recent
جديدنا

انها غيوم الحياة الفصل السابع عشر

                        "إنها غيوم الحياة"

                           بقلم أمل محمد الكاشف



ساءت حالة حياة رغم اهتمام الأطباء بها، كان سراج جالسا بجانب فراشها شاردا بثقل الحقائق و الأقدار التي توالت بسقوطها على رأسه في وقت قليل، جفت الدموع وتصحرت العيون من كثرة ما أضفت به، سيطر عليه حزنه بعد الإعلان عن وفاة أركان قبل ساعتين بجانب أمه التي تصارع الموت تحت أيدي الأطباء بعملية دقيقة بوسط العمود الفقري خلاف صدمة نسبه التي لم يستوعبها عقله حتى الان، خارت قواه ونفذت طاقته الروحية والنفسية و أصبح منفصلا عن العالم الخارجي وكأنه بكوكب خلاف الكوكب والناس الذين يدورون حوله.

حتى هي لم تعد تقوى على الحديث لتكمل تهدئته وإصرارها على إقناعه بوجود خطأ فيما ظهر لهم وأن عليهم الانتظار لمعرفة الحقيقة من أمه، حاولت أن تحثه على الصبر حتى يتخطوا هذه الساعات العصيبة ليستطيعوا بعدها التفكير بعقول يقظة حكيمة.

نامت حياة على وضعها محتضنة آيلا على فراشها الطبي، ليظل هو ناظرا للأمام بصمته المميت.

وبصباح جديد عاد هاشم لمنزله الكبير فرحا منتصرا، رافعا رأسه بقوة وجبروت أكبر من السابق، وقف راجح بين يديه ملقيا عليه السلام ليرد هاشم بنبرته الفرحة

"عودا محمودا راجح بيه، واخيرا عدت للمكان الذي كبرت وتعلمت به"

تحرك هاشم ليتخطى راجح متحدثا

"ما كان عليك أن تتخلى عنا لحماية ودعم خصمنا، انت تعلم كم حزنت بوقتها ولكن لا عليك الالتحاق بسيدة طموحة قوية كنازلي أوزدمير حلم كل شاب حينئذ، حتى انا كنت أسعى لذلك"

صمت راجح ليكمل هاشم

"تزوجتما لسنوات دون علم أحد، تنعمت بحمايتها وثرواتها دون أن تعارضها"

عاد و وقف بجانبه ليحدثه بجانب اذنه

"هل كنت تناديها نازلي هانم بأوقاتكم الخاصة أم كان هناك لقب خاص؟"

غمز له مبتعدا عنه من جديد مكملا انفراده بالحديث

"وكيف لا فهي امرأة من الفولاذ لا تقبل حتى لاولادها ان يتخطوا حدودهم معها، قوتها، حكمتها، ذكائها، دهائها، حصنها القوي جعلوها منفردة ومميزة لا يقدر عليها أحد بعالمنا المخيف"

عاد هاشم ليقف بوجهه

"هل تعلم اني ندمت الآن، كيف تركت هذه النعمة بيدك كل هذه السنوات دون منافسة"

احمر وجه راجح الصامت ليضحك هاشم

"لا تضايق روحك تركتها بالماضي وهي في ريعان شبابها فهل سأفكر بها وهي عجوز تحت رحمة مشرط الطبيب"

جلس أخيرا على مقعد ذهبي كبير واضعا رجل على رجل ناظرا له

"كانت جميلة تحمل كل المميزات ماعدا الأمن، فلا يمكن لشخص مثلي أن يأمن على نفسه وعائلته من  ثعبان سام ماكر لا تعلم متى وأين سيلدغك و ينهيك"

وبنفس عينيه المنخفضة تحدث راجح

"دعوتني للتحدث معي بأمر مهم"

رد هاشم على الفور

"نعم دعوتك ليس للتحدث فقط بل والعمل سويا من بعد الان، اعلم انك كنت العقل المنفذ والحامي للعائلة منذ سنوات، تتخفى بزي موظف بسيط ولكن قدرك أكبر بكثير من عملك، لنعمل سويا لنكمل الطريق، بكل الأحوال لا عودة لنازلي مجددا، سنفعل قصارى جهدنا لانقاذ روحها التي ستساعدنا على إكمال الأعمال كالسابق، ستجلس هي إلى فراشها دون صوت أو حركة ونعمل نحن سويا لمصلحة تجارتنا كالسابق تماما"

رد راجح 

"هل تطلب مني خيانة…"

قاطعه وهو يستقيم على مقعده

"لم نخن أحد سنكمل بالطريق ونكبر الأعمال دون علم ابنها الآخر، ليأخذ كفايته من الأموال ويطمئن على سير ونجاح الأعمال دون بذل أي جهد"

فكر راجح قليلا متحدثا بعدها

"ومن سيضمن لي.."

قاطعه من جديد متحدثا بقوة 

"ساعطيك نسبة خاصة بك بعيدة عن الشركة بعد كل صفقة بجانب راتب شهري كبير ومميزات ادارية كنت تحلم بها ولم تصلها بحكم نازلي"

لمعت عين راجح ليسعد هاشم بامتلاكه والسيطرة على مفتاح قلعة أوزديمير الذي كان بمثابة درع وحامي لهم، كان هدفه الأكبر القضاء عليهم من الداخل وهدم كل شيء على رؤوسهم ليجد من يساعده ويسهل عليه جهد كبير.

نظر  لرجاله الأوفياء الأقربون له وهو قلق يشعر بسهولة بيعهم له فمن كان يصدق خيانة  راجح الرجل الذي ظل صامتا راضيا وفيا بعمله مساعد بسيط بجانب زوجته المخلصة له لسنوات كثيرة دون أن يهتز او يبيع.

تذكر  قوة نازلي وعدم سماحها لأي شخص بالتمادي معها احتراما لذلك الصعلوك كما كان ينعته دوما.

مرت الساعات بصعوبة كبيرة، وضعت نازلي بالعناية المركزة المشددة تحت حراسة أمنية عينت عليها لاستمرار التحقيق بأمر الطلقات النارية التي اصابتها.

تحركت حياة بجانب سراج ليخرجا من المشفى بجانب بعضهما كلا منهما يجاهد بتحريك قدمه للأمام، كان بانتظارهم رجال أمن تابعين لهم حاوطوهم حتى وصلوا بهما للسيارة التي صعدا بها لتنطلق بعيدا عن المكان، تعجب سراج من سيارات الأمن التي تحاوطهم من كل مكان وكأنهم موكب لشخصية سياسية كبيرة، لم يعترض بل ولم يهتم فقلبه لا زال مفطورا بحزنه على أخيه وابنته التي اصبحت دون أحد، أدار وجهه لينظر نحوها بحضن حياة متألما من حالتها ونظراتها الصامتة له، مد يده لتأتي له دون حوار ليضمها بحضنه مقبلا رأسها بعدة دمعات سقطت على رأسها الصغيرة.

اهتز جسد حياة من خوفها بمجرد وقوفها أمام بوابة المنزل، تقدم هو دون الانتباه لها وكأنه ابحر بعالم منفصل عن من حوله، عينه تدور على كل مكان وعقله لا يستوعب احتمالية عدم انتسابه لهذه العائلة، ارتعد قلبه حين وصل لمكان الحادث شعر بيد تمسك ملابسه من الخلف وهو يستمع لأحاديث أخيه وصراخه وتوعده بكسر زوجته وإذلالها، دخل غرفة وردته ليضعها بفراشها متأملا بذهابه لجناحه بعدها، أبت الطفلة ترك حضنه كما اقتربت حياة بعينها المذعورة متوسلة بعدم تركه لهما بصمت.

أتاه اتصال هاتفي من السيد راجح يسأله عن حاجته وما يأمر به، سأله سراج عن أخيه ليخبره راجح

"نفذنا رغبة سيادتكم بتأجيل الجنازة حتى نطمئن على نازلي هانم أعادها الله لنا بأفضل حال"

صدمه سراج بقوله

"لا داعي لتأجيلها بكل الاحوال لن تستطيع أم…ي حضورها أو الخروج من المشفى بغضون تلك الأيام، لذلك فلنقيمها غدا رتب جراء ذلك"

رد راجح 

"أمرك سيدي سنرتب الأمور وفقا لذلك، هل تأمرني بشيء أخر"

أنهى سراج مكالمته بالشكر فقط مغلقاً هاتفه وهو ينظر لدموع حياة قائلا 

"هكذا افضل لأجل الجميع"

نظر حوله مكملا حديثه

"ينتابني شعور غريب وكأنني أريد الهرب من المنزل كله، زاد ضيق صدري بمجرد دخولي به، طاقتي لا تسعف ذكرياتي به، أخشى من قرب انهياري أحاديثنا ولعبنا ومشاجراتنا التافهة التي لم تدم لدقائق حتى تنتهي بضحك واحضان"، انهالت دموعه مكملا حديثه وذكرياته

"أركان شخص مختلف عكس الذي رأيتيه، لا أعرف كيف ومتى تغير لهذا الحد، وكأنه ليس بعقله، أخي شخص طيب، محبوب، يبدع بالمزاح وإضحاك من حوله، كان مهتم بزوجته في السابق، حكيما بامتصاص غضبها، يسعى دوما لإرضاء الجميع على حساب نفسه، لا يمكنني استيعاب ما فعله معكِ أيا كانت المشكلة لم يفعلها طوال حياته حتى في يوم ألقت سما بوردتنا من الشرفة كي لا تناديها أمي لم يفعل كما فعل بكِ، هل اصبح مدمنا هل أغوته يارا بطريق الحرام دون ان نشعر بذلك"

ازدادت ضربات قلبها بعيونها التي ازدادت دموعها وهي تنظر للطفلة النائمة بحضن عمها

"هل أمها هي من ألقت بها؟"

بكى سراج بصوت ارتفع قليلا وهو يهتز من هول ما يشعر به 

"يا ليته لم ينجب، يا ليته لم يتزوجك، يا ليتنا بقينا صغارا نركض ونلعب ونسافر ونضحك بكفن…"

بكى أكثر حتى شاركته حياة و الصغيرة بالبكاء ويدها الحنونة التي تتحرك على ظهره.

على الجانب الآخر فرحت حمدية بالاخبار الجديدة قائلة لمصطفى 

"جاء وقت عودتنا، لم أعلم أنه سيأتي بهذه السرعة" فرحت أكثر وهي تقول 

"عادت الوريثة وأمها بالثراء الذي لا يفنى، لتدعو ابنتي لنا طوال العمر على الخير الذي سيغرقها من الان وصاعدا"

أغلق مصطفى الهاتف بوجهه المذعور من خوفه، سألته أمه 

"لماذا لا ترد علي"

بلع ريقه مجيبا

"ماذا قلتي؟"

استغربت من حالته متسائلة ما به، فتح هاتفه ليريها صور صادق مكبل وملقي أرضا، انتفضت من خوفها متسائلة أين هو ومن فعل به هذا، أخذ هاتفه منها ليقرأ لها رسائل التهديد وما هو موثق ضدهم من أعمال ستستخدم أن فضح أمرهم  ليرسلوهم إلى ما وراء الشمس دون رجعة. 

سألته "من هؤلاء ألم يمت أركان والهانم الكبيرة أمه"

رد عليها بضيق وخوف على أخيه

"لم تمت الهانم الكبيرة لا زالت بالمشفى، ومن المحتمل عودتها بأي لحظة لتنهينا عن وجه الأرض وليس بالسجون وحسب انتِ لا تعلمين هذا العالم المظلم"

حزنت على ابنها وظلت تدعو له أن ينجيه مما هو به، ندمت ولأول مرة من قلبها على ما اقحموا انفسهم به كان ندما نتاج خوفها على ابنائها وليس صحوة لضميرها الذي مات يوم باعت ابنتها بالرخيص.

دخلت حياة غرفتها وهي تتألم من ذكريات ليلة أمس، كانت تنظر لأرجائها وهي تتذكر ليالي الأربع أشهر التي مضت بحزن وخيانة ومشاجرات وخوف، فتحت خزانتها لتخرج ملابسها ناظرة نحو ملابس زوجها بحزن كبير.

كانت تعاتب نفسها على عدم تسليمها لروحها ومعارضته حتى أخرجته عن صوابه، وضعت ذنب الحادث وما حل عليه هو وأمه عليها قائلة 

"يا ليتني تركته يفعل ما يريد، ما ذنبها الصغيرة بالعيش دون أب، ما ذنبها أمه بما هي به"

دخلت الحمام بحزنها وبكائها لتتحمم بالماء الذي كان مائل للسخونه الحارقة دون أن تشعر بحدته، خشي القدر ان تحرق جسدها من كثرة بقائها اسفله شاردة حزينة تتساقط الدموع من عينيها الصامته.

أخذ سراج صغيرته معه لجناحه الخاص بعد أن رفضت تركه واحضر مقعد وأجلسها عليه أمام باب الحمام الخاص به من الخارج وظل يحدثها وهو يسرع بحمامه حتى انتهى وارتدى بسرعة سماعه لبكائها وندائها على أبيها وكأنها بدأت الشعور برحيله عنها.

خرج ليحملها دون حثها على التوقف بل بكى معها ليخرجا ما في قلوبهم من حزن وألم، خرجت حياة من جناحها الخاص متوجهة الى غرفة آيلا لتجد المربية في انتظارها تخبرها بأن سراج بيه يتولى رعايتها بالأسفل، تحركت نحو غرفة المعيشة الكبيرة وهي تجاهد انخفاض ضغطها، وبمجرد وصولها لمكان سقوط نازلي ارتعش جسدها وعلا صوت أركان بإذنها وهو يهددها ويتواعد لها.

وصلت لقبلتها بصعوبة كبيرة جالسة على الأريكة القريبة من مائدة الطعام الممدودة بأشهى الأطعمة رافضة تناول أي شيء منها، أتاها سراج ليفي بوعده في عدم تأخيره جالسا بجانبها ناظرا للأمام دون كلام ليمر اليوم بهذه الحالة الصامتة حتى دموعهم المتساقطة كانت هي أيضا صامتة، لم يتحركوا طوال النهار او الليل من غرفة المعيشة وسط حراسة شديدة تحيط المكان كله، من الغريب عدم وجود أهل من جهة عائلة أوزدمير او من جهة  أمه وكأنهم وحيدون بعالمهم، تجمع الأصدقاء ورجال الأعمال فقط ليشاركوهم مراسم الجنازة والدفن والدعاء  لذويهم.

جلست نجلاء بجانب حياة وسط جموع سيدات الأعمال تتسائل داخلها كيف تتركها أمها في يوم كهذا، رفضت حياة إعطاء آيلا للمربية بعد تمسكها بيدها الصغيرة بها لتضطر أن تطعمها وتهتم بها وسط هذا المجتمع الذي لم يعتاد على رؤية شيء كهذا في مجالسهم.

لم تهتم لأحد ظلت تطعمها وتحثها على تناول المزيد حتى أنهت طبقها على الأخير، مسحت وجهها ويديها ومن ثم اعطتها هاتفها لتلعب وتتسلى عليه محاولة منها إخراجها من صمتها وخوفها من كثرة الناس حولهم، إن كان الأمر بيدها لكانت ذهبت للداخل لتنهي ما فعلته وتعود ولكنها متعبة مرهقة بجسد يرتعش واقدام هزيلة لم تعد لديها قدرة على حملها، وبعد ذهاب الجميع من مكان الدفن اقترب سالم بحزنه ليجلس بجانب قبر أركان فاتحا المصحف الصغير ليقرأ منه القرآن ويدعو له بالرحمة والثبات عند سؤال الملكين، تذكر بحزن بكاء ابنته وهي تنظر نحو جثمانه لحظات دفنه 

دمعت عينه "رحمة الله عليك لا زلتم صغارا على هذا الفراق"

ظل جالسا بجواره يقرأ القرآن بصوت مسموع حتى حان الوقت ليذهب لمنزل العائلة ويقف بجانب ابنته حتى وان رفضته او منعه مصطفى الذي تعجب كثيرا من عدم رؤيته بين مشيعي جنازة زوج أخته.

ومع قرب نهاية اليوم الثقيل تقدمت إحدى المسؤولات عن إدارة المنزل

"حياة هانم هناك شخص بالخارج يدعي انه والدك سالم داود"

استغربت مما سمعته نظرت لسراج أمامها وهي تستمع له

"هل ندعوه هنا ام تريدين استقباله بقسم الضيافة بالاسفل"

كانت حالتها لا تحتمل خبر كهذا، ازداد ارتجاف اعصابها وخوفها هزت رأسها رافضة النزول  ليأمر هو بإدخال الضيف بغرفة استقبال الضيوف بالأسفل 

"قدمي ضيافة القهوة حتى نأتي إليكم"

ذهبت ملبية الأوامر ليتسائل سراج عن والدها ولماذا لم يروه من قبل ما دام على قيد الحياة، وهل هو منفصل عنهم منذ زمن بعيد ام كان خارج البلاد….

ظل يطرح جميع الاحتمالات حتى قاطعته باجابتها الصادمة

"لم يعد إلينا من بعد ان اصابني بالعمى  ظل على هذه الحالة لاشهر، نتلقى أخباره دون رؤيته حتى انقطعت اخباره بشكل كامل ولم يعد أحد يراه، منهم من قال مات والآخر قال مسجون وهناك من قال رحل دون رجعة"

حدثها بصدمته

"لن أسألك الآن كيف اصابكِ بالعماء ولكني سأخيرك بلقاءه من عدمه، يعني ان لم تريدي مقابلته فلن يستطيع أحد اجبارك على ذلك"

وأمام شرودها وتفكيرها اقترح هو عدم مقابلتها لأبيها حتى يستقر وضعها.

وقفت متحدثة 

"كنت أحلم باللقاء في وضع مختلف عن ما انا به الان حتى استطيع قول ما حضرته وحفظته منذ سنوات، لأرى بماذا جاء"

سألها "هل أتي معك، يعني ان كنتِ بحاجة.."

امتلأت عيونها بالدموع 

"نعم احتاج لوجودك بجانبي ان لم أثقل عليك، اعلم وضعك ولكني غير قادرة على تحمل اي مفاجأت وحدي، أخشى ان يغضب علي او يجبرني على الذهاب معه لاي مكان"

تساقطت دموعها

"أنا لا أريد العيش معهم مجددا"

 تحرك بقوة حتى اقترب من الباب 

"لن يرغمك أحد على شيء لا تريدينه، وايضا أين ستذهبين وتتركينها"

نظرت خلفها نحو من نامت على الاريكة مستأنسة بوجودهم، ليتقدم هو بخطواته

"هيا لنرى ما يريد ونعود إليها قبل استيقاظها"

فتح هاتفه ليتصل بالمربية كي تأتي بجانب آيلا تحسبا لاستيقاظها أثناء غيابهم.

نزلا للأسفل متعجبين من هيئته التي أشبهت الشيوخ وأئمة الجوامع، لم يتوقع سراج رؤيته على هذه الهيئة كما لم تتوقع حياة رؤية والدها بلحية وقفطان.

اقترب فاتحا ذراعيه ليحتضنها بعينيه الدامعة، تراجعت للوراء رافضة احتضانه لها لتتساقط دموعه 

"سامحيني يا ابنتي، سامحيني"

نظر سراج لمن تتحامى بوجوده ليجدها تجلس على المقعد واضعة يدها المرتجفة على ركبتيها وهي تهز رأسها بعيونها الباكية

"لن اسامحكم بحقي، لمن اسامحكم بحق أبنتي"

وبتعجب رد عليها ابوها 

"ابنتك؟!، وماذا حدث لابنتك كي لا تسامحينا عليه؟، لقد عدت لأجل…."

لم تعطيه فرصة ليكمل حديثه وقفت بصعوبة لتقترب بقوة مفقودة

"لماذا عدت؟، ولماذا أنت على هذه الحالة؟، هل تتخفى من جرائمك بهذا الزي؟، هل اعتقدت أنني ساساعدك؟، أم أتيت لتكمل علي ظلمكم وتزيدني قهر وألم، ماذا فعلت لكم لتقسوا علي لهذه الدرجة، كيف اقسمتم على افقادي روحي وتمزيق قلبي وأنا على قيد الحياة، كيف هان عليكم أن ألقى بالنار امام اعينكم دون رأفة او شفقة او رحمة، كيف هنت عليكم"

استاءت حالتها وانخفض صوتها مع شبه إغلاق عينيها ليقترب سراج ويجلسها على المقعد جاثيا امامها على ركبتيه وهو يحدث الأب 

"اي بشر أنتم، كيف تبيعون ابنتكم من أجل المال"

أدار رأسه بعد أن اطمئن على حياة مكملا

"ولكني وعدتها أن اساعدها، وساساعدها لاثبت جرمكم بحقها، سأرفع قضية عليكم وأثبت واقعة الحمل والولادة حتى بيع الطفلة وساحاسبكم جميعا بالقانون"

لم يصدق الأب ما سمعه ظل يتسائل ويتحمل بكائها واتهاماتها الثقيلة عليه حتى صُدم مما فعلوه بها

دارت رأسه وجلس على المقعد وهو يتحسر على ما أل إليه حال أولاده، نظر حوله متسائلا بصوت حزين مكسور 

"كيف حال خالتك زينب أقصد نازلي"

و باستغراب تحرك سراج ليجلس جانبا وهو يتحدث

"هذا ما خرج معك، هل اخبار أمي أهم لديك مما سمعته، كيف أصدق أنك لم تعلم بما حدث لها بعد رؤيتي لردة فعلك هذه"

مسح الأب وجهه وهو يسأل سراج 

"هل أمك على علم بما حدث مع ابنتي"

غضب سراج منه ليتحدث بقوة كل ما هو به

"بالطبع لا تعلم وكيف ستزوجها لاخي وهي تعلم بوضع عائلتها، وأيضا هل كل همك أمي الآن، ما دخل أمي بما اذنبتم به"

رد سالم عليه بحزن

"يا ليتها علمت بما اقترفوه بحقها ما كانت سمحت لهم،  حتى من المؤكد وقوفها معها ومساندتها حتى تسترد طفلتها وحقها"

استخف سراج بما سمعه لدرجة انه لم يرد عليه، تحدث سالم قائلا لابنته

"هيا لتذهبي معي"

اتسعت عينيها ليقف سراج قائلا 

"إلى هنا وحسب لن أضيع وقتي بالحديث مع رجل مثلك وكأن كلا منا يتحدث بجهة معاكسة للاخر"

نظر سالم لابنته

"كيف ستبقين وحدك بهذا المنزل الكبير تعالي معي حتى تعود زين… نازلي"

رفضت حياة قائلة لوالدها

"وما الفرق هل تخشى علي من البقاء وحدي بعد أن فات الأوان وحرقت روحي، على ماذا تخشى الآن وأين كنت كل هذه السنوات؟، أين كنت وأنا عمياء احارب وحدتي وظلامي وعائلتي"

عاد الأب لبكائه هو يحكي لها

"لم اكن بوعيي، المشروب والإدمان قضوا على عقلي، سافرت بعيدا حالما بالكسب الحرام، أراد الله بي الخير حين توقف قلبي فجأة لعدم تناولي الطعام عدة أيام فقط كنت اشرب وادمن ما اعتاد عقلي عليه وكأني اذهب للموت بيدي، سقطت على أثر ازمة قلبية فسرها طبيب مبتدأ بتوقف القلب وانتهاء حياتي، لم أعي على نفسي الا وانا في القبر وحدي مكفن وملثم، صرخت ربي ارجعون لعلي اعمل صالحا، بكيت مستغفرا راجيا المغفرة من الله، لم أكن أتوقع أنني لا زلت على قيد الحياة بل كنت أظن أنني مت واحاسب، علا صوتي وأنا أحدث ربي وابكيه أن يتركني أعمل صالحا و وعدته ان لن أعود للحرام مرة أخرى، كانت لقصة إخراجي من القبر لعبرة لمن يعتبر ظليت ابكي حتى اشفق علي كلب يسكن المقبرة ظل ينبش قبري والرجل ينهاه عن فعله، ناديت واستغثت حين سمعت أصواتهم الخافتة بالأعلى، كاد الرجل الطيب أن يفقد عقله حين رآني على قيد الحياة، كانت أولى كلماته لي "ها قد اعادك الله لتعمل صالحا فلا تعد لفتن الدنيا"

هزني الرجل وكأنه سمع حديثي مع الله بل وكأنه يعلم ماضيي، لقد عدت من الموت نادما على ذنوبي وما اقترفته بحقكم وأكثر ما ندمت عليه اني كنت سببا بصراخك وخوفك الذي لم ينقطع من اذني وانتي تستغيثين بأمك

 "لم أعد أرى شيئا"

اخترت الابتعاد عنكم كي لا تتأذوا بماضيّ و ذنوبي، لم أعلم الظلم الذي حل عليكي، عقلي لم يستوعبه حتى الآن".

كان بكاء الأب سالم وترديده الاستغفار وتوبته من جرمه بذنوبه وشربه وإظلام حياتهم أكبر دليل على صدقه.

أمر سراج بتجهيز الملحق الخارجي له كي يبقى به حتى يبتوا بامره، أعاد سالم سؤاله ليطمئن على حالة نازلي دون اي ألقاب.

ليسأله سراج "اتعجب من اصرارك على إعادة سؤالك عنها"، فاجئه سالم بإخراج سر والدته قائلا

"يمكنك القول بأنها كانت يوما من الايام أخت لي واقرب من هذا، أردت أن اطمئن عليها وان أراها بنفسي إن كانت بخير"

استغربت حياة مما سمعت 

"ولماذا لم نعلم بأمرها من قبل بما انكم بهذا القرب"

رد ابوها 

"إنها قصة طويلة ساحكي لكم عنها حين يعيدها الله من اختباره، فلعله أراد اختبارها واعادتها من طريقها كما فعل معي"

لم يقبل سراج ما سمعه ليدافع عن أمه "ماذا تقول أنت عن أي طريق تتحدث"

اوما سالم براسه 

"لقد فهمتني بشكل خاطئ انا لم أقصد شيء سيء يا بني، فلتعد امك وكل شيء سيعود لسابقه"

وقف سالم مكملا حديثه

"سأعود لاخلص حسابي مع امك واخيكِ وأتي بحقك منهم و ممن ظلمك ومن ثم أعود إليك"

تحدث سراج مقتربا منه

"من المهم معرفة اسم المشفى والطبيب الذي أجرى العملية، وطبعا العائلة الحاضنة للطفلة وأنا سأتصرف بخطوات قانونية تضمن حق حياة بعودة ابنتها"

أتت المربية وبيدها آيلا الباكية، أسرعت حياة بحمل الطفلة وتقبيلها  

ابتسم سالم بوجه آيلا قائلا

"ماشاءالله حفظها الله لكِ، وكأنها نسخه مصغرة منكِ وانتِ صغيرة، حتى دوامتها الأمامية، نظر للوشمه الصغيرة بجانب عنقها مكملا 

"هل خرجت شامتها لجدتها"

زاد استغراب سراج متذكر قول أمه أنها كان لديها نفس الشامه بنفس المكان ولكنها قامت بعملية تجميل لإزالتها وهنا زاد تأكده وتصديقه لحديث سالم.

ردت حياة على أبيها 

"ولكنها ليست ابنتي، انها ابنة زوجي رحمة الله عليه"

أمن الجميع على ما قالته 

ليكمل الأب "سبحان الله وكأنها ابنتك"

تحرك بحزنه ليخرج وهو يعدها أن يأتيها بحقها من اخوتها  وأمها ويعيد لها ابنتها حتى وان كان الثمن تسليم أولاده وزوجته للعدالة بيده.

عاد الأب مباشرة للقرية التي كان يقطن بها لسنوات ذاهبا لمنزل عائلته طارقا الباب قبل شروق الشمس، استيقظوا بخوف وقلق من صوت الطرقات القوية المتتالية، تردد مصطفى بفتح الباب متوقعا أنهم من رجال أركان أتوا لينهوا امرهم، لم يتوقع سماع صوت أبيه العالي وهو يحثه على فتح الباب وهنا استجمع قوته وتحرك نحو الباب بقوة مفرغا غضبه على ابيه الذي لم يعطيه الفرصة بذلك حين صفعه على وجهه بقوة كبيرة ممسكه بعدها ليلقي به في عرض الحائط زائرا بوجهه 

"ماذا فعلت بحياة، كيف تبيع عرضك بالبخس؟"

صرخت حمدية مدافعة عن ابنها محاولة افلاته من يد زوجها، تركه ليستدير نحوها بعينيه الغاضبة وخطواته التي لا تبشر بالخير وكأن الزمان يعود للوراء ولكن هذه المرة وهو بكامل وعيه.

هرب مصطفى من المنزل بعد أن أخذ هاتفه ومفاتيح سيارته، لتصرخ أمه ابني لا تتركني مصطفى لا تتركني، لم ينظر خلفه كما اعتاد بالسابق خلى المنزل من حولها لم تعد بجانبها من كانت تبكي وتقف أمام والدها متلقية بعض الضربات عنها، ذكرها سالم بحب ابنتها لها ودفاعها الدائم عنها، خاطب ضميرها المتبلد 

"كيف بعتي ابنتنا ولمن بعتي حفيدتنا، كم الثمن الذي دفع أمام حرق قلبها وروحها، كم دفعوا لكِ كي تبيعي ضميرك وقلبك وابنتك"

صرخت به لتحكي عن فقرهم وحاجتهم وهروبه، صرخت لتحكي له دخول ابنها الحجز بقضية من المستحيل خروجه منها مجددا، بكت وهي تحكي له عن عرض المديرة الكبيرة المسؤولة عن الأعمال وهي تقايضها إما أن يفعلوها لأجل المال وإخراج ابنها من السجن وبداية حياة منعمة بمكان بعيد عنهم وإما أن يظلوا غارقين بفقرهم.

غضب عليها بصوته العالي 

"أي نعيم سيأتيكِ بظلم ابنتك وبيع حفيدتك، كيف طاوعك قلبك وظلمتيها"

تفوهت  بما لم تفكر به قبل الإفصاح عنه حين قالت 

"لم اظلمها ولم ابيع حفيدتي، تبقى القليل انتظر عدة أيام فقط مات الرجل والهانم الكبيرة على وشك الموت، تبقى القليل وتخرج الحقيقة للعلن وتعيد حياة نسب ابنتها لها ليس ابنتها فقط بل تبقت أيام قليلة لتمتلك ميراث كبير ينقلها نقله كبيرة لا تفقر بعدها أبدا، أنا لم اظلمها لا تخف ولا تقلق اصمت وانتظر معنا عدة أيام حتى تفتح الجنة أبوابها لنا، بالأصل ابنتها بحضنها تبقى فقط معرفتها بذلك"

انصدم سالم مما سمعه، اتسعت عينيه وهو يقول 

"أكانت ابنتها وهي لا علم لها، ايحترق قلبها على من تحتضن دون علمها، اي أم انتِ كيف طاوعك قلبك على رؤيتها بهذا العذاب"

اتسعت عينيه أكثر ليجلس على المقعد وهو يسألها 

"هل نازلي هي من اتفقت معكِ على بيع ابنتك"

اقتربت حمدية 

"اصمت لا تتلفظ باسمها حتى لا ينهي رجالها أمرنا، صادق بين يديهم نحن مجبرين على الصمت لأجل إخراج ابننا من تحت أيديهم، لم يتبقى الكثير الاخبار تجمع على سوء حالتها وقرب نهاية جبروتها، أنت لا تعلم شيء عنها انها تعادل الوحش بقوته امرأة لا تملك بقلبها الرحمة مثلها مثل ابنها الظالم"

كرر سالم كلماته وهو لا يصدق

"هل نازلي هي من فعلتها بها، لماذا لم تأخذها عروس لابنها من البداية"

ردت قائلة

 "انت لا تعلم سأحكي لك، هي لا تعلم ايضا لا تعلم أننا سنجتمع باسطنبول بعد أن تفرقنا بأنقرة وايضا لم تتخيل أن يجمع القدر ابنتي مع حفيدتها بموقع عملها كمعلمة في مدرسة كبيرة، منعها مصطفى عن العمل ولكن صادق وقف بجانبها وساندها ليشاء القدر ويجمعها بابنتها التي تعلقت بها وانطلق لسانها على يد أمها، سبحان الله وكأني اسمع قصة موسى حين رفض أن يأكل من غير أمه، و حفيدتنا رفضت الكلام حتى رأت أمها وتعرف قلبها عليها وحين رأى والدها هذا قرر أن يعيد لها أمها رغما عن الجميع وقد كان وأصبحت زوجته وأم لابنتها من جديد"

كان سالم ينظر لزوجته نظرات ندم على كل ما مضى من عمره وهو بجانب امرأة كهذه.

ارجع رأسه للوراء مستندا على الحائط بظهر مقعده مغمض العينين بضربات قلب أسرعت من هول ما يسمعه..

توعد  لهم تحرك باجهاده وتعبه ليخرج من المنزل بعد أن نفت حمدية  وجود هاتف معها وبذلك انقطع اي اتصال بينه وبين ابنته ليقرر ان يذهب بنفسه ليخبرها عن ابنتها ومن فعل بها ذلك ، توجه لمحطة الاتوبيس واستقل حافلة كبيرة جالسا على أحد مقاعدها الامامية وهو يتنفس بصعوبة كبيرة غرق بنومه وتعبه دون أن يشعر بساعات الطريق الطويلة، ايقظه احد الرجال يفترض أنه من الركاب لينذره بوصولهم عارضا عليه توصيله بسيارته الخاصة لمكان قبلته فلقد اشفق على حالته واجهاده بهذا السن، لم يكن بحال للرفض وافق سالم وذهب معه للمجهول ليجد نفسه بالاخير امام ابنه صادق بنفس المكان فهم المكيدة وصرخ بصوته القوي "خيانة خيانة".

فرح مصطفى بتخلصه من أبيه دون ان يعلم مصيره الذي ينتظره هو وأمه  فمن الواضح أن راجح تعدى قوة و جبروت أركان ونازلي ليخفي كل من يظهر أمامه ويخرب مخططاته بهذه الفترة العصيبة التي يمرون بها، انتظرت حياة عودة أبيها يوم بعد يوم دون جواب، كما أمر سراج محامين الشركة وعدة شخصيات مهمة ان يبحثوا عن أفراد عائلة سالم داود دون أن يفيده احد بأي معلومة، مر شهر على الأكثر ولا زالت نازلي تصارع الموت بحالتها الخطيرة الغير مستقرة،

ومع قرابة مرور شهرين على الوفاة واحتجاز نازلي بالمشفى وصلت سيارة هاشم اغلو امام منزل عائلة اوزدمير لأول مرة منذ وفاة ابنته سما، وقف ناظرا للأعلى نحو شرفة ابنته بحزن كبير ارهقه وكسر قلبه الذي شاخ بعدها، تقدم بخطواته للداخل مطالبا برؤية حفيدته، انصدم سراج بوجوده وحديثه عن وردته ورغبته بإزالة الشوق واخذها لحضانته كي يعوضها عن موت والديها.

يتبع ..

 ‎إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.


google-playkhamsatmostaqltradent