رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
"الوفاء يزيل الحواجز، والبصيرة تجمع القلوب."
في قلب قصر الملك ثورين حيث تلتقي الفخامة بالغموض، كانت الغرف تضج بصمت مشحون يقطعه أحياناً همس الخدم أو وقع خطواتهم المتوجسة وهم يمرون بجانب جناح يونس.
في الداخل، كان يونس ممدداً على سرير ضخم مزخرف بالنقوش الذهبية، لكنه بدا شاحباً كأنما تحيط به ظلال الموت.
كانت الغرفة مضاءة بأضواء خافتة من شموع معلقة في زواياها، تنبعث منها رائحة الأعشاب المحترقة التي استخدمها الحكيم نزار في محاولاته اليائسة لخفض حرارة يونس. وقف نزار بجانب السرير يحمل وعاءً من الماء المثلج يغمس فيه قطعة قماش، يضعها على جبين يونس الملتهب. لكن كل محاولاته لم تُجدِ نفعاً؛ الحمى تتصاعد. وجسده يُقاوم، وكأن هناك قوة خفية تأسره في عالم آخر.
في تلك اللحظة. فُتح باب الغرفة بهدوء لتدخل الأميرة ليانا. كانت ترتدي ثوباً بسيطاً بعيداً عن زينتها الملكية المعتادة. بدت متوترة عيناها تمتلئان بقلق لم تستطع إخفاءه. تقدمت بخطوات حذرة وكأنها تخشى أن يزيد حضورها من معاناته.
سألت بصوت منخفض:
"كيف حاله؟"
لكنها لم تنتظر إجابة. عيناها كانتا مثبتتين على وجه يونس الذي بدا وكأنه غارق في كابوس لا نهاية له. يئن بصوت خافت. كأنه ينادي شخصاً ما، لكن الكلمات كانت غير واضحة أشبه بأصداء بعيدة.
رد الحكيم نزار وهو يضع القماشة المبللة جانباً:
"حالته لا تبشر بالخير يا أميرة. الحمى تعصف بجسده وكأنها نار مشتعلة. جربت كل ما أعرفه لكن يبدو أن السبب ليس مجرد مرض جسدي. هناك شيء أعمق، شيء يتجاوز علمي."
اقتربت ليانا من السرير وجلست على الكرسي بجانبه. نظرت إلى وجهه المتعرق. إلى عينيه المغلقتين التي تحركتا بسرعة تحت جفونهما، وكأن عقله في معركة محتدمة. تذكرت سقوطه على ذراعه بعد أن انقذها،
_"هل تألم كثيراً؟"
همست بها وهي تلمس جبينه بحذر. كان جلده ساخناً كالجمر
أجابها بنبرة مليئة بالإحباط:
"أكثر مما أستطيع وصفه. لكنه لا يصرخ، فقط يئن... وكأنه يقاوم شيئاً في داخله."
ساد الصمت للحظات لم يُسمع خلالها سوى صوت أنين يونس ونيران الموقد القريبة. شعرت ليانا بثقل الذنب يتضاعف داخلها. لم تكن تعرف يونس جيداً، لكنه مؤكدا لم يكن يستحق هذا. هذا الشاب الذي أُنقذ حياتها يعاني الآن بلا سبب واضح.
مدّت يدها ببطء وأمسكت بيده. شعرت برجفة خفيفة، لكن ملامح وجهه بدت مقتبضة:
"لو كنت تسمعني، سامحني. لم أقصد إيذاءك."
لم يُجبها سوى أنينه الضعيف، لكن قلبها أخبرها أن كلماتها قد تصل إليه في مكان ما، في العالم الآخر الذي يبدو أنه غارق فيه.
---
في الخارج، كان الليل قد حل، والقصر غارق في السكون. لكن داخل الغرفة، كانت المعركة لا تزال قائمة. الحمى لم تهدأ. ونزار واصل محاولاته بشتى الطرق. بينما كان الحكيم منشغلاً ظلت ليانا جالسة بجانب يونس.
في تلك اللحظة، شعرت وكأن وجوده هنا، في هذا القصر، لم يكن محض صدفة. كان هناك حدث أكبر، يربط مصير يونس بمصيرها.
همست مرة أخرى:
"لا تستسلم يا يونس"
لكن عينيه ظلتا مغلقتين، وكأن الرد ينتظر لحظة أكثر أهمية، لحظة قد تُغير كل شيء.
بينما كانت الأميرة جالسة قرب سرير يونس، تتأمل وجهه المتعرق، لفت نظرها حركة غير طبيعية عند نافذة الغرفة. رفعت رأسها ببطء لترى بومة، وقفت بهدوء على الحافة. جناحاها مطويان وعيناها المستديرتان تحدقان مباشرة بها.
كانت البومة كبيرة الحجم بشكل غير مألوف، وريشها الداكن بدا وكأنه يتلاعب بالضوء الخافت، فتبدو كأنها جزء من الظلال المحيطة. عيناها اللامعتان تخترقان السكون، مثبتتين على الأميرة وكأنها تحمل رسالة صامتة. شعرت ليانا بقشعريرة تجتاح جسدها؛ لم يكن وجود البومة بحد ذاته مخيفاً، ولكن شيئاً في نظراتها بثَّ القلق في قلبها.
للحظات. ترددت. لم تستطع أن تفهم هل كانت مجرد طائر ضل طريقه؟ أم أن هناك ما هو أعمق؟
تراجعت قليلاً في مقعدها، وعيناها ما زالتا معلقتين بالبومة. بدأت تهمس لنفسها:
"ماذا تريد؟ ولماذا تنظر إلي بهذا الشكل؟"
لكنها لم تحصل على إجابة، سوى من رياح باردة اخترقت الغرفة من النافذة المفتوحة، جعلتها تشعر وكأن العالم قد توقف للحظة.
بصوت منخفض وخافت، همس الحكيم نزار دون أن يرفع رأسه من عمله:
"أحياناً تحمل البوم رسائل من عوالم أخرى. قد تكون هذه علامة لشئ ما."
كلماته جعلت قلبها ينبض بقوة. علامة؟ علامة على ماذا؟
نهضت بسرعة من مقعدها، لكنها لم تقترب من النافذة. بدلاً من ذلك، شعرت بغريزة تدفعها لمغادرة الغرفة. شعور غريب يثقل صدرها، كأن الهواء في المكان قد أصبح أضيق، وأن وجود البومة يهدد بكشف شيء لا تريد معرفته.
_"سأعود لاحقاً."
قالتها بصوت متردد، ثم استدارت وخرجت من الغرفة بخطوات متسارعة.
هرولت في الممر المؤدي إلى جناحها بأنفاسها متسارعة، وأفكارها تتصارع في ذهنها:
"لماذا شعرت وكأن البومة تنظر إلي وحدي؟ هل كانت تنذرني بشيء؟ أم أنها مجرد وهم من أوهامي؟"
عندما وصلت إلى جناحها، أغلقت الباب خلفها وأسندت ظهرها عليه للحظة. رفعت يدها إلى صدرها في محاولة لتهدئة خفقان قلبها، لكن صورة البومة ظلت عالقة في ذهنها. عيناها، تلك العيون التي لا تُشبه عيون الطيور العادية، بدت وكأنها تعرف أكثر مما ينبغي.
همست لنفسها وهي تتوجه إلى النافذة في غرفتها، تنظر إلى السماء المظلمة:
"لا شيء يحدث هنا مصادفة... لا شيء."
_________
تقف الأميرة منيفة في شرفتها العالية المطلة على مقرينوس، عيناها تحدقان في الأفق البعيد، حيث تلمع تلمع كأنها علامات على طريق غامض. الرياح الباردة تلعب بخصلات شعرها الداكن، لكن ذهنها كان منشغلًا بأفكار أعمق من أن تشتتها برودة الليل.
بخطوات هادئة تقدمت نحو حافة الشرفة، تنتظر عودة رفيقتها المخلصة. مرت دقائق ثقيلة قبل أن تسمع صوتًا مألوفًا يقترب. التفتت برفق لترى البومة مرام تحلق في السماء مثل ظل صامت، جناحيها العريضين يعكسان ضوء القمر.
هبطت مرام بثبات على حاملها الخشبي بجانب الأميرة، وهي تحمل في مخلبها شيئًا صغيرًا ولامعًا. نظرت منيفة إلى البومة بنظرة امتنان، ثم همست:
"أخيرًا عدتِ. ماذا وجدتِ هذه المرة؟"
رفعت البومة مخلبها بحذر، كاشفة عن خاتم نحاسي قديم بدا أنه يحمل نقشًا باهتًا. أخذت منيفة الخاتم بين يديها، عيناها تمعنان في الرموز الغامضة المنقوشة عليه. وبينما شعرت بدفعة خافتة من الطاقة تسري في أصابعها، قالت بصوت هادئ:
"هذا الخاتم. انه إرث الأميرة ليانا من والدتها. هل تعلمين يا مرام؟ أحيانًا أشعر أنك تفهمين هذا العالم أفضل مني."
أصدرت البومة صوتًا خافتًا أشبه ما يكون برد متفهم، فابتسمت الأميرة وهي تمد يدها لتداعب ريشها الناعم:
"أحسنتِ، يا مرام. ولكن يبدو أن عملنا لم ينتهِ بعد."
ثم استدارت لتلقي نظرة على الخريطة الباهتة المرسومة على قطعة من الجلد في يدها الأخرى، مشيرة إلى أرض مجهولة حيث تتواجد سرمد.
_"مرام، ماذا رأيتِ؟"
سألتها الأميرة بصوت هادئ لكنه مشحون بالفضول.
بدأت البومة تصدر صوتًا منخفضًا، وهمسها العجيب بدأ يتغلغل في عقل منيفة. أغلقت الأميرة عينيها، تاركةً نفسها للارتباط السحري الذي يربطها بمرام. وفي الظلام الذي غمرها. بدأت رؤيا تتشكل، رأت غرفة بسيطة، يغمرها نور القمر الشاحب. كان يونس مستلقيًا بجناحه، يبدو مرهقًا وكأن رحلات الزمن قد أرهقته إلى أقصى حد، إلى جواره. تجلس الأميرة ليانا قلقها عليه كان واضحا في كل تفاصيل وجهها.
فتحت منيفة عينيها فجأة، وعادت إلى واقعها مردفة:
" ذاك الشاب. كيف وجد الطريق إلى سرمد، يجب أن أعرف سره. من أين جاء وماذا يريد؟"
_________________
أما عن قمر…
فكانت وحدها في الغرفة الهادئة. أنفاسها مضطربة قليلاً مع كل خطوة تخطوها على تلك الأرضية الخشبية القديمة. ضوء الشمعة المرتعش يعكس ظلالاً طويلة على جدران الغرفة المزخرفة. تبدو وكأنها أشباح حية تراقب حركاتها. راحت تفتح الصناديق الخشبية المتراصة في أحد جوانب الغرفة التى يعلوها غبار كثيف كأنها لم تُمسّ منذ قرون. كل صندوق يحمل ماضياً مخفياً. كأنهم يحملون جزءاً من ألغاز تعجز عن حلها.
أخذت تفتح صندوقاً بعد الآخر. بعضها يحتوي على أوراق مهترئة، وأخرى بها مجوهرات قديمة أو أدوات بدت وكأنها طقوسية. شعرت بخيبة أمل مع كل صندوق لا يحتوي على ما تحتاجه، لكن روحها العنيدة دفعتها للاستمرار:
_"لابد أن أجد شيئاً... شيئاً يُقنع المملكة لتجمعنا مرة أخرى و يُغير الأمور لصالحنا."
جذب انتباهها صندوق صغير في الزاوية، مميز بنقوش غريبة لم ترها من قبل، كان مغلقاً بمشبك صدئ. لكنه فتح بسهولة بعد أن أزاحت المشبك بحذر.
بداخله، وجدت جوهرة غريبة الشكل كانت تتلألأ بخفوت رغم الظلام. بدت الجوهرة أشبه بكائن حي أكثر منها قطعة معدنية؛ سطحها النحاسي كان مشوبًا بخطوط دقيقة متشابكة، أشبه بجذور شجرة تمتد عبر سطحها وتحيط بمركزها. تعكس ضوء الشمعة بطريقة مريبة. لم تكن مجرد قطعة زينة. عندما التقطتها قمر شعرت بنبض خافت تحت أطراف أصابعها، لأول وهلة كان سطحها بارداً لكنه سرعان ما تحول إلى دفء غريب امتد عبر يدها. كانت الخطوط المتشابكة تُشع وهجاً ناعماً بالكاد يُلاحظ لكنه أضفى على الجوهرة هالة مهيبة.
بجانب الجوهرة وجدت قطعة من الورق مطوية بعناية فائقة، عندما فتحتها. لاحظت أن الكلمات مكتوبة بلغة غامضة تتخللها رموز لم تفهمها باستثناء عبارة قصيرة محفورة بخط أكثر وضوحًا:
"الوفاء يزيل الحواجز، والبصيرة تجمع القلوب."
حدقت في الجوهرة لوقت طويل، تساءلت:
"ما الذي يمكن أن تكون عليه؟ ولماذا أشعر كأنها تناديني؟".
دفعتها غرابتها إلى الاعتقاد بأن هذه القطعة لم تُصنع للزينة فحسب، بل كانت جزءاً من لغز أكبر. وضعتها بحذر داخل حقيبة يونس التى وجدتها بجانبها حين استيقظت، وضعتها جانب الكتاب وكأنها تخشى أن تختفي إن تركتها لثانية واحدة.
همست لنفسها وهي تنهض:
"ربما هذه هي المفتاح الجديد."
خرجت من الغرفة وتوجهت نحو غرفة ميثال ووقفت امام احدى الخزانات حيث تُخزن الأدوية. جمعت كل ما استطاعت من زجاجات المسكنات. الأدوية. الضمادات. ومستلزمات الإسعافات الأولية.
أحضرت حقيبة ظهر قديمة كانت معلقة في زاوية الغرفة. وبدأت تُرتب فيها كل ما جمعت. وبينما تفعل ذلك، همست لنفسها:
"ربما نحتاجهم... من يدري ما الذي ينتظرنا؟ ".
تفحصت محتويات الحقيبة مرة أخيرة، وأغلقتها بإحكام. أعادت النظر إلى الغرفة حولها، وعيناها تحملان مزيجاً من الحنين والقلق علي ميثال. ثم وضعت الحقيبة على كتفها وتوجهت نحو الغرفة مجددًا.
---
قبل أن تخطو نحو السرداب، توقفت عند عتبته تتأمل الغرفة التي احتضنتها طويلاً. كانت جدرانها المشققة والضوء الخافت القادم من الشمعة الوحيدة شاهداً على لحظات شكوكها وآمالها شعرت بثقل الذكريات يحيط بها، وكأن الغرفة نفسها تخشى وداعها. ومع ذلك، كان هناك صوت داخلي. قوي ومُلِح. يدفعها للمضي قُدمًا نحو المجهول.
لم تكن تخشى السرداب. في الواقع شعرت وكأنه بوابة، ليس فقط إلى أسرار مقرينوس وسرمد، بل إلى عالم آخر عالم بدا غريباً لكنه أقرب إلى روحها من كل ما عاشته في عالمها الحقيقي هتفت بتيه:
"ماذا لو كان السرداب هو الحقيقة الوحيدة التي أنتمي لها؟ ماذا لو كنتُ أنا الغريبة في عالمي؟"
الظلم والقسوة التي عرفتها في حياتها السابقة بدت وكأنها تطاردها حتى هنا، كما لو كان هناك جزء من روحها متمرداً على ذلك العالم منذ البداية. رأت وجه أبيها في ذهنها للحظة. بكل جبروته ونظراته المتعالية، تذكرت كيف كان عالمها الحقيقي مليئاً بالوجوه الباردة والقلوب الصماء. شعرت بأنها كانت سجينة طوال حياتها. سجينة لقواعد وقوانين لم تختَرها. سجينة لأقدار رسمتها أيدٍ غير أيديها.
لكن الآن، هذا السرداب... هذا المكان الغامض الذي ينبض بشيء لا يمكن تفسيره، كان أشبه بنداء خافت من أعماق روحها، يخبرها أن هناك ما ينتظرها على الجانب الآخر، شيئاً حقيقياً. شيئاً لم تُمنح فرصة اكتشافه من قبل. كل جزء منها أراد الهرب، ليس من القصر أو من التحديات، بل من ذلك العالم الذي أغلق عليها أبواب الأمل واتهمت فيه ظلمًا بالقاتلة والخاطفة.
أردفت بصوت مرتعش:
"إن كان هناك عالم آخر ينتظرني، فسأذهب إليه... حتى لو كان خطيراً. حتى لو كان مجرد وهم."
أدركت أن تلك الكلمات حملت الحقيقة التي أخفتها عن نفسها طويلاً، رغبتها الجامحة في الفرار. في كسر القيد. في إيجاد مكان لا تحكمه القوانين الظالمة التي عرفتها.
أحكمت يدها على حقيبة الظهر، وكأنها تجمع كل ما تبقى من شجاعتها في هذه اللحظة. ألقت نظرة أخيرة على الغرفة. ليس بحزن. بل بشعور غريب من التحرر. كانت الغرفة والقصر شاهدين على ضعفها، لكن السرداب…السرداب كان الطريق إلى قوتها.
_"سأختار المجهول. سأختار الهرب من الظلم... سأختار أن أجد نفسي."
ومع هذه الفكرة خطت إلى الأمام تاركة وراءها كل ما عرفته يوماً، متجهة إلى عالم ربما يكون عالمها الحقيقي.
يتبع….
_______________
كيف ستصل قمر ليونس؟ وما الذي أصاب يونس وعجز الحكيم عن علاجه؟ ماذا ستفعل الأميرة منيفة لتصل الي يونس؟
انتظروا الإجابة على هذه الأسئلة في الفصل القادم يوم الخميس الساعة الثامنة مساءا ان شاء الله.
ندعوكم أيضًا لاستكشاف مدونتنا التي تضم مجموعة مميزة من الروايات الحصرية بالإضافة إلى روايات مكتملة تأخذكم إلى عوالم خيالية وإبداعية لا مثيل لها. تابعوا جديدنا وعيشوا متعة القراءة بأسلوب مختلف.