رواية "إنها غيوم الحياة"
بقلم أمل محمد الكاشف
انتهى الحفل باختفاء العريس بحثت نازلي عنه بعينيها ولم تجده، استرق سراج النظر نحو العروس متعجبا من شدة خجلها وخفض نظرها وصمتها التام، تقدمت المربية لتأخذ الطفلة النائمة من حضنها فترددت باعطائها لها دون كلام، تحدث سراج اخيرا ليخرج صوته
"اتركيها معها حتى يعود اخي"
أومأت المربية رأسها
"أمرك سراج بيه"
رفعت حياة نظرها عليه لكي تشكره بخجلها منتظرة أن يقترب قليلا ليحدثها كالسابق، وأمام هذا المشهد خرجت نازلي لتبحث عن أركان في ارجاء المنزل متصلة بهاتفه "اين اختفيت"، حركت العروس آيلا لتريح استناد رأسها الصغيرة على ذراعها بدلا من كتفها شاردة بدوامة شعرها وجمال براءتها، ودون النظر لها تحدث من جديد
"من الأفضل تنويمها بفراشها كي ترتاح" ثم نظر للفراغ حوله بضيق أكمل به
"كما يمكنكِ الذهاب لغرفتك"
زاغت عينيها يمينا ويسارا بتوتر وارتباك آلم قلبه فلو حالفه حظه ليصيبه بهذه الليلة ما كانت ستبقى بهذه الحالة وما كان عجز هو عن تهدئة قلبها الخائف، استعجب من خلو محيطها من عريسها وأمه على خلاف المتعارف عليه، تقدم بقلبه المجروح ولسانه الصارخ بعلامة استفهام كثيرة ليأخذ الطفلة من حضنها "هيا"، وبمجرد اقترابه شعر بانتفاضة قلبه التي أشبهت صاعق كهربائي كلما اقترب منها ازداد قوته، أخذ الطفلة من حضنها مبتعدا عنها ليهدأ ألمه، زادت عليه حين حدثته بصوتها المنخفض
"شكرا لك ولكني لا أعلم مكان غرفته...."
رفع نظره بعينيها
"غرفته؟" ابتلع احتقان ريقه مكملا "تعالي معي لاشير لكِ صوب غرفتك"
لم تتحرك خلفه، ليستدير وينظر نحو عينيها التي ملأت بالغيوم قائلا
"أم أنكِ تريدين انتظاره"
كادت ان تبكي بجسدها المرتجف وعينيها المستنجدة به، لمست بصوته ما تلمسه دوما من دعم ومساندة عبر الراديو، لم تجد نفسها إلا ولسان حالها يقول
"لم أكن أعلم أنني عشقت الحزن والوحدة والتعثر بحفرة تلو الاخرى لدرجة أنني أصبحت أتمنى دوام عيشها عن عيش حياة لا أعرفها"
تجمعت الغيوم بعينيها أكثر، اقترب متحدثا بلهفة
"كان عليكِ أن تختاري بحكمة وتأني قبل تغير ما أعتدتي عليه كي لا تندمين على رسم أحلام لا تناسبك"
اخفضت عينيها
"لا تتشابه الأرواح، ما يناسبك لا يناسب غيرك، وما تظنه أجمل أيامك قد يكون الأسوأ لدى الاخر، وما يتاح لك من خيارات قد لا يتاح لغيرك، تخوض طريق ليس له قبلة، ليس من حقك أن تختار بين القوة والضعف، المحاربة والاستسلام، الأسود والأبيض"
نزلت دمعة من عينيها حرقت قلبه وجعلته يقترب أكثر متسائلا
"كيف ضعيفة، مسيرة، مستسلمة، بطريق مفقود بوصلته، أنتِ....."
قاطع حديثهما وصول أركان للمكان وهو يقول بصوت مرتفع
"أعتذر لاختفائي الإجباري، حدث أمر طارئ بالعمل جعلني اخرج بشكل سريع واضطراري"
اغمض سراج عينيه متراجع للخلف دون أن يستدير نحو أخيه متحرك صوب الباب، تحدث أركان من جديد
" انتظر أين ستأخذها"
تحرك ليحمل ابنته بوجهه الفرح
"ليبقى علينا الليلة، أريد تعريف عروستي على مملكة صغيرتنا دعنا نقول ابنتك ما رأيك يا حياتي"
وقع صدى الكلمة بقوة على قلبها المنتهك وهي تنظر لذراع زوجها الذي رفع نحوها كي تشبك يدها المرتجفة بها ليتحركا سوياً جنبا إلى جنب، حدثها أركان بصوت مبتهج وهو يسير بالممر يعرفها على منزله مشيراً لغرفة ابنته المقابلة لجناحهم الخاص، اخذ سراج نفس عميق زاد من لهيب قلبه وهو يكرر كلماتها الغريبة، تذكر نظراتها الثابتة على ذراع أخيها، كما تذكر خوفها وارتجافها وهي تشبك ذراعها وتتحرك بجانبه بعيون مخفضة تخشى فضح غيومها بها، عادت يارا لمنزلها وهي تبكي بنار قلبها واقترابه منها وتهوينه عليها بكلماته
"أنتِ من أحببته وتمنيته لاعيش معه حياتي"
بكت ملقية بنفسها على الفراش وهي تتذكر نفسها بحضنه رافضة عودته لعروسته لولا سماعهم لصوت أمه واختبائها حتى ابتعدا، بدلت نازلي ملابسها بغضب وضيق مستلقية على فراشها
"فقدت عقلك، سيطر العماء على عينيك ليختلط الأبيض بالاسود، الصواب بالخطأ، ستندم بل سنندم جميعاً"
رن هاتفها لتفتحه مستمعة
"سيدتي تم الأمر كما أمرتي"
اومات راسها بنظراتها المخيفة
"هل خرج صادق"
رد المتصل
"أركان بيه رفض خروجه قائلا لنتركه عدة أشهر"
زاد ضيقها
"وهل سترحل عائلته بدونه"
تحدث المتصل بثقة كبير
"نعم امهلناهم عدة ساعات حتى يرتبوا أمورهم ويرحلوا دون رجعة، ان لم يفعلها سنرتب له رحيل يليق بعقاب من يخالف أوامر سيادتكم"
ردت نازلي سريعاً
"لا تنفذ بحقهم أي أمر قبل الرجوع الي، أياً كان صاحب هذا الأمر ستعود الي أولا"
اغلقت الهاتف وهي تتذكر فرحة حمدية بازدراء
"أسال نفسي حتى الان كيف تزوج بكِ"
اصطحب عروسته لجناحه بعد اطمئنانهم على صغيرتهم، وأعجاب حياة بغرفتها المزينة بالنجوم المحيطة بالقمر الكبير، وبمجرد وقوفهم بمنتصف جناحهم الخاص رفع يدها ليقبلها
"هيا ابدلي ملابسك"
وأشار لها نحو الخزانة
"ستجدين بداخلها ما تريدين وأكثر"
اومأت راسها دون أن تخرج صوت، تحرك ليخلع جاكيته ومن بعدها أزرار قميصه والحزام، استدار نحوها وكأنه تفاجأ بوجودها فللحظة قام بما يقوم به يوميا دون تفكير، اخذ بيجامته وتحرك نحو الحمام
" ساتدبر نفسي به حتى تنتهي أنتِ، لا تتأخري عليّ"
تحركت مسرعة نحو الخزانة بعيون تتنقل على الملابس المعلقة بداخلها
"كيف سأرتديهم"
ظلت تقلب بهم وهي رافضة ان تظهر بهذا الحال أمامه وكأنه ليس بزوجها ولا ليلة زفافهم.
طرق الباب
"هل انتهيتِ"
ارتجف جسدها وازدادت توتر وخجل ليخرج بوجهه المبتسم
"هل تحيرتي من جمالهم، انتِ محقة فجميعهم تم اختيارهم بعناية كبيرة"
اقترب منها دون أن تستهويه فكان شعوره بضيق نفسه وقلة جهده الكبير يقوده للنوم أكثر من أي شيء آخر ، مال عليها ليقبلها انقبض قلبها مما جعلها تبتعد عنه.
ليبتسم غامزا لها
"حسناً اعلم أننا غير معتادون على بعضنا البعض ولهذا إن اتفقنا يمكنني انتظار ذهاب خوفك وتوترك، بمعنى إنكِ لستِ مجبرة لبدء علاقة فورية بمجرد عقد زواجنا، لنعطي لأنفسنا وقتا كافيا للتعرف والاعتياد"
رفع يدها وقبلها "ليلة سعيدة لكِ"
وتحرك لينام على فراشه فور استلقائه وكأنه رجل مسن ارهقه يومه حتى التقى براحته وخلوده، وقفت بمكانها ما يزيد عن نصف ساعة تأكدت بها من نومه وأخذت بيجامة بلون البنفسج الفاتح و أسرعت بخطواتها المرتفعة عن الأرض لتدخل الحمام
بالاسفل حيث صومعته المطابقة لجناحهم خرج سراج بشرفته ناظرا للأعلى بقلبه المحترق من شعاع النور المضيء بها، ظلت كلماتها تراوده وعيونها الملبدة بالغيوم تضغط عليه حتى تمزق فؤاده، خرجت من الحمام مقتربة من نافذة الغرفة مغلقة ستائرها دون ان تعلم انها تغلق صدره أمام أنفاسه المختنقة، لم يراها بعين بصيرته بل كان يراهم بعين خياله الذي دمره، دخل غرفته يعاتب على نفسه حزنه على فتاة لم يصارحها بحبه بل ولم تشعر به، عاتب نفسه على خوض أحلام كثيرة من طرف واحد، عاد ليدافع عن قلبه مهوناً عليه ما هو به
"كنت أخشى أن أكون أنا والغيوم عبىء عليها، أردت أن اشفي جروحها وأزيل غيومها حتى تشرق شمسها وتنير الحياة بعينيها لترى قلبي وحبي وروحي المتعلقة بها، حينها فقط كنت ساستطيع ان افصح واطلب"
اغمض عينيه
"أخطأت لا تدافع عن نفسك، أنت تدفع ثمن خطأك، هو من أفصح وأسرع وفاز، هو من خطى خطواته الجادة تجاهها"
جلست حياة على مقعد مستطيل موضوع بعرض الفراش وأخذت تنظر لغرفتها الجديدة كي تتعرف عليها، خرج صوت من أركان أفزعها نظرت نحوه لتجده يصارع نومه العميق بانفاسه العالية وكأنه يأكل النوم بشراهة جائع منذ شهور، ورغم شعورها بضيق أنفاسها وارتجاف جسدها تحركت لتنام بجواره وعينيها تحاول الاعتياد على وجوده بجانبها، نامت على حالتها دون أن تطفئ الضوء الذي ظل يحرق بقلب شعاع القمر المطلع على غرفتهم بخياله الذي نسج له الأحلام الحزينة.
كان حزنه مختلف هذه المرة رغم تأكده من عدم شعورها بأي مشاعر خاصة تجاهه إلا إنه تأثر بزواجها من أخيه بشكل كبير، من المفترض أن يعاتب أخيه وأمه على تكرار فعلتهم الأولى سما والثانية حياة، ولكن من الواضح حب سما وما خسرت به حياتها كان من طرفها وحدها، أما هو فكان بالنسبة له إعجاب لحظي هوائي بلحظات شبابية عابرة، خلاف ما يشعر به الآن.
وبعد مرور ساعات استيقظ أركان على صوت رسائل عديدة فتح نصف عين لينظر لأهمية الرسالة من عدمها ليجدهم جميعا من يارا التي طالبته بالقدوم إليها كما وعدها ان يوقظها ويفطر معها، أغلق هاتفه ونظر بجانبه ليجدها نائمة وهي منكمشة في نفسها، عاد لينظر للساعة متفاجأ انها لم تتعدى الخامسة والنصف فجراً، اخذ هاتفه وخرج بهدوء من الجناح كله متوجها لغرفة ابنته ليتصل بيارا
"هل رأيتيني بأحلامك"
حولت المكالمة لاتصال بفيديو ليتفاجأ هو بعينيها المنتفخة من البكاء والحزن عليه
اسرع بحديثه
"ما بها عيونك ألم اوصيكِ عليهما"
رفعت كتفها بجوار رأسها وهي تتدلل بحزنها محاولة سلب عقله وقلبه بحركاتها وملابسها التي توقعت ارتداء عروسته مثلها، تحدث أركان وهو ينقل نظراته على جمالها مهوناً عليها حزنها، طلبت منه المجيء نظر لابنته
"لا يمكن من أول يوم ننتظر الفطور الجماعي انتِ تعلمين أمي وأخي وابنتي، أعني لو استطعت أن أهرب منها سيصطدم الاخرين ويكثرون أحاديثهم"
تجمعت الدموع بعينيها ماطة فامها لتحدثه بدلال
"تتهرب مني بعد أن نسيتني بنومها بحضنك"
أراد أن يرضيها ليتحدث بما لا يعيه عقله
"لم أستطع فعلها أخبرتك أنني لكِ ولكنكِ من رفض عرضي، لتكن هي مع ابنتي ولتكوني أنتِ لي، نعقد لدى شيخ واكتب لكِ أملاك تضمنلكِ حقيقة مشاعري"
صمتت ليزيد من إغداق حبه عليها ليغرقها ببحوره كي لا يخسر شخص لائق حيوي مرح محب ذكي عملي مهتم مثلها، وافقت هذه المرة متحججة بغيرتها وعدم استطاعتها تخيله مع أحد غيرها كليلة أمس، ضحك أركان مقسم لها فراغ ليلته مما تقوله بعد أن أسرته بقلبها وأصبح لا يرى سواها.
ابتسمت بانتصار فهي تتأكد من حدوث هذا بعد عصيره الذي لم تتركه حتى أكمله، ظل أركان يستمتع بالمحادثة التي لم تكن بريئة من يراهما يعتقد أنهما مراهقان بعقول خاوية غاب رقيبهم ليخطئوا دون فهم لما يقعوا به.
جمعت حمدية حقائبها بيديها المرتجفة من خوفها وتهديد الرجل لهم، دخل مصطفى عليها
"هل انهيتي جمع الأغراض"
ردت حمدية
"ماذا سنفعل بصادق"
صرخ مجدداً
"أمي ألم تسأمي من تكرار نفس الأحاديث، نخرج من المدينة أحياء أولا ومن ثم سنتواصل مع أركان بيه ليخرجه، هيا أمامك عدة دقائق سأضع الحقائب بالسيارة حتى تخرجين أنتِ"
بكت الام على ضياع أبنائها، تذكرت بحزن وضع الرجل المخيف والسيارات التي تجمعت حولهم فور تخلصهم من الشاحنات الكبيرة التي كادت ان تودي بحياتهم للموت، آلمها قلبها على ابنتها عندما تذكرت الأسلحة التي وضعت على رقابهم وهم يسمعون تهديدهم بالقتل ان اقتربوا من المدينة مجدداً، بكت الأم من قلبها الذي كاد ان يموت من جحودها وجفائها وتجبرها بحبها للمال والدنيا "بأي أرض سقطتي يا حياة، بأي يد سقطتي يا ابنتي"
اغمضت عينيها لتتذكر أمس حين أقتربت لتودع ابنتها، مدت يدها
"سنذهب نحن أضعك أمانة لدى الله"
نظرت حياة نحوها بصمت وعتاب وخزي كبير، تحدثت حمدية لها
"الآن اطمئن قلبي عليكِ انظري للمنزل الذي ستعيشين به، ولزوجك الذي تتمناه كل فتاة"
دارت بنظرها باحثة عن أركان فلم تجده، أقتربت من ابنتها
"أين ذهب زوجك"
لم ترد على أمها ولم تحرك نظرات العتاب من عليها وكأنها تعيش مراسم نهايتها وليس زواجها.
مسحت حمدية عينيها وهي تتذكر حفيدتها التي لم تتقبلها فكلما أقتربت منها بكت وصرخت لعائلتها ان يخلصوها منها، نادى مصطفى على امه بصوت أعلى جعلها تسرع ملبية لندائه تاركة خلفها ظرف ورقي ظل فوق الفراش وحيدا.
استيقظت العروس لتجد نفسها بمفردها في الغرفة، نظرت نحو الحمام لتجد بابه مفتوح أسرعت تبدل ملابسها قبل عودة زوجها مرتدية طقم كامل واضعة الحجاب على رأسها بعده، انتاب نازلي الفضول حيال العروسين تحركت جهة غرفة حفيدتها لعلها تستطيع سماع أو رؤية شيء لتكن الصدمة من نصيبها حين رأت ابنها نائم على المقعد والهاتف بيده، دخلت بسرعة مغلقة الباب خلفها وهي تنظر لآيلا النائمة مقتربة منه تحرك كتفه لتوقظه دون صوت، استقام على المقعد متثائب بنعاسه
"لا أعرف ما بي و كأني لم أنم دهرا كاملا"
تحدثت أمه بيضق
"نعم أرى ذلك جيدا، ولكن ما دمت أرهقت بليلتك لهذه الدرجة كان من الأولى أن تنام بغرفتك وليس هنا، من يراك يعتقد انك هربت من العروس، هل تريد فضحنا امام الخدم"
وقف أركان وهو ينظر لهاتفه بسعادة
"لا تقلقي لا يوجد فضائح كل ما بالأمر نتسلى ونستمتع بشبابنا"
تركها ليخرج ذاهبا لغرفته ملقي بنفسه على الفراش ليكمل أحلامه السعيدة مع يارا، استغربت حياة من رؤيتها له عند خروجها من الحمام تحركت وجلست على مقعد مجاور من الشرفة ناظرة نحوه وهو يبتسم ويتحرك بنومه بطريقة غريبة عليها.
وبعد وقت طال قليلا خرجت للشرفة وقفت بمنتصفها مستكشفة المكان من حولها، لمحت شرفة كبيرة بالطابق الأول نظرت لمقعد على هيئة أرجوحة وللازهار والقبة الخشبية التي تعلوها متذكرة صورتها و وصفه لها في عدة حلقات من برنامجها الإذاعي، ابتسم وجهها وتحركت مقتربة من السور الايمن لكي تراها بشكل أوضح معجبة بأركانها الخشبية والأشجار المعلقة على جانبيها وجمال تصميمها الدافئ من الداخل بفرحة السبق الذي تمنت رؤيته والجلوس به سابقا.
رفعت هاتفها لتصورها ولكنها خجلت انزلته وهي تستمع لصوت بابها يفتح، خطت خطوات ترى بها من أتى لغرفتهم لتجدها الصغيرة، ابتهج وجه حياة وفتحت ذراعيها للطفلة كي تسرع وتلقي بنفسها داخلها ككل مرة، ثبتت عيون آيلا على الشرفة بخوف وثبات أقتربت حياة لتحملها وتذهب بها للشرفة من جديد وهي تحدثها، وبمجرد دخولها اول خطوات داخل الشرفة تفاجأت بآيلا تصرخ وتغلق عينيها متمسكة بها بخوف كبير وكأنها ستتركها أو ستسقطها، ضمتها
"ما بكِ لماذا تصرخين أنتِ معي"
أقتربت من السور محاولة تهدئتها وهي تريها الشمس والسماء متفاجئة باختناق آيلا واحمرار وجهها وقطع أنفاسها لتهتز بين يديها.
أسرعت بها نحو ابيها من شدة خوفها أصبحت تهزه بقوة لتوقظه
"قطعت أنفاسها، قم انهض بسرعة"
فزع أركان وفز من فراشه أخذ ابنته بحضنه ليحدثها وهو يحثها على اخراج أنفاسها، صرخ بحياة صرخة ارعشت جسدها وهو يأمرها بإغلاق الشرفة والستائر بسرعة، ركض بطفلته نحو غرفتها جالسا على المقعد المجاور لفراشها الصغير
"نحن بأمان لم يحدث لكِ شيء أنتِ بخير لا تقلقي"
التقطت حياة أنفاسها بعد أن اطمئنت على الطفلة التي بدأت تتحسن شيء فشيء
"كنت أريد أن أريها الشمس"
عاد ليصرخ بوجهها
"لا تريها شيء من بعد الان"
تحدثت بخوفها "ولماذا؟، هل تخاف من الشمس أم الشرفة"
وصل سراج للغرفة وعينيه تترقب حالتهم المحتقنة، اقترب من الطفلة بقلق مستمع للعروس وهي تحدثه بخوف
"صرخت واحمر وجهها حتى قطعت أنفاسها"
اقترب اكثر ليطمئن عليها بحضن ابيها قائلا
"من المؤكد أنها خرجت للشرفة"
غضب أركان وعلا صوته على زوجته مرة أخرى، لم يتوقع سراج انه سيكون شاهد على بكائها ودفاعها عن نفسها في صباحية زفافها، تدخل سريعا "لا تعتذري على ذنب ليس بذنبك وايضا من أين لكِ معرفة قصة سقوطها من الشرفة والرهاب الذي يأتيها كلما رأتها او اقتربت منها"
صدمت يدها على صدرها بعينيها المذعورة وقلبها النابض بغصته
"كيف سقطت منها؟"
لم يستمع لصوتها المنخفض، نظر لأخيه
"ما بك اهدء ها هي أصبحت بخير"
انفصل أركان عنهم وهو يحدث ابنته ويهدئ منها ماسحا على جبهتها مقبلا رأسها ويدها حتى هدأت وارتخت، وصلت نازلي للغرفة بقوتها المعهودة متسائلة عن حالة وجوههم، حدثتها حياة بصوتها المتقطع من الحزن والخوف "كان خطئي لم أكن أعلم خوفها من الشرفات"
صُدم سراج بصراخ أمه وتوبيخها على استهتارها بحياة الطفلة، لم ينتظر منهما ما يفعلانه وهما مذنبين فمن أين لها أن تعلم بأمر ذعرها دون أن يخبرها أحد.
تحدث أركان دون النظر لاحد
"من فضلكم اتركونا بمفردنا كي تنام وتهدئ"
تحركت نازلي
"اقترب موعد وصول المربية سأرسلها لك فور مجيئها" وخرجت ليخرج من خلفها سراج دون كلام، استوقفه بجانب الباب سماعه لأخيه
"اذهبي انتِ أيضا لغرفتك اريد البقاء مع ابنتي بمفردنا"
اومأت رأسها "كما تريد، بالاصل لا داعي لبقائي بما أنك تضع الذنب علي حتى الآن" وتحركت لتخرج رفعت نظرها على من كان يستمع إليهم بالخارج، وعند رؤيته لأخيه بجانب الباب غير حديثه
"بل لا داعي لذهابك للغرفة اقتربي ونامي بجوارها على الفراش كي تهدئي قلبها، وانا سأذهب لأخذ حمام دافئ وأبدل ملابسي"
نظرت هي ومن في خلفها نحو من وضع ابنته على الفراش مقتربا بوجهه المبتسم ليقبلها من وجنتها
"صباح مبارك لنا، كنت أتمنى أن يكون صباحنا بجمال ليلتنا ولكني لم أستطع تملك اعصابي من خوفي عليها اعتذر منكِ، سراج محق ليس بذنبك"
غرقت بخجلها وشدة استحيائها مما قيل أمام سراج عوضا عن كونه غير حقيقي بعد أن قضت ليلة اشبهت لياليها السابقة، اكمل سراج سيره نحو أمه ليعاتبها على حديثها مع العروس، تمالكت نازلي اعصابها واعطته الحق فيما يقوله وأخذته من يده لتجلسه بجانبها وهي تسأله عن عمله بالصحيفة الجديدة وهل وجد بها ما كان يحلم به أم يريد أن تتدخل وتتوسط له لدى افضل الصحف المحلية، رفض سراج تدخل أحد بعمله مصرا على نجاحه بجهده وقدراته لا اسم عائلته، استرسلت نازلي بحديثها عن الشركة ومشاريعهم الجديدة بها، وحاجتهم لسيولة كبيرة لأجل تيسرها عليهم.
تفاجآت برفضه ببيع اصوله الثابتة لأجل تكبير الشركة
"يكفي بهذا القدر لا داعي للسعي دون جدوى، ما لدينا يكفينا نحن وابنائنا بالمستقبل، على الإنسان أن يسعى لراحته والسعادة بحياته فما أهمية كسب الأموال دون إيجاد أوقات للتمتع بها"
عادت للتحدث عن أهمية المحافظة على قوة الشركة واسمها بالسوق وان علوها دليل على استمرارها والحفاظ عليها ممن يتربصون بها، أصر على عدم بيع أملاكه وخاصة الأقرب لقلبه
قائلا "أعطيت الشركة أكثر مما أعطيتني"
ردت نازلي عليه
"الشركة وكل ما بها ملك لك انت واخيك تعلم أنني تركتها لكم منذ القدم"
لم تستطع اقناعة وخاصة المنتجع السياحي المميز التي وضعت عينيها عليها، تحرك فور سماعه اقترب صوت أخيه
"تأخرت على عملي"
ردت أمه
"انتظر لتفطر معنا أولا"
رفض متحججاً بعمله وتحرك بسرعة نحو الخارج دون أن ينظر نحو من تعالت ضحكاته بمجرد رؤيته.
تجمعوا على مائدة الفطور ليبدأ أركان احاديثة وضحكه حتى صدم أمه باطعامه لزوجته وتقبيله ليدها، راقبت حالة ابنها وخجل عروسته وهي تفكر بكيفية اقناع سراج بالتنازل عن المنتجع.
خرج أركان هو أيضا متحجج بعمل مهم، حدقت أمه بالنظر له
"أي عمل هذا، انت عريس لا يمكنك الخروج اليوم ان كان ضروري سأنزل أنا بدلا عنك"
ابتسم أركان بوجه حياة قائلا لأمه "لا تقلقي اعلم أنني عريس جيد"
ثم وجه حديثه لزوجته "أليس كذلك"
خجلت أكثر متوترة بحالاته الغريبة.
تحركت نازلي
"وأنا أيضا سآتي معك"
و بابتسامته وهدوئه المفتعل رد على أمه
"وهل سنترك العروس وحدها، ابقي أنتِ وانا سأذهب وأعود سريعا كي لا تبقى وحدها من اول يوم"
لم يعطيها فرصة للرد تركها خلفه تتأجج من غضبها وضيقها، نظرت لحياة قائلة بصوت غاضب
"اذهبي انتِ لغرفتك كي ترتاحي"
وبدون ان تجيبها تحركت وهي تجر حسرتها وضيقها واقدارها الثقيلة على صدرها متجة لغرفتها لتدخلها ناظرة لأرجائها للتعرف عليها أكثر أو للشعور بها فهي كالتائهة بحياة غير حياتها، كأسيرة حرب تم تقييدها وارغامها بحياة غريبة عنها، تمددت على فراشها بأضعف لحظات مرت عليها من يراها يعلم قدر ما عايشت فهي الان نتاج كسر وقهر وضغط وظلم اوصلها لحالة صمت واستسلام وضعف مميت، لا طاقة لديها الصراخ أو الممانعة او الرفض او الدفاع عن نفسها وحقها، لا زالت لا تصدق كيف تزوجت بهذه السرعة وانتقلت لمنزل رجل لا تعرفه، استغربت من حالة أخيها المسالم وأمها الفرحة لتزداد ضيقا وحزنا فشعورها أنها لا شيء بالنسبة لهم آلمها كثيرا، مر الوقت باهتمام حياة بايلا محاولة إخراجها من حالة الخوف والقلق التي رأتها عليها، كما مر على نازلي بزيادة ضيقها وغضبها على ابنها الذي ذهب لمنزل يارا بصباح ليلة زفافه
"غبية كيف تركتيه ليخرج بدونك، توقعتك أقوى واذكى من ذلك ولكن من الواضح تربية حمدية لكِ أفسدت بذرة جدك"
تحركت بغرفتها وهي تحدث أخيها بصوت مسموع
"ها هي أصبحت لدي وصادق بالحجز عدة أشهر وأخرجه بعدها على مكان بعيد عن الجميع ليبدأ حياته من جديد دون أذى وبذلك اكون قد اوفيت وعدي لك أولادك بخير، فليحترق مصطفى وأمه البغيضة"
تذكرت رعاية أخيها و دفاعه ومساندته الدائمة منذ أن تيتمت من والديها بعمر صغير، تأثرت بذكريات عادت بها لسنوات كثيرة للخلف حيث كانت بالخامسة عشر من عمرها أخذها لابيه داود الكبير الحكيم
"مات والديها وبقيت وحدها بوجه الضباع"
تحدث داود
"نعم علمت والضباع ينتظرون تخليص ثأرهم منها"
رد على أبيه
"وما ذنبها، لا زالت صغيرة، فلنتولى حمايتها فلتبقى واحدة منا، لعلها تفيدنا بالكبر"
إجابه داود "وماذا سنفعل بالآخرين"
نظر لصغر حجمها وخوفها وهو يجيب على ابيها
"يكفيك ان تعلن عن تبنيك أمرها كي لا يقترب أحد منها، أعلن عن حمايتنا لها، أنظر إليها كم صغيرة دون أحد"
تحدث داود
" فلنسميها زينب من بعد الآن زينب داود"
اختنقت نازلي قائلة
"أنت من أخطأ بزواجك من هذه الحمقاء، سلمت رقبتك لانسانة لا مبادئ لها ولا عقل"
وضعت يدها على رأسها متذكرة وصية أخيها لها بآخر مكالمة هاتفية بينهم يوصيها على أبنائه الثلاثة
"مصطفى قبل الآخرين ستحافظين عليهم كما حافظت عليكِ"
تحركت تجاه فراشها
"مصطفى الذي تخاف عليه هو من باع أخته، هو من خان الأمانة"
اغمضت عينيها لتتذكر حماية أخيها رغم كل ما فعلته من ورائه، سمعت صوته بإذنها "هي أمانة بعنقك"
وقفت من جديد
"لم اخن امانتك، لم اسطتع الفوز بقلبك بقيت دوما زينب الصغيرة بعينيك، اردتها من صلبك، مرؤتك، قلبك الكبير، هي أقرب قلب لك ولجدها، اخترت حفيدتي من صلبك كي احظى بحلم كان يمكنه أن يغنيني عن كل ما انا فيه، كما أردت أن يتنعموا بالخير، فعلتها لأجلها"
كانت تحدث ضميرها وتكذب عليه في نفس الوقت بل تخدعه بما تخدع نفسها به، فكيف بعد أن حافظ عليها وحماها تأتي هي لتطعن ابنته في ظهرها بحجة انتشالهم من الفقر وإرادتها بحفيد من صلب تعلم أصله.
خرجت هاربة من الذكريات لتتصل بابنها
"عليك أن تتحمل نتيجة اختيارك، لن اسمح لك بخيانتها، ألم تفكر باسم العائلة، ألم تفكر بابنتك، متى ستعقل وتفكر بقدر مسؤولياتك، جاء الوقت لتبني عائلة كبيرة قوية ترث ما تحارب لأجل صموده"
قبل أن تدخل غرفة حفيدتها وقفت خلف الباب الغير مغلق لتراها تحكي لصغيرتهم قصة.
دخلت عليهم بوجه يتظاهر الفرح، استقامت حياة بجلستها وهي تستمع
"ما الأخبار هل صغيرتنا وعروستنا بخير"
اومات راسها بابتسامة صغيرة
"نعم بخير شكرا لكِ"
ذهبت ابتسامتها حين سمعت إجابة نازلي
"ولماذا لم أرى هذا الخير إذا"
خرجت عن صمتها متسائلة
"وما الخير الذي علي إظهاره لتريه بعينك"
رفعت حاجبها بإيماء راسها
"هل خرج صوت القطة الصغيرة وأنا لا علم لي، هل خشنت حوافرها ام ننتظر هذه المرحلة بالايام المقبلة"
تحركت خطوتين
"انتظري لا تجيبي، لتتعرفي علي أولا ومن بعدها أجيبي"
نظرت حولها مكملة
"والان أتركِ آيلا بمكانها وتعالي معي"
سألت حياة "هل سنتركها وحدها"
ضحكت بازدراء
"حفيدتي قوية لا تخاف من البقاء وحدها"
اجلست آيلا مكانها وتحركت خلف نازلي وعيونها على الصغيرة الصامتة، وجدت نفسها تدخل جناحهم من خلفها لتفتح أمامها أبواب الخزانة تعرفها على ما بداخلها قطعة تلي القطعة متحدثة بتعالي ما الذي يجب ارتدائه لعروس وما يليق بوضعها الجديد، لم يكن شرح ودي ووسط هادئ بل كان محفوف بنظرات ونبرات استهزائية مزدرئة، حزنت حياة وأصبحت ترد عليها ،اعلم، شكرا لكِ، أنا سارتدي ما يليق بي وليس ما يليق بغيري، لا تتعبي نفسك، كانت كلماتها قوية وقصيرة لترفض بها تحكم نازلي وحدتها بل ونظراتها عليها.
مر اليوم الأول وجاء الثاني لتتحدث حياة مع زوجها قبل نومه لتذكره بأمر البحث عن طفلتها، مثل عليها اهتمامه واخبرها انه سيجري اتصالاته غدا صباحا ليهديها ما يرضيها عنه، قبل وجنتها وذهب لفراشه كي ينام بشكل غريب كأول يوم، مضت عدة أيام على نفس الوتيرة يأتي زوجها للنوم ويخرج مسرعا بالصباح واضعا ابنته امانة لديها، لا يخلو الوقت من الموجات السلبية بينها وبين نازلي التي تريدها كسما ويارا وماشابهم، انتظرت حياة عودة زوجها مبكرا ليتحدث معها باهتمام عريس بأول ايام زفافه ولكنه ظل على حالته مزيدا عليها كلماته وغزله وتقربه منها امام عائلته فقط، ورغم استغرابها الا انها كانت تفضل حالتهم وعدم اضطرارها بفعل ما يضغط على صدرها مجرد التفكير به، تحركت لتمشط شعرها ناظرة نحو زجاجات العطر الخاص به بفضول جذبها لهم لتفتح واحدة تلو الأخرى لتشتم روائحهم المختلفة حتى وصلت للاخر قربتها من انفها أكثر مغمضة عينيها لتتذكر اشياء غريبة العطر ليس بجديد عليها، لا زالت آثار رائحته بأنفها من يومها فهو مميز وغير مكرر فبمشوار عملها ودراستها الجامعية لسنوات وأيام كثر الا انها لم تصادف رائحة شبيهة لها، فتحت هاتفها كي تكتب اسمها منبهرة بخصوصية العطر وندرة انتشاره لارتفاع سعره، قربته لانفها أكثر ليهتز قلبها وهي تستمع لصوته الضعيف، تعرقت مرتجفة بجسدها واضعة يدها على صدرها لتهدئ ضيق صدرها، هربت من الغرفة لتقودها خطواتها نحو غرفة الصغيرة.
دخلت وهي تكاد ان تبكي دون سبب جاد حملت الطفلة النائمة واحتضنتها بقوة داخلها محاولة ان تهدئ ضيق صدرها، حركت ايلا يدها على ظهر زوجة ابيها لتحنو عليها وهي غارقه بنومها، بكت حياة من اختناقها وذكريات تقلصات بطنها وعقد زواجها على يد شيخ، لطخت ارنبة انفها بالعطر ليزيد ويضغط عليها رائحته كلما تنفست، وبحر غير مقصودة غيرت حياة من وضع الطفلة لتضع رأسها على صدرها بدلا من كتفها، حركت آيلا رأسها لترعد قلب امها وتألم صدرها الذي ارعد بصواعقه الكهربائية ليذكرها بألمها وابنتها، بكت دافنة راسها بحضن ايلا مقبلة يدها وبطنها ورأسها وكل ما يأتي أمامها محاولة إخماد النار المشتعلة داخله.
دخل سراج الغرفة متفاجأ ببكائها اقترب على حذر ليسألها ما بها، ازداد بكائها
"لم أعد أتحمل هذا العبئ، قلبي يؤلمني، عقلي يغلبني، كلما أردت أن اخرج من اسفله يعود ويطرحني أرضا، حاولت أن أفعل كما تقول لنا، استمروا بالحياة جاهدوا ثابروا أثبتوا انفسكم انجحوا اصنعوا معجزتكم بايديكم ولكني لم أستطع، ليس الفعل كالكلام، اصبحت حطام، يأتي علي اوقات احرك يدي بصعوبة من قلة جهدي، انتهيت تحت ألامي واحلامي، لم أعد اتحمل اشعر بضيق يسحب روحي وكأني سأموت، لا اخاف الموت تمنيته كثيرا ولكنه لم يأتي، ماذا أفعل ليأتي أخبرني ماذا أفعل لينتهي عذابي وألمي"
ضمت ايلا بحضنها اكثر باكية داخل جسدها الصغيرة بانهيار ما تشعر به، فالقلب وجد ضالته ويحاول أخبارها.
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.