتها العطرة، وتاريخها المشرق المجيد.


هي  أسماء بنْت أبي بكر الصديق خليل النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وخليفته بعد مماته، جدها الصحابي  أبو قحافة، وأمها قتيلة بن عبد العزى، تزوجها أبو بكر في الجاهلية، فأنجبت له أسماء وعبد الله ثم طلقها قبل الإسلام وبقيت في جاهليتها مدة ثم أسلمت بعد الفتح،  صحابيَّتُنا الجليلة جمعت المجد من أطرافه كله فهي  زوجة الصحابي الزبير بين العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالدة  الصحابي عبد الله بن الزبير، وأخْت أم المؤمنين عائشة وكانت تكبرها بعشر سنين ولدت أسماء قبل الهجرة النبوية بسبع وعشرين سنة في بيت علم وكرم وحسب 


أسلمت أسماء  وبايعت الرسول مع السابقين الأولين وهي فتاة غضة في الرابعة عشرة من عمرها، يوم أن عاد والدها الصديق رضي الله عنه إلى الدار مشرق الوجه متهلل الجبين باسم الثغر تكاد عيناه تنطقان بالكلمات قبل أن يتلفظ بها لسانه، فها هو يزف إلى أهله بشرى نبوة “محمد الأمين” ويعلن أنه قد تابعه وآمن به.


كان ترتيبها في الإسلام الثامن عشر بين الرجال والنساء، انضوت تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم،فتلقت رضي الله عنها شعب الإيمان وأحكام الإسلام من مصدرها الصافي العذب من فم وقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم متغلغلا إلى أعماق قلبها، فهي من المؤمنات السابقات. وتربت على مبادئ الحق والتوحيد والحرية والصبر متجسدة في تصرفات ابيها فأصبحت بهذه التنشئة الإيمانية رمزًا حيا للمرأة المسلمة. شهدت أسماء فجر الدعوة، وبداية الانطلاقة، وعاشت مع أبيها أذى المشركين، وصبرت على البأساء ورأت ما يفعله كفار قريش بالمسلمين وحملت لواء الدعوة بيدها وقلبها ومشاعرها.


تزوجت أسماء من الزبير بن العوام، وهو ابن عمة رسول الله صفية، قبل هجرتها إلى المدينة، وكان شاباً فقيراً لا يملك من متاع الدنيا إلا البيت الذي يسكنه، والفرس الذي يركبه، والسيف الذي يحمله، ورضيت به  زوجاً لها ولقد كان بيتها وبيت الزبير بيتاً من بيوت الإيمان؛ نشأت فيه التقوى وأصبحت وارفة الظلال. فكانت له نعم الزوجة الصالحة، تخدمه وتسوس فرسه وترعاه وتطحن النوى لعلفه، حتى فتح الله عليه فغدا من أغنى أغنياء الصحابة. وروى  ابنها عروة عنها، قالت: تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه؛ فكنت أسوسه وأعلفه، وأدق لناضحه النوى، وأستقي، وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي وهي على ثلثي فرسخ، فجئت يوما، والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر، فدعاني، فقال: “إخ، إخ”، ليحملني خلفه، فاستحييت، وذكرت الزبير وغيرته. قالت: فمضى. فلما أتيت الزبير أخبرته فقال: والله، لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه! قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.


قامت أسماء رضي الله عنها بدور كبير في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عمد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الهجرة، فقد ائتمنها صلى الله عليه وسلم على اتخاذ قراراتِ خطيرة ومصيرية.

فكلفها بمهمة خطيرة في هجرته وهي مسؤولية تزويد مؤونة الهجرة؛ تزودهما بما يحتاجان إليه من الطعام والشراب وهما مختبئان في غار ثور، فلم تفش سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، بل كانت تأخذ كل إجراءات الحيطة والحذر حتى لا يراها أحد من جموع قريش الذين يطاردونهما، ولما عزما على الارتحال من الغار صنعت لهما ما يحتاجانه من طعام لم يثنها حملها عن تأدية المهمة التاريخية التي تشهد لها صخور وتلال جبل ثور.  ولما لم تجد  حبلاً لتربط به زاد الطعام والسقا أخذت عنها نطاقها الذي كانت تربطه في وسطها فشقته نصفين وربطت به الزاد، ومن هذا الموقف سماها النبي بـ ذات النطاقين. وقال لها :"أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"

وتمنت أسماء الرحيل مع النبي ومع أبيها حينما هاجرا وذرفت الدموع، إلا إنها كانت مع أخوتها في البيت تراقب الأحداث وتنتظر الأخبار  وكان لها دور بارز في بيت أبيها، فلما علم والده أبو قحافة برحيله -وكان ما يزال مشركًا- جاء إلى بيته وقال لحفيدته :والله إني لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه.فقالت له: كلا يا أبتِ إنه قد ترك لنا مالاً كثيرًا، ثم أخذت حصى ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال وألقت عليه بثوب، ثم أخذت بيد جدها -وكان مكفوف البصر- وقالت: يا أبت، انظر كم ترك لنا من المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس... إذا كان ترك لكم هذا كله فقد أحسن.وقد أرادت بذلك أن تسكن نفس الشيخ، وألا تجعله يبذل لها شيئاً من ماله ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشرك عليها معروفًا حتى لو كان جدها.


ولما طاش صواب قريش عندما علموا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من داره سالمًا من بينهم، وجنّ جنونهم، وفقدوا صوابهم فهاجوا وماجوا، وفي مقدمتهم أبو جهل، الذي جاء هائجًا إلى منزل أبي بكر فقابلته أسماء، فلما فتحت له الباب، قال: أين أبوك؟ ومتى خرج؟ وإلى أين سار؟ فأجابته بهدوء: لا أعلم، ازداد غيظًا وأقسم باللات والعزى مهددًا لئن لم تفصحي لنؤذينك، فجاء جوابها أثبت من الأول: لا أعلم، وافعل ما بدا لك، فما كان منه إلا أن لطمها لطمةً أطارت خرصها من أذنها، وسال دمها الزكي الطاهر، لكنها لم تبال ولم تضعف، بل زادها قوة وثباتًا، وحفظا للأمانة، فقد كانت تأبى الخيانة رغم تعرضها للتعذيب.


ولما استقر النبي وصحبه بالمدينة هاجرت أسماء مع زوجها وكانت حاملاً بعبـد الله بن الزبيـر، وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم، وما كادت تبلغ قباء عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض، ونزل المهاجر الجنين أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة، وحُمِل المولود الأول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة مهلليـن مكبرين، حيث أن يهود المدينة أشاعوا بأن المهاجرين قد سحرهم اليهود ولا يولد لهم، فخاب ادعاؤهم، فوضعه رسول الله في حجره، وحنكه بتمرة بعد أن لاكها رسول الله بفمه الشريف ثم وضعها في فم عبد الله، فكان ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما دخل جوف عبد الله، وهو الذي سماه بهذا الاسم.


كانت أسماء رضي الله عنها وقافة عند حدود الله، لا تجامل في ذلك أحداً من خلقه، حتى وإن كان أقرب الناس إليها وألصقهم بها، كأمها التي كان بطنها لها وعاءً وثديها لها سقاءً؛ ، فجاءتها  لزيارتها بهدايا  فلم تقبلها حتى سألت الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الكريمة  في شأنها : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين

وفي الصحيح أن أسماء قالت: يا رسول الله، إن أمي قد قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك.


بعد هجرة أسماء رضي الله عنها إلى المدينة قامت بدور كبير، تمثّل ذلك في تعليم و دعوة النساء بالمدينة، وكانت نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، بينما نساء الأنصار لا يعرفنها، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن فشرعت في تعليم نساء الأنصار أمور دينهن.


إلى جانب ما سبق ذكره من اتصاف أسماء بالصبر والتضحية والإيثار، بينه بجلاء ما بذلته رضي الله عنها في قصة الهجرة، فإن أسماء كانت تتمتع بصفات حميدة وأخلاق رفيعة، منها ما يلي:

1- سخاء نفسها وعظيم جودها: فقد كانَت أسماء بنت أبي بكر سخية النفس، وكانت رضي الله عنها من أكرم النساء وأجودهن، ومن حبها للعطاء لم يكن يثبت بيدها مال.


بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة ،وجاء الحجاج بجند الشام فحاصر ابن الزبير في مكة، واشتد الحصار، فدخل عبد الله على أمه في الساعات الأخيرة من حياته، ووضع أمامها الصورة الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره، وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، في لحظة حاسمة من لحظات الخلود، فقالت له أمه: (يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبِئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتِلَ معك) قال عبد الله: (والله يا أماه ما أردت الدنيا ولا رَكنْتُ إليها، وما جُرْتُ في حكم الله أبداً ولا ظلمت ولا غَدَرْت) قالت أمه أسماء: (إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبَقْتَني إلى الله أو سَبقْتُك، اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبِرّه بأبيه وبي، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب الصابرين)  تلقّى الشهيد ضربة الموت😢😢، وأبى الحجّاج إلا أن يصلب الجثمان الهامد تشفياً وخِسة، وقامت أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة لترى ولدها المصلوب، وبكل قوة وقفت تجاهه لا تروم، واقترب الحجّاج منها قائلا: (يا أماه إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا، فهل لك من حاجة؟) فصاحت به قائلة: (لست لك بأم، إنما أنا أمُّ هذا المصلوب على الثّنِيّة، وما بي إليكم حاجة

وتقدم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- من أسماء مُعزِّيا وداعيا إياها إلى الصبر، فأجابته قائلة: (وماذا يمنعني من الصبر، وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل).


يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق، أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده قبل أن يصلبوه


انتهت حياتها، وانتقلت إلى جوار ربها لتترك للمؤمنات دروساً خالدة، ومواعظ غالية، وستظل مهما تعاقب الزمان تذكر بالتضحية والصبر والتقوى، وسيظل لها لقب (ذات النطاقين). فرضي الله تعالى عنها وعن أبيها وزوجها وأبنائها في الخالدين، وألحقنا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.


الى هنا تنتهي قصتنا لنضرب موعدا جديدا مع شخصية اخرى نقشت اسمها في جدران التاريخ 


google-playkhamsatmostaqltradent