رواية "إنها غيوم الحياة"
بقلم أمل محمد الكاشف
إنها الغيوم، أتت وضربت سماءها ليصبح كل ذنبها بهذه الحياة حلم جميل أرادت عيشه بسلام وأمان، بيت دافئ، عائلة محبة، دراسة ناجحة، عمل موفق، زوج حنون خلوق، عيشة هنيئه بلا ثقل.
توالت الأقدار والغيوم العاصفة حتى فتكت بقلبها وأفقدتها لذة الشعور بألوانها الزاهية بحياة أصبحت أحادية اللون بنظرها، ما يأتي يشبه ما يرحل لا فرق بينهما بعد ان فقدت الروح سُبل طريقها لتصبح أسيرة خطواتها المحفوظة، تتعلق عينيها على أمل لقاء اجتمع عالمها على هدمه لينتهي بها المطاف بجلوسها على فراشها محتضنة ساقيها بين ذراعيها مستندة باسفل رأسها عليهم ناظرة للأمام بشرود فارغ من المشاعر والمخططات والأحلام بعد عجزها عن تفسير ما يجول بصدرها وقلبها، تُحدثها جوارحها بأن هناك خطب جلل يقتربُ منها دون فهم ما هو، لتصبح أسيرة ضيق الصدر وانقباض القلب مجتمعين بمرارة الحلق، أغمضت عينيها بهذه الحالة التي أدمت قلب أخيها صادق الذي تولى أمر اصطحابها لمائدة الطعام طامعًا بموافقتها وعدم كسره بعد تقربها منه واستنجادها به أكثر من مرة كي يتصدى لظلم وقهر مصطفى.
تسمر بمكانه متفاجئ ببؤسها وحزنها والدموع الصامتة التي تتساقط من عيونها المغمضة دون صوت، ابتلع ريقه والدموع تغرغر عينيه متذكر هذه الجلسة التي عكفت عليها طوال السنين الأولى من ظلمهم لها، تراجع للخلف بهدوء خشية مواجهة عينيها، نادته أمه وهي تخرج من المطبخ حاملة اطباق الطعام
"إلى أين ذاهب؟، ألم تطالبني بتحضير الغداء بوقت مبكر كي تشاركك حياة به"
نظر لأمه نظرة طويلة أقسمت فؤادها فهي أعلم بهذه النظرات المعاتبة اللائمة على مشاركتها بظلم ابنتها.
وقفت سيارة أركان أمام منزل اوزدمير أسرع للداخل ليتوجه مباشرةً نحو مكتب أمه التي قابلته بوجهها المقتضب وعينيها القوية متقدمة نحوه بخطوات ارعبته بخوفه، أغلق الباب و وقف خلفه متذكرا ذلك الوجه الذي اختطف منه طفولته وبراءته، ابتلع ريقه متسائلا
"ما بكِ؟، ما هذه الحالة؟، هل السيد هاشم؟…"
رفعت يدها لتصفعه على وجهه بقوة آلمت قلبه قبل وجهه، وضع كفه على وجهه مغمضا عينيه بضيق المهانة والكسر، شدت أمه من قبضة يدها المهتزة نادمة على تسرعها وصفعها له، ضغطت فكيها على بعضهما وهي تحدثه بصوت أظهر نبرته من بين ثنايا اسنانها
"هل تلعب معي؟، أين كان عقلك وانت تخبئ سر كهذا علي؟، أم أنك خططت كي تأتي بها زوجة عم لتظل قريبة من طفلتك؟"
اقتربت منه أكثر واضعة يديها على كتفيه لتهزه بقوة صوتها الغليظ
"أنت تلعب بالنار التي ستحرقك وتحرق اسم عائلتك معك، لماذا لم تخبرني؟، بأي شيء وثقت؟"
فتح عينيه وهو ينظر لها بصمت أحرقها وجعلها تعتذر واضعة يدها مكان الصفعة لتمسحها
"لا اعرف كيف فعلتها، لن افعلها مجددا وعد لن أرفع يدي مجددا"
تحرك أركان بصمته ليخرج من الغرفة
وضع يده على المقبض دون أن يفتحه لاقتراب أمه و وضعها كف يدها بمنتصف الباب مانعة خروجه بصوتها المتأثر بصدمتها الكبيرة
"كيف تركت ابنتك بيدها طيلة هذه الشهور، استمع لك تحدث بأي شيء وثقت"
رد عليها بغضب
"اياً كان ما فعلته لن أريح قلبك ولن أبرر لكِ حتى يمكنني فعل الأكثر من هذا لأجل أن تندمي على هذه الصفعة"
عادت لتعتذر منه وهي تمد يدها لتضعها على وجهه دون أن يقبل، تحرك ليخرج من الغرفة مرة أخرى رافضاً لما حذرها منه لسنوات طويلة منصدماً بحقيقة معلمة ابنته، استدار بنظرات ساخرة غير مصدقة
"هل ستبرري صفعك لي بهذه الطريقة، ألم أخبركِ ستكون الاخيرة إن كررتيها"
رفعت نازلي يدها لتضعها على جبهتها وهي تقترب من مقعد مجاور للباب جالسة عليه
"هل عادت لتصفي حسابها معنا؟، ماذا إن رفعت دعوة وتم فضحنا بالوسط؟"
راقب أركان وجه أمه وهو يرد عليها باستنكار
"من المؤكد أنكِ مخطئة، إن كانت هي نفسها لكنت تعرفتُ عليها من أول لحظة، الأخرى عمياء سمينة ذات شفاه وعيون مدفونة وانف صغير أما معلمة آيلا…."
قاطعته بغضبها وخوفها
"الفتاة كانت مريضة تعاني من مشاكل بالهرمونات أو خلل بوظائف الغدد لا أتذكر ولكنها تعالجت منها كما أجرت عملية دقيقة بعينيها حتى شُفيت تماماً"
رد أركان باستغراب
"من أين لكِ معرفة كل ذلك ولماذا لم تخبريني به؟، وأيضا كيف تسمحين ببقائهم معنا بنفس المدينة"
أجابته نازلي
"نسيت أمرهم، بعد خروجها من العملية واستعادة نظرها أخذها اخوتها وذهبوا للعيش بأزمير وكنا نحن بانقرة في ذلك الوقت، انتقلنا لاسطنبول ومرت السنوات بصراعنا بين هاشم وابنته وعملنا الغير مستقر دون أن أهتم بسؤالي عليهم لم أتوقع للحظة أنهم خلال عدة سنوات قليلة سيأتون ويقفون أمامنا بهذا القرب المخيف"
وبنظراته القوية نحو الفراغ رد أركان متسائلا
"هل تلعب على سراج كي تسقطه بشباكها وتدخل المنزل لتنتقم منا وبعدها تفضح أمرنا، أنتظري أم تحلم بأموال إضافية"
هزت نازلي رأسها بالنفي
"أنها مختلفة تماماً عنهم حفظها لكتاب الله وخجلها وهدوئها وقلبها الكبير لن يسمحوا لها بمخادعة أحد لأجل نوايا أخرى هي أصغر من أن تفعل ذلك، من المؤكد عدم علمها بأمر الطفلة، نعم هي لا تعلم أنها ابنتها، ان علمت ما كانت صمتت وصبرت، وايضا اخبروها بوفاتها…."
قاطعها ناظرا بعينيها
"أمي من أين لكِ معرفة ذلك"
رفعت نازلي عينيها على ابنها لثواني جمعت بها اجابتها التي خرجت منها
"كان علي أن أعرف كل ما يخص أم حفيدتي كي أضمن سلامة قلب صغيرتنا التي من المؤكد تأثرها بالكثير من الجينات الوراثية المشتركة بينها وبين أمها، بقيت وقتاً طويلاً أبحث عن قلب ينجب لنا بذرة حسنة تُنبت وتُزهر وتنجح دون سوء، ونجحت بذلك يكفي أن تشعر بكف صغيرتنا لتشعر بقلبها الكبير"
وبعيون شردت بقوة في أمه محاولا فك ألغازها هل هي تلك المرأة الحديدية أم المرأة الحنونة المحبة لعائلتها وتخشى عليهم من نسمات الهواء الطائرة.
تحرك وجلس بجانبها متسائلا
"ماذا تنوين فعله؟"
اجابته بقوتها
"من الان وصاعدًا أنتهى عملها بهذه المدرسة، أما اخويها فسأجعل السجن خير درس لهما، انتظر لترى اختفائهم عن سمائنا بأقل من ساعات، لتأخذها أمها صاحبة العقل الصغير وتذهب بها لمكان بعيد حتى لا نراهم تحت أقدامنا مرة أخرى"
تحدث أركان لأمه
"نعم اتذكر تلك الفيديوهات والأوراق التي تحمل توقيع اخيها، يا للعجب كيف نسي أمرهم!"
تحدثت نازلي بثقة
"الآن وضحت الرؤية، هزتني الصدمة وأوقفت عقلي عن التفكير، لا أحد يعلم بوجودنا وهذا القرب اترك الامر لي سينتهي كل شيء بالساعات القادمة دون أن يعلموا من خلف دخولهم السجن ولا سبب فصل ابنتهم من المدرسة، من الجيد وقوعهم تحت أرجلنا كي لا نتعثر بهم في المستقبل"
تحدث أركان وقال
"ألم يأخذوا مقابل ما أعطوه لنا؟، فلماذا أنت خائفة؟، فليخرجوا أمامنا ليس لهم شيء لدينا، لن تتجرأ الأم وعائلتها أن يضرونا أو يوقعونا، وايضا هل تصدقين انها لم تعلم ببيع الطفلة مستحيل، من أين كل هذا الثراء إذا"
ردت نازلي بشرودها
"هي مختلفة عنهم جميعا" وصمتت لتقول داخلها "تشبه جدها تماماً"
اتصلت يارا به نظر لهاتفه دون رد قائلا لأمه "أخشى أن تتأثر آيلا من جديد، خرجت من عزلتها، أصبحت تتحرك وتلعب وحدها، حتى عقدة لسانها بدأت تحل بشكل أدهش الجميع .."
تحدثت نازلي بسرعة
"ستعتاد لا يمكننا بأي شكل من الأشكال تقبل اقترابها من الخطر"
رفع نظره عليها بحزن "وماذا عن سراج"
فاجأته بردها الحاضر
"سينساها عند ابتعادها عن نظره"
تحركت نازلي لتخرج من غرفة المكتب قائلة بقوة "لا وقت لدينا للعواطف سنتحرك بخطوات قوية ثابتة ،لا تهون بأمر يخص حفيدتي"
اغمض عينيه بحزن كبير على ابنته متذكرا مسايرته لأخيه كي يكبر اعحابه وحبه للمعلمة بنظره متمنيا أن تأتي وتعيش مع ابنته في نفس المنزل.
خرج هو أيضا من غرفة المكتب ذاهبا لغرفة آيلا ، استدار سراج ونظر نحوه متسائل
"من الجيد انك عدت مبكرا حتى أهرب انا من قبضة يدها، لونت جميع ما علي وتبقى دورها يمكنك مساعدتها به"
ابتسمت ايلا وهي تهز رأسها رافضة المساعدة بالقسم الخاص بها.
نظر سراج لأخيه وقال
"انظر كيف تحرص على تنفيذ ما قالته معلمتها"
تحركت آيلا لتأخذ هاتف عمها بحب مقتربة من ابيها الذي جلس أرضا على قدميه ليصبح مقابلا لها وهي تقدم عليه لتُريه صورها التي التقطتها مع معلمتها بواسطة عمها.
دقق أركان النظر نحو حياة متسائل داخل نفسه "كيف أنتِ وهي نفس الشخص، فاجأته ابنته بتقبيلها صورة معلمتها بالهاتف واحتضانها له محركة كف يدها على كتفها بفرح كبير.
اهتز قلب أركان لرؤية مشاعر ابنته تجاه أمها وكيف تعلقت بها واحببتها، فرح سراج مقتربا من وردته ليقلب في الصور داخل هاتفه متحدثا عن المعلمة باعجاب كبير.
لا أحد منهم يعلم أثر هذه الصور على قلب حياة التي أصبحت تشتاق لابنتها ويحترق قلبها بنار الفراق والابتعاد كلما لمست حنان آيلا وحبها الكبير لها.
جلست نازلي بغرفتها تفكر بما ستفعله، هل حقا ستنهي استقرارهم وتجمعهم بهذه النهاية التي لا رجعة بها، هل تستطيع أن تكسر وتنهي الفتاة بفصلها من المدرسة بفضيحة سرقة تودي بمستقبلها الوظيفي لنهايته
اغمضت عينيها وهي تتذكر دموع اخيها "أنا لم أرد اذيتها هي من تدخلت، لم اكن بوعيي، ما كان عليها ان تقف بوجهي"
حركت نازلي يدها على صدرها ورقبتها مجاهدة اختناقها وهي تتذكر دفاع أخيها فاتح عنها رغم خيانتها له وكثرة اخطائها بحقه، لم تتخطى صوت فاتح وهو يأمنها على أولاده وعائلته.
تحدثت بشرعا متغلبة على مشاعرها ملقية بها عرض الحائط من جديد
"لن أسمح لهم بالاقتراب من حفيدتي، لن أسمح لهم بتعديهم حدودهم وانتزاع استقرارنا"
مرت عدة ساعات من الصمت والتفكير والقلق على نازلي وأركان عكس سراج الذي كان ينسج خيوط سعادته ناظرا للصور على هاتفه بفرح وابتهاج كبير، كان يفكر في كيفية مصارحتها بمشاعره ورغبته الجادة بالتعرف عليها.
فتح هاتفه ليكتب تغريدة جديدة "عندما تشتاق لأحدهم تفرغ عينيك من الجميع على أمل اللقاء القريب"
لم تصمت نجلاء باحاديثها المطولة مع حياة التي كانت تستمع لصوت صديقتها وضحكها وهي بعالم مختلف تماما عن عالمها.
خرج سراج ليلحق بعمله الإذاعي ليجدها أركان فرصة كبيرة للوقوف أمام أمه ليصدمها ويزلزل الأرض أسفل قدميها وهو يعلن قراره بقوة
"حان وقت إتخاذ القرار الصح ، لا داعي لابتعاد المعلمة عن المدرسه وابنتي، أعني لا داعي للتفريق بينهما أكثر من ذلك، لا أريد خسارة ابنتي ولا رؤيتها منكسرة حزينة تتمنى العطف وتلتمس الحنان بعيون كل من تراه دون أخذه"
وقفت أمه ناظرة لحالة وجهه وعينيه قائلة
"لا تحلم بموافقتي على زواجها من سراج وأدخلها منزلي بيدي، مستحيل ان ادخلهم لطرف بابي، لن اهدم ما جاهدت سنوات لبنيانه لأجل هؤلاء"
أخذ أركان نفسه بقوته وثباته شاهرا وجهه بوجه أمه ليقول
"لن أسمح لسراج أن يتزوجها"
ابتسمت نازلي ابتسامة لم تصل لعينيها حين سمعت ابنها يصدر فرمانه
"أنا من سيتزوج بها"
هزت رأسها بالنفي رافضة لما سمعت، اقترب أركان رافعا يده ليؤكد ما قاله
"سأتزوج وأتي بها أم لابنتي، وبناء على ذلك سنتحرك بخطوات ثابتة، لا أريد لها أن تعلم حقيقة صلتها بآيلا"
تحدثت أمه
"هل تسمع ما تقوله، حتى باحلامك لن ترى هذا اليوم"
رد على أمه بقوة
"أمي هل عارضتك من قبل، هل قصرت أو انقصت من عمل بيوم"
صمتت نازلي ليكمل أركان
"هذا يعني أنني لم أفعلها من قبل، وأنكِ لا ترغبين برؤية فعلي لها، احذركِ من الان لا تقفي أمامي كي لا تري الوجه الاخر، ساقلب الطاولة وانهي كل شيء دون أن يرف لي جفن"
صرخت بوجهه حتى كادت ان تصفعه مرة أخرى، مد وجهه لكف يدها وهو يهددها
"افعليها لتندمي العمر كله على فعلتك هذه "
تحدثت نازلي بصدمتها الكبيرة
"ما بك؟، عد لصوابك ما تفعله خطأ كبير بحق ابنتك وحقك مستقبلك واعمالك وشركاتك واسمك، انت بحاجة لمن يرفعك ويشرفك بالوسط، تريد من يرتقي بابنتك ويأتي لها بأخوة يشددوا من أزرها"
ضحك أركان بسخرية
"وما أشبه اليوم بالبارحة، نسب يعليك ويرفعك ويجعلك تلمع بالوسط، لا تكترث لإعجاب سراج انها هفوة طار وتركها ولم يتذكرها، هي مستقبلك، هي مفتاحك لجنة النجاح والانتصارات"
قاطعته أمه
"كانت هفوة لم يكن حبا، ولكنه الآن…"
تحدث ليقاطعها بقوة أكبر من قواها التي قاطعته بها
"لأجل ابنتي، سأقول له لأجل وردته"
وبسخرية قوية اجابته
"وأين كانت ابنتك وهو يحدثك عن إعجابه وانبهاره بها، أركان اتركها له هي لا تناسبك، اتركها له"
صرخ بوجه أمه
"وما الفرق بيني وبينه؟، ألسنا اوزدمير؟، ألا يسري علي ما يسري عليه؟"
ردت عليه
"نحن لدينا حساباتنا وأعمالنا الكبيرة الخاصة بنا"
أجابها بإصراره
"سأخرج ابنتي من هذه الحسابات، سأعمل وفق سعادتها وراحتها، كوني معي وقفي بصفي كي لا نندم مستقبلا"
ضُربت مخططات نازلي عرض الحائط مما رأته بعين ابنها، سقطت على مقعدها بقلب شعر بقرب نهايتها، كانت تردد بداخلها
"لن أسمح لهم باقتحام حياتي، لن أسمح لهم بهدم ما جاهدت وصارعت ببنائه على مدار كل هذه السنوات"
ابتلعت ريقها وقطبت حاجبيها بعيون لا زالت تحت وطأ الصدمة مكملة
"هل كنت أهرب منهم أم إليهم، أكان علي أن ابتعد بالوقت الذي اقتربت به، هل أصبح ذنبي أنني أردت مساعدتهم وأخذ حفيدتي من صلبي ودمي"
اتجه أركان لغرفة ابنته النائمة وهو يحمل بقلبه كل هذا الضيق والقوة، وقف بجانب فراشها وهو ينظر نحوها نظرات نادمة مشفقا عليها
"سامحيني بحقك، أعلم أنني المخطئ بهذا العراك، كان علي أن أرفض قبل أن تأتي وحيدة بدنياكِ، كان علي أن استمع لحديثها وتحذيراتها لي، سأفعلها لأجل أن أرى فرحتك دوماً، سأفعلها لأجل أن تكفي عن البحث عنها بعيون كل من يقترب منكِ، سآتي بها واضعها بجانبك كي يطمئن قلبك بجانبها، وقلبي حين ارحل واترككِ وحيدة"
اغمض أركان عينيه متذكرًا بدايات معرفته بحقيقة عمل أمه ومشاركته لها رغماً عنه، تذكر احاديثها عن ذكائه وقوة بصيرته وحنكته في إدارة الأعمال، حزن وهو يتذكر كيف اقنعته أمه واستطاعت اقحامه بدنيا أعمالها التي لا نهاية بيضاء لها تاركة سراج يختار ويعيش ما يريده.
وعلى الموعد المحدد كان سراج يغرد بصوته الإذاعي الساحر للقلوب يدير برنامجه وهو يقول
"حين تخفق متدمراً لا تنتظر أن تتوقف الحياة ويتجمد الكون حزناً عليك، لا تتأمل ممن حولك أن يقفوا ليجمعوا فُتاتك، فلتكن قاعدة بهذه الحياة لن ينتظر أحد وقوفك ان سقطت حتى من الممكن أن يفاجؤك بوقوفهم على حطام فتاتك لأجل أن يرتفعوا هم، لهذا عليك أن تقف وتنهض لتعيد بناء نفسك بنفسك"
هل توافقوني بهذا نتلقى اتصالاتكم على أرقام البرنامج المدونة على صفحتنا، نستقبل أول اتصال من ملك القلوب تفضل "أنا لا أوافقك بما تقوله، ان كسرت أو سقطت ألجأ لقلب يحبك ويرى العالم بعينيك وأترك نفسك بين يديه ليداوي جروحك بقلبه المحب"
ضحك سراج وقال "هل أنت متأكد مما تقول"
اكمل مستقبلا متصل اخر، تفضل أخي كريم بريش "الحياة جميلة بقدر عطائها من يقف بجانبك ليصلح ما افسده الدهر بقلبك"
لم يستطع سراج التحكم بضحكه وكلماته التي خرجت بتلقائية
"ما بكم هل تتحدثون تحت تهديد السلاح أم تم تبديلكم مع متابعي برامج اخرى"
في هذه الاوقات كانت من المفترض ان تضحك حياة أو تبتسم على ما قاله سراج وان كانت حزينة ولكنها على غير طبيعتها مصابة بجرح عميق ينبش داخلها دون ان تشعر به.
اغلقت الراديو قبل انتهاء البرنامج ونامت
بضياعها و وحدتها.
اصبح أركان مهتما بابنته يأخذها معه بالصباح واضعها بأمانة معلمتها وهو يدقق النظر بها يحاول معرفة صحة قراره من خطئه، اهتم بالهدايا الصغيرة اللافته للانظار بحجة انها من ابنته.
استغرب سراج من اصرار أخيه على إيصال ابنته واخذها بنفسه عند العودة عكس المعتاد بل وازداد غرابه بتعنت أخيه واصراره الكبير على الذهاب مع ابنته للرحلة المنتظره من قبل سراج منذ أسابيع متحججاً بشعوره بالتقصير مع صغيرته.
لم تعد نازلي قادرة على تحمل ما يفعل ابنها حاولت التحدث معه واعادته عن قراره دون استطاعة.
راقب أركان تعلق ابنته بأمها وكيف شعرت بها دون معرفتها حقيقة الرباط بينهما وهذا ما جعله يشعر بصحة قراره.
كانت الرحلة لحديقة الحيوان خاصة بالصف الأول من الروضه لهذا لم تكن نجلاء بجانب صديقتها في هذا اليوم.
ورغم اصطحاب اهالي الاطفال مع ذويهم الا انها كانت تتنقل بين تلاميذها لتهتم بهم وتعرفهم على الحيوانات بقلبها المهزوز وحالها المنقلب، حاولت الإبتعاد عن أنظار والد آيلا الذي أعلن عن نفسه بتقربه واطرائه عليها دون أن يسقط عينيه عنها، تهربت أكثر وأكثر دون أن تستطيع حين تمسكت بها الطفلة وأصبحت تدفع أصحابها بعيدا عنها لتحتكرها لنفسها.
انتظر بقائها بمفردها حتى اقترب منها ليحدثها قائلا
"شكرا جزيلا على كل شيء، كنت اتعجب كيف لابنتي أن تتعلق بشخص غريب لهذه الدرجة، لست أنا فقط من يتعجب بل طبيبتها الخاصة بصعوبات التعلم ايضا فهي تتحسن سريعا وبشكل ملحوظ منذ لقائها بكِ"
اومأت حياة برأسها وشكرته محاولة إنهاء الحديث لتهرب من أمامه ولكنه اكمل وقال
"مرت آيلا بظروف صعبة على مدار خمس سنوات، كانت طفلة حزينة صامتة تهرب لنومها حتى رأتك"
رفعت نظرها لتنظر نحوه محاولة فهم ما تشعر به دون استطاعة هربت اخيرا متحججة بمساعدة أحد الأطفال، نظر نحوها ليتذكر جسمها السمين وبكائها من ألم بطنها وهي جالسة بجانب الشيخ تحاول التحمل كما كان يرغمها الجميع عليه.
حدث نفسه بحزن كبير طاف على وجهه "سامحكِ الله يا أمي، يا ليتني رفضت يومها ما كان هذا حالنا الآن، ما كنت اضطريت أن ارتبط بشخص مختلف تماماً عني لأجل طفلتي المسكينة"
وضع بفم ابنته قطعة بسكويت وهو يتذكر ليلة عقد القران وكيف كانت حالته كالمغتصب يخفض صوته ويرتدي ملابس ليست من طرازه لأجل عيون الناس بالمنطقة.
كان حزينا بشكل كبير نادما على معارضته لزوجته واصراره على الانجاب أياً كانت التكلفة والخسارة، انفصل عن محيطه وظل يتابع ابنته والأطفال والمعلمة وعقله يسترجع الذكريات الاليمة ورفض سما للطفلة وبكائها لأخذ حق ليس بحقها، تألم قلبه وهو يسمع صوت صراخها على ابنته ومراجعتها عن نعتها أمي، كان يهتز بذنبه في حق زوجته وابنته وهذه المعلمة التي لم يتوقع عدم معرفتها ببيع ابنتها حتى الان، كان يواجه حرب قوية وصراع جديد بين رغبته باسعاد ابنته بإعادتها لحضن امها كي تسعد بالسلام النفسي، وبين حبه واعجابه الكبير بيارا صاحبة النسب والحسب والنفوذ.
ومن جديد تولد القرار الخطأ بالوقت الخطأ حين وقف بآخر رحلتهم مفصحاً عن رغبته ونيته بالارتباط بها قائلا
"سررت بقضاء يوم جميل معكِ، أعني ابنتي وانا وأنتِ، من الجميل رؤية آيلا فرحة وسعيدة، تمنيت رؤيتها بهذا الوضع منذ ولادتها، ابنتي كل ما أملك بهذه الحياة، لدي أم وأخ وشركة وأصدقاء وكل ما يتنعم به الإنسان ورغم كل ذلك تظل هي فقط من يضيء حياتي ويُشرقُ الشمس بعيني، لن أُطيل عليكِ كثيراً أردت أن أخبركِ بأنني رأيت بكِ ما كنت أبحثُ عنهُ منذ وفاة زوجتي أم آيلا طبعاً، رأيت حب الأطفال لكِ وتعلقهم بقلبكِ الحنون، أنتِ حقا رائعة ومميزة ولا يمكن لأحد أن يراكِ دون أن يتمنى الفوز برضاكِ"
تحرك خطوتين وهو ينظر على جانبيه لا يعرف كيف سيقولها فلسانه لم يستطع نطقها، شكرته حياة بخجلها الكبير وتحركت لتهرب من أمامه منادية على أحد الأطفال، استدار ونظر خلفها ليكمل بشكل سريع صادم لقلب من أمامه
"هل تقبلين أن تصبحي أم لابنتي، أعني هل تقبلين الزواج بي وتصبحي أم لأبنتي"
توقفت حياة بمكانها دون الاستدارة والنظر له وهو يكمل
"لن انتظر جوابك الآن فكري جيداً قبل أن تصدري أي قرار، سأكون أنا وابنتي سعداء إن قبلتي مشاركتنا حياتنا"
وعلى استحياء استدارت لتتأكد ان كان يتحدث معها أم مع غيرها، تعلقت العيون وكأنها تعرفت على بعضها دون تفاصيل، خفق قلبها وارتعشت يديها وتقطعت أنفاسها أمام كلماته وابتسامته التي لم تفارق وجهه.
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.