رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
الخاتمة.
"سلامٌ سلامٌ كمسكِ الختام…"
مرَّ الوقت، بل مرت سنوات. ثلاث سنوات انقضت كأنها دهور، لم يعرف فيها يونس طعم الحياة، هجر كل ملذاتها ونأى بنفسه عن الجميع عدا جدته التي لم يعد يزورها كثيرًا. قضى كل لحظة. كل نبضة من قلبه باحثًا عنها.. عن قمره التي اختفت فجأة، كأنها لم تكن إلا حلمًا عبر في ليلٍ بعيد.
الدنيا من حوله قد أظلمت. وباتت ألوانها باهتة، لا شيء يشبه الحياة التي عرفها قبل رحيلها. وكأنها فص ملح وذاب في ذاك البحر الذي شهد لقائهما الأول. البحر ذاته الذي صار مزارًا له، يقف عند ضفافه كل ليلة. يراقب الأفق بعينين أثقلتهما الوحشة، يمنى نفسه بأنها ستظهر هناك. تمشي فوق رماله كما كانت تفعل، يناديها قلبه في صمت ولكن البحر كان دائم الصمت، يبتلع نداءه ويعود بأمواجه المتكررة، كأنها تردد على مسامعه ذات الجواب: لا أثر لها.
وذات مساء بينما كان واقفًا عند الشاطئ، شاردًا في أفقه البعيد. جاءه صوت جدته من خلفه، صوتها الذي لطالما كان سندًا له في ضعفه، لكنه اليوم بدا مرتجفًا:
"أرسلت خبرًا إلى بلادها.. سألوا عنها في كل مكان ولم يجدوا لها أثرًا."
انتفض ملتفتًا نحوها بلهفة، وملامحه تلهج بسؤال لم يملك أن ينطقه، لكنه خرج رغمًا عنه:
"هل علمتِ شيئًا عن عائلتها؟"
كانت مترددة تخشى أن تضيف ثقلًا آخر إلى قلبه الذي بالكاد يحتمل، لكنها ابتلعت غصتها وقالت:
"هل تتذكر أختي التي توفيت منذ سنوات؟"
أومأ برأسه، فأكملت بصوت منخفض وكأنها تحاول انتقاء كلماتها بحذر:
"اتضح أنها لم تمت.. كانت خطة لإبعادها عن هنا. خالتك يسرية كانت وراء كل شئ والسبب في تزويج أختي الصغرى لرجل ليبي كان صديقًا للعائلة، لكنه اختفى فجأة. اعتقدتُ أنه عاد إلى بلاده من أجل العمل، ليس إلا. خالتك خدعتني وجعلتني أصدق أن اختي ماتت. ولكن والدتك جاءت وأخبرتني الحقيقة بعد كل هذه السنوات.. أخبرتنى بما فعلته خالتك لكي نسامحها."
نظر إليها بعينين تائهتين، ملامحه جامدة وكأن عقله لم يدرك بعد ما سمعه. ازدردت الجدة ريقها، ثم تابعت بتأنٍ:
"باختصار.. أختي لم تمت، بل كانت وفاتها مجرد مسرحية حتى يصبح كل شيء من حقي، وبهذا يتمكنوا لاحقًا من أخذه مني كما حاولوا بالفعل. لكن ما لم أعلمه إلا الآن.. هو أن ابنة أختي هي قمر.. يسرية تعرفت عليها منذ أول لقاء."
تسارعت أنفاس يونس وكأن هواء البحر لم يعد يكفيه، استرجع في لحظة واحدة كل المرات التي رأى فيها نظرات الغضب في عيني يسرية كلما كانت قمر موجودة، كل المرات التي شعر فيها أن هناك سرًا غامضًا يحيط بها، وفجأة اتضحت الصورة أمامه كليًا.
_"وهذا سبب غضبها حين رأتها معنا في القصر!" قالها بصوت اهتز بين الذهول والغضب.
لكن وسط هذا الغضب. كان هناك شيء آخر، شعاع أمل صغير بدأ يضيء قلبه المظلم، عاد صوته مفعمًا بالحياة وهو يقول بحماس:
"ماذا ننتظر إذن؟ لنذهب إلى ليبيا، نحضر أختك وابنتها.. قمر حفيدتك يا جدتي، لنذهب ونلم شملنا ونُعيد ترميم عائلتنا المشتتة."
لكن هذا الأمل لم يدم طويلًا، فقد رأى ملامح جدته تتغير، رأى الدموع تتجمع في عينيها، وسمع صوتها يتلاشى كأن الكلمات تخنقها قبل أن تخرج:
"قلتُ لك.. لم يجدوا لها أثرًا.. ولكن علموا أنها.. إنها.."
تقدم خطوة نحوها عروقه تتجمد، نبضه يخفق بجنون، صرخ في وجهها بصوت لم يشبه صوته:
"جدتي! علموا أنها ماذا؟!"
حبست أنفاسها للحظة، وكأنها تخشى أن يكون قول الحقيقة موتًا له، لكنها لم تعد تملك إلا أن تخبره، قالتها أخيرًا بصوت أشبه بالهمس:
"علموا أنها توفيت منذ أربع سنوات.."
نظر إليها بعدم فهم، لتكمل بصوت مرتجف:
"تاريخ الوفاة قبل لقائنا بها."
شعر بقلبه يسقط في هوة سحيقة، أنفاسه تلاحقت وهو يحاول أن يستوعب.. هذا غير منطقي.. كيف تكون ميتة وهو قد رآها. لمسها. تحدث معها. عاش معها كل تلك اللحظات؟
بينما كان يتخبط في دوامة أفكاره. جاء صوت جدته مجددًا:
"الواضح أن قمر لم تكن سوى مبعوث من مقرينوس، واندثرت حيثما اندثرت مقرينوس."
صرخ بصوت عالٍ. غاضبًا. رافضًا التصديق:
"لقد خرجت معنا! والسرداب أغلق وهي معنا!"
أجابته ميثال بحزن عميق:
"السرداب قد يفتح مجددًا ليأخذ كل ما له. لا يريد أن يترك إلا الذكريات والدلائل. أما الأشخاص فيتمسك بهم إذا تمسكوا به."
حدق بها يونس بعينين دامعتين، صوته مهتز:
"كانت رغبتها في البقاء هناك ظاهرة في عينيها وتصرفاتها، ولكن ليست لتلك الدرجة.. كما أنها لم تكن خيالًا! لقد أكلنا سويًا وسافرنا من مكان لمكان على ظهر الطائر! لقد لمست يدها! كانت روحًا وجسدًا حيًا.. ليست خيالًا يا جدتي!"
قاطعته ميثال بصوت مثقل بالحكمة:
"وأشرقت كانت خيالًا، والطائر راشد كان خيالًا ورغم ذلك كانا يأكلان ويرشدانكما ويفكران."
اشتعلت النار في صدر يونس، صرخ بغضبٍ ورفض:
"ألستِ أنتِ من أخبرتني أننا يمكننا الذهاب إلى مقرينوس ولا يمكن لهم المجيء إلى عصرنا؟!"
تنهدت ميثال ثم قالت بحزن:
"وهذا ما لم أستوعبه.. ولكن كل الدلائل تشير إلى موتها. عدم تواجد أي أثر لها في مصر أو ليبيا، ووجود قبر باسمها."
ساد صمت ثقيل حمل معه حقيقةً لا يريد أن يقبلها.. لكن لم يعد بإمكانه الفرار منها.
نظر إلى البحر الذي خدعه وابقاه على أمل لقياها ووعده بحسن الختام ولكنه لم يقل له الآن سوى: سلام سلام.
وقف هناك يتأمل الأمواج التي تتكسر على الصخور كأنها تصطدم بذكرياته التي لم تعد سوى أطياف متلاشية. حمله الهواء البارد إلى لحظات مضت إلى الضحكات التي تلاشت مع الرياح، إلى الوعود التي لم تجد سبيلها إلى التحقق. كان البحر شاهدًا على كل شيء لكنه لم يكن أمينًا على سره كما لم يكن الزمان أمينًا على وعده ولا المكان حافظًا لخطواتها.
نظر إلى السماء الرمادية وكأنها تشاركه حزنه، فتساءل هل كان كل ذلك سرابًا؟ أم أن مقرينوس ما زالت تختبره حتى بعد أن أغلقت أبوابها عليه؟ هل كانت قمر مجرد حلم جميل ترك أثرًا لا يزول؟ هل كانت جزءًا من قصة لم يكتب له أن يكمّلها؟
خطا خطوة نحو المياه، تردد للحظة وكأنها تناديه. لكنه تراجع، مسح قطرات المطر التي اختلطت بدموعه، ثم استدار عائدًا إلى الطريق المظلم الذي باتت تسلكه روحه. لم يعد هناك ما ينتظره، لا بحر ولا زمن ولا مكان، فقد خذلته جميعها كما خذلته الحياة ذات يوم. لكن عليه أن يستمر وإن كان ذلك بأقدام مثقلة بالحزن. فالحياة لم تعد كما كانت، لكنه لا يزال فيها، عليه أن يمضي ولو كان في قلبه ألف جرح لا يندمل. عليه أن يحمل الذكرى ويمضي، حتى لو لم يبقَ له منها سوى طيفها الهارب بين الأمواج.
أغمض عينيه وابتلع غصته، ولكن أمله لم يزل. ما زال يعيش على ذاك الأمل، أنه ربما يلقاها في عالم آخر بلا سراديب خادعة، حيث لا تختفي الأرواح ولا تذوب الوعود مع الزمن.
رحلة مقرينوس انتهت ولكن رحلة يونس مازال بها الكثير من الفصول والظلمات التي لم تنقشع بعد!
مازال في الحكاية ما لم يروى ولم يفسر متروك لخيالك عزيزى القارئ.
ربما يُقدر لقلمي أن يفسر لك كل الأسرار في جزء قادم. وإلى أن يحين ذلك الوقت ستكون انت القارئ والكاتب وبطل الحكاية…
النهاية…
الحمد لله الذى وفق وأعان…
دمتم بخير…