recent
جديدنا

رواية مقرينوس الفصل الثاني عشر

رواية مقرينوس

ضي القمر وظلمات يونس

بقلم سميحة رجب



خفتت الأنفاس وانسحبت الأضواء لتحل مكانها ظلال العتمة التى حبس فيها يونس، يجلس على الأرضية الباردة بظهر مستند إلى جدار حجريّ، بعينيه التائهتان في ظلام الغرفة. 

فهي نفس الغرفة التي كان يهرع إليها طفلاً، مستعيضًا عن ضوضاء العالم الخارجي وسخط والدته بملاذه الهادئ بها، حينها كان يجد فيها ملجأً آمناً يستطيع فيه أن يُسكت أصوات العتب وأن يغرق في صمته الخاص.

 أما الآن فقد غدت القيد الذي يطوق جسده جدرانها كأنها تضيق عليه ببطء، كما الظلام فيها لم يعد يحتضنه بل يبتلعه ببطء.

كبلت يداه وقدماه بسلاسل باردة ثقيلة، وقيدوه بجدار أشعره  لأول مرة بأنه أسيرٌ في المكان الذي كان يعتبره أكثر أركان القصر أماناً. 

مشاعر مختلطة اجتاحت نفسه وغصة حارقة ثارت داخله تمنى لو يعود الزمان لحظات إلى الوراء، إلى تلك الأيام التي كانت جدته تواسيه فيها حين تضع كفها الدافئ على رأسه تلمّ روحه المتكسرة بلطف.

تذكر إحدى تلك اللحظات حين كان طفلاً صغيرًا هاربًا من شجارٍ وقع في المنزل. دخل إلى هذه الغرفة متربعًا في ركن مظلم بعيد عن أعين الجميع. وبعد لحظات سمع خطواتٍ خفيفة تقترب، لتظهر جدته بوجهها الهادئ محملة بحنان بدا كأن الأرض كلها لا تملكه إلا هي. لم تقل جدته شيئا في هذه اللحظة، بل جلست بجواره وأحاطته بذراعها ويدها تهدهد روحه المتألمة.

همست له آنذاك بكلمات ما زالت ترن في ذاكرته، وكأنها لم تُفقدها الأيامُ قوتها: 
"يا يونس، هناك ظلمة في كل واحد منا، لكننا نختار كيف نتعامل معها. في أوقات الشدة، تذكر أن الشمس لن تلبث أن تشرق حتى بعد أطول ليلة".

استفاق من ذكرياته على قسوة الظلام من حوله، وتمنى لو كان صوت جدته حقيقياً يبدد صمت هذا السجن.

ولكنه في هذه اللحظة تخيل انه سمعها بالفعل حين تردد همس في أذنه:
"أركان هذا القصر تروي حكايات عن عشقٍ مضى وعهدٍ لم يُوفَ. في مكان ما هنا بين الحجر والصمت ثمة سرٌّ مدفون ينتظر من يجرؤ على إيقاظه، ووعود لم تتحقق بعد، وكأنها تنتظر لحظة الانبعاث من رحم النسيان".


أخذ يلتفت حوله يبحث عن مصدر الصوت بل يبحث عن جدته!، وحين سمع صوت خطوات تقترب من تلك الغرفة انتبه مدركًا انها خطوات ثقيلة ليست خفيفة كخطوات جدته!.


دخل الحراس الغرفة بقوة انتفض يونس على إثرها يناظرهم بهلع. بترقب. وتوجس لما هم فاعلين به، اندفع اثنان نحوه ليسحبوه دون كلمة.


ذهب معهم مستسلماً مسلما أمره لرب السماء بعد أن بلغ منه الضيق منتهاه، يمشي بخطوات ثابتة رغم القيود التي تثقل حركته ينظر للحراس ويفكر بقمر تلك التي وعدها أن يكملا رحلتهما الغامضة معا لكنه لم يف بوعده للأخير.

 سارت خطواتهم عبر أروقة القصر الطويلة حتى وصلوا إلى قاعة الملك إيليادور، الذي كان يجلس على عرش مهيب مصنوع من الخشب الداكن المزخرف بالذهب، يجلس الملك بثباتٍ مخيف هادئ الملامح وكأنه تجسيد للسلام، إلا أن نظراته كانت تقول شيئاً آخر.

راقب يونس الملك صامتاً. مترددا. ما عساه يفعل به،  فإن كان رحيما سيأمر بقطع رأسه وانتهى الأمر لكن الذي تجلى أمامه الموت أهون من عيشه، قرأ في عينيه غضباً دفيناً كالنار المستعرة خلف جدارٍ من الجليد، غضب لا يظهر للعيان. لكنه حاضرٌ. متربص في انتظار اللحظة المناسبة لينفجر.

 فهم يونس طباع هذا الحاكم طبعًا فمملكة مقرينوس لن يكون ملكها هينًا، أيقن أن هذا الرجل يخدع الآخرين بوجهه البارد وهدوئه المصطنع، لكنه أدرك أيضاً أن وراء ذلك الوجه تكمن قسوة وعنف لا يُستهان بهما.

حملق الملك بيونس قليلاً بنظرة اشمئزاز وغضب، يتربص به الأذى لكنه في نفس الوقت يحاول ضبط أعصابه والتريث كي يأخذ منه ما يريد،  انحنى إلى الأمام وسأله بصوتٍ خفيض ممتزج بتهديد علني وكلمات حادة كالسيف:
"هل تعي جيدا من يقف أمامك وما يمكنه أن يفعل بك؟".

ابتلع يونس غصته وأومأ برأسه نافيًا مستنكرًا ليبتسم الملك ساخرًا ثم انحنى مرة أخرى من يونس المكبل الذي يجلس على ركبتيه، ثم شد شعره على حين غرة حتى أنَّ يونس من شدة الألم ليضيف الملك قائلا: 
"من رأوك في السوق قالوا أنك لم تكن لوحدك، أين هي الفتاة؟ وأين عقد الأميرة؟ أين الفتاة وأين العقد تحدثت؟".

تلعثم يونس وعلقت الكلمات في حلقه حين تذكر قمر لكن سرعان ما استجمع شجاعته ونظر للملك بنظرة قوة مجيبًا بنبرة هادئة حرص أن تكون حاسمة: 
"أنا من سرق العقد، لكنه ضاع مني".

ضيّق الملك عينيه قليلاً، محاولةً منه لاختراق صمت يونس وكشف ما يخفيه ثم وسأله مجدداً بنبرة تحمل تحذيراً خفياً: 
"أين الفتاة وأين عقد الأميرة؟ هل هي تلك الملثمة التي أنقذتك بالمرة السابقة؟" 

 لم يجب يونس، ليصرخ الملك في وجهه حتى دوى صوته أرجاء القاعة كلها: 
"هل كانت شريكتك في السرقة؟".

هز يونس رأسه ببطء وبكل رباطة جأش وثقة قال: 
"لا أعرفها، التقينا صدفة سألتها عن الطريق ودلتني ثم غادرت ذاهبة في طريقها".

ساد الصمت المهيب للحظات وكل منهما يرقب الثاني، نهض الملك بهدوء من عرشه الذي جلس عليه هنيهة، اقترب من يونس بخطواتٍ بطيئة ومدروسة حتى وقف أمامه مباشرةً، مد يده ووضعها على كتف يونس وضغط بقوة حتى أوقعه أرضا ثم بنظرة منه لأحد الحراس رفع الحارس يونس وأقعده مرة أخرى.

وبينما الملك يتحرك متفاخرًا في القاعة كتم يونس ألمه وغيظه كأن لم يتأذى قط، اقترب الملك مرة أخرى من يونس حدق في عينيه مثل نمر ثائر لأرضه، كأنما يبحث عن نقطة ضعف بهما، ثم قال بصوتٍ منخفض وكلمات غلفها شيء من السخرية القاسية:
"أنت شخص غريب الأطوار لكنك وفيّ تأبى أن تعترف على شريكتك، ومع الأسف ستنال عقاب السرقة، وعقاب شهامتك المزيفة هذه، وعقاب الكذب أمام الملك، تأكد أن الموت سيكون رحمة لك مقارنة بما سأفعل بك إن  لم تخبرني عن مكان العقد والفتاة…. 

 ثم استدار للحراس قائلا بأمر: 
"خذوه ولا تتتركوه حتى يقر بما يعرف… هيا". 

حاول يونس التحرك مع تلك القيود دون أن يجبره الحراس صارخا بهم بكل حدة: 
"اتركوني لا تلمسوني".

لكن الحراس لم يستجيبوا له، سحبوه مثل ما احضروه وتوجهوا به نحو زنزانة أخرى غير التي كان فيها، سحبوه عبر ممر ضيق ثم نزلوا عبر درج لينتهي بهم المطاف في قبو مظلم وضيق وبارد.

 رموه فوقع أرضا على وجهه الذي انجرح بشكل مؤلم، تقدم الحارس مرة أخرى وباشر ضرب يونس في بطنه، بهذه اللحظة كتم يونس الألم ولم يبده رغم قوته ورغم كل الأذى الذي هو فيه لكن سرعان ما تحامل على نفس ووقف مترنحا بيديه المكبلتين واستدار وراءه،  وقبل أن يهمس ببنت شفة رمى أحد الحراس عليه دلوا كبيرا من الماء البارد جعله يرتعد في مكانه ثم وكزه فطرحه أرضا يئن من الألم ويصرخ: "اتركوني".

ارتجف يونس من البرد، خرج الحراس بعدها تاركينه  بحالة يرثى لها يستشعر الألم في كل نقطة من جسمه، أقفل باب الزنزانة وتحدث أحد الحراس قائلا: 
"سأتركك بعض الوقت فقط ثم أعود إليك وإن لم تعد ترتيب أفكارك وتخبرنا مكان العقد والفتاة سأسلخ جلدك عن عظمك". 

_______

انقضى النهار وحلت ليلة يغمرها سكون خادع، تسللت قمر بخطوات خفيفة بين ظلال القصر، متنكرة بزيّ إحدى الخادمات، وقد أخفت ملامحها بغطاء رأس داكن. قلبها يخفق بقوة أبقته ثابتاً بفضل إصرارها على إنقاذ يونس مهما كلفها الأمر. 

تقدمت عبر الممرات المظلمة، متجنبة أنظار الحراس حتى وصلت إلى ردهة الغرفة حيث يُحتجز يونس.

أمام الباب وجدت أحد الحراس نائمًا على كرسيه، منهكًا من جولات الحراسة بينما الآخر كان يتجاذب أطراف الحديث مع حارسٍ آخر في نهاية الممر. 

اغتنمت الفرصة وأخرجت جرعة صغيرة أعدتها بعناية، سائل شفاف لكنها تعلم أنه قوي بما يكفي ليجعل الحارس ينام لساعات طويلة.


اقتربت من الحارس النائم، وضعت الجرعة في فمه بحذر وحين غاب عن الوعي تمامًا أخذت المفتاح من حزامه ودلفت سريعًا إلى داخل الغرفة.

نظر إليها يونس الذي بدا شاحبًا ومتعبًا غير مصدقا رؤيته لها. همست له بسرعة:
 "أنتظر لحظة واحدة، سأحرر القيود".

بدأت بفتح الأغلال التي كانت تطوق يديه وقدميه، محاولة ألا تصدر صوتًا.

ما إن تحرر يونس من قيوده شكرها بصوت خافت،  لم تترك قمر للموقف مجالاً لإظهار الامتنان فقد كانت تعلم أن الخطر لا يزال قائماً. 

أشارت إليه أن يتبعها، وبدأت تقوده نحو مخرجٍ سري عرفته من الخريطة القديمة التي حصلت عليها من القبة.

تقدم كلاهما بخطوات سريعة،  وقبل أن يصلا إلى المخرج ظهر حارسٌ في نهاية الممر، نظر إليهما بحذر. 

ولدون أن تتردد اقتربت قمر من الحارس متظاهرة بأنها خادمة تائهة مردفة بلهجة مرتعبة: 
"عفوًا سيدي، كنت أبحث عن غرفة رئيس الخدم هل من طريق يؤدي إليها؟".

وبينما كان الحارس يشرح لها بتكاسل، استغل يونس اللحظة للتسلل خلفه، أسرعت قمر بخطواتها لتلحق به. وحين وصلا إلى المخرج، لم تنظر قمر خلفها بل استمرت تقود يونس بحذر عبر الأزقة الضيقة حتى خرجا إلى ساحات القصر الخلفية.

وحين وصلا إلى نقطة آمنة استدار يونس ليواجهها، عيناه ممتلئتان بالامتنان، وهمس:
"لن أنسى ما فعلتهِ لأجلي يا قمر".

ابتسمت بتعب مردفة بصوت خافت: 
"علينا الهروب الآن قبل أن يلقوا بك فريسة للعقاب الجارح". 


استيقظ يونس فجأة من حلمه، شعر وكأن صدره ينقبض ببطء وأن شيئاً ما كان يضغط عليه. 

بحث بعينيه في ظلام الغرفة متلمساً حقيقة مكانه، مسترجعاً أنفاسه شيئاً فشيئاً، حتى تلاشت آثار الحلم تدريجياً. قمر لم تكن هنا. لم تأتِ لإنقاذه. ولم تقترب من باب زنزانته كما كان يتخيل. كانت مجرد صورة نسجها عقله، وهمٌ فارغ. هزّ رأسه ببطء، محاولاً تفتيت أثر الحلم العالق بداخل صدره، وكأن شيئاً في داخله قد أحبط في تلك اللحظة.

كان وحده في ظلام الزنزانة محاطاً بجدران باردة لا ترحم. للحظات، تساءل: 
"كيف تبدو أحوال قمر الآن؟ ماذا حلّ بها منذ أن افترقنا؟ هل شعرت بالخذلان عندما لم تجدني إلى جوارها؟ هل شعرت كما لو أنه قد تخليت عنها؟".

 كره الفكرة. كره أن يكون في موضع الشك بالنسبة لها، أو أن تكون قد فكرت ولو للحظة أنه هرب وتركها تواجه مصيرها وحدها. 

ابتلع غصته، شعر بألم متجدد يخترق صدره كأنه نصل حاد، ليس بسبب ما عاناه من الأسر أو الذل، بل من فكرة أنها قد تراه خائناً عديم المسؤولية. 

لم يكن يعلم تماماً لما يهمه الأمر إلى هذا الحد، ولماذا يأخذ برأيها فيه أكثر مما ينبغي. لكن الشيء الوحيد الذي كان على يقين منه هو أنه يهتم… يهتم كثيرا، حتى أن هذا الاهتمام بات ثقيلاً كجرح لا يلتئم.

أخذ يفكر في تلك اللحظة التي افترقا فيها، وعاد بذهنه إلى ملامحها، كيف كانت نظرتها مليئة بالحيرة، وربما… الخوف؟.

انتابه شعور قوي بأن عليه حمايتها، وأن يكون شخصاً تثق به، نبض في داخله كما لو أنه وعد قديم قد قطعه. ولكن الآن، وهو أسير هنا، يتملك قلبه القلق بشأن الصورة التي قد كونتها عنه. هل تراه ضعيفاً؟ شخصاً خذلها؟ فكرة مؤلمة تجعله يتمنى لو تمكن من الصراخ، لو تمكن من إيصال أي رسالة لها، فقط ليخبرها أنه لم يتخلى عنها قط.

بينما هو غارق في هذا التيار المتلاطم من الأفكار، قاطعته خطوات ثقيلة تقترب من زنزانته. 

سمع صوت حارس يقف عند الباب، ينظر إليه نظرةً جامدة، وكأنه يتسلّى بألمه، مردفًا بنبرة ساخرة تحمل شيئاً من التهديد:
"استعد… ستحظى بشرف مقابلة 'العقاب الجارح' قريباً".

تردد صدى الاسم في أذنيه، ووجد نفسه يتساءل عن هذا "العقاب الجارح". 

كان يدرك أنه ليس حيوانًا عاديًا، بل وسيلة للترهيب يستخدمها الملك إيليادور لمعاقبة من يعصي أوامره. ولكن قمر أخبرته بإسمه في الحلم فهتفت بخفوت:
"لم يكن حلمًا بل كان رسالة، هل تراه يشبه أحلام قمر؟، ان كان فمعناه أنني أصبحت جزءً من مقرينوس مثلها ومثل جدتى". 

___

كان الصباح مشوباً بجو من الترقب والحذر، وحين جاء الحراس لاقتياد يونس، شعر بثقل الأغلال التي تربط يديه وكأنها زادت وزنها فجأة. 

اقتادوه خارج زنزانته إلى الساحة الخلفية للقصر. أثناء سيره معهم لم يستطع منع عينيه من التجول والتأمل في وجوه الواقفين على جانبي الطريق، كانت أعينهم محدقة فيه تتراوح بين الاستنكار والفضول وبعضها بالحيرة.

وما لبث أن اصطدمت عيناه بوجه مألوف في الزاوية المقابلة لها. حيث كانت هناك أميرة القصر، هي مَن كانت أول من التقى بها حين خرج من السرداب لأول مرة. وبجانبها… لا، مستحيل! هل هي حقًا إشراق؟! تقف بثباتٍ إلى جوار الأميرة، ملامحها صافية هادئة بعينين تعكسان أملاً غريباً. حين التقت نظراتهما، أومأت له إشراق بحركة بسيطة، وكأنها ترسل إليه رسالة خفية تبث في قلبه الطمأنينة.

شعر يونس براحة مفاجئة، حتى أنه لم يستطع منع نفسه من التنهد بعمق. لقد أيقن الآن أن الأمور لم تخرج عن السيطرة تمامًا، وأن هنالك خطة تحاك في الخفاء. تلك الإيماءة البسيطة جعلته يؤمن أن إنقاذه من هذا القصر ليس سوى مسألة وقت.

وصلوا أخيرًا إلى الساحة؛ ساحة واسعة محاطة بجدران شاهقة وأعمدة مزخرفة، تجتمع حولها الحاشية كأنهم يستعدون لمشهد عرض، لا ينقصه سوى إثارة الملوك وعنفوان المحاربين.

في أحد أركان الساحة، جلس الملك إيليادور متربعاً على عرش مصنوع من عظام متشابكة مرصعة بالذهب والأحجار الكريمة، ينظر إلى يونس بابتسامة هادئة تحمل في طياتها شرًّا مخيفاً، وكأنه ينتظر لحظة الانقضاض على فريسته.

توقف الحراس وسط الساحة، وفكوا قيود يونس أخيرًا تاركينه وحيدًا.

تراجعوا بهدوء ليشكلوا طوقاً حول الملك محيطين به كأنهم جدران قصره المتينة. 

نظر يونس حوله متعجبًا مما يحدث وبدا جليًا على وجهه الحيرة والخوف. أدار عينيه ببطء محاولًا استيعاب الوضع، حتى صدح صوت الملك. ثقيلاً. وقاسيًا. مقاطعًا حيرته بنبرة ملؤها التهديد:
"منذ مدة طويلة و’العقاب الجارح‘ جائع…".

_"هذا هو عقاب كل شخص يعصي أوامري، وكل متمرد على قوانين مقرينوس. أما أنت  أيها المتسلل السارق، فحياتك لا تستحق الشفقة، ولن تكون خسارة لو التهمك العقاب الجارح".

تسارعت نبضات يونس، إذ أدرك فجأة أنه وُضع في اختبار حياة أو موت. وما إن أنهى الملك جملته الأخيرة، حتى أضاف بابتسامة مبهمة: 
"ولكن… في حال أنك تمكنت من هزيمته، فلربما، أعيد النظر في أمرك".

كان صوت الملك أشبه برعد ينذر بقدوم عاصفة، وأيقن يونس أنه يواجه الآن لحظة مصيرية.

في وسط الساحة الواسعة التي تغلّفها أشعة الشمس الخافتة، صدح صوت احتكاك البوابة الحديدية وهي تُفتح ببطء، يُعلن عن وصول الضيف المنتظر. التفت يونس. عيناه تلتقط تفاصيل ما يحدث والذي بدا له كأنه كابوس. 

ظهر العقاب الجارح ذا الحجم الهائل، بنظرات متوهجة وجناحين يبدوان وكأنهما قادرين على احتواء الشمس.

في تلك اللحظات شعر بجسده يتيبّس بينما خفقات قلبه تتعالى، وكأنه يعرف أن ساعة الأجل قد اقتربت أخذ يتمتم بخفوت، تمتماته تتصاعد كدفقات باردة وسط جو مشبع بالخوف، آياتٌ تتلاحق على لسانه كأنها درعه الأخير في مواجهة القدر الذي لم يكن ليتصوره بهذا الشكل.

اقترب العقاب بخطوات ثابتة، كل خطوة كانت تثقل كاهل يونس. ترتعد أطرافه ويرتجف صوته، وكأنه يقف على عتبة المجهول. وعندما بلغ العقاب النقطة التي تفصل بينهما، مال برأسه الطويلة ونظر مباشرة في عيني يونس. 


للحظة شعر يونس وكأن الزمن قد تجمد، الهواء أصبح ثقيلاً، والنظرة بينهما كانت أعمق من مجرد لقاء، وكأنها نقوش سرية تحمل وعداً أو تحذيراً.

وفجأة، وكأنما امتثل لقوة خفية، هوى العقاب الضخم على الأرض دون حراك. عمّ المكان سكون مريب، وصُعِق الجميع من المشهد، تعالت الهمسات والشكوك بأن يونس ليس مجرد شخص عادى  بل ساحر قد هزم العقاب وأخضعه.

وقبل أن يتمكن يونس من التقاط أنفاسه أو تفسير ما جرى، أصدر الملك أمره بإحضاره. 

هرع الحراس نحو يونس، أسلحتهم تتألق تحت وهج الشمس الخافت. ولكن قبل أن يصلوا إليه، حدث شيء لم يكن بالحسبان. انشق الهواء بصوتٍ هادر، وظهر طائر ضخم آخر، من نوع نادر لم يره أحدٌ من قبل، انقضّ بسرعة، ناشراً جناحيه الكبيرين ليظلل المكان.

وبحركة خاطفة أمسك الطائر بيونس بمخالبه، وحلّق به في السماء تاركًا الجميع في حالة من الذهول والرعب. رفعوا رؤوسهم يشاهدون طيف الطائر ويونس يتلاشى شيئاً فشيئاً بين السحب، وكأن السماء قد استجابت لنداءٍ غامض، مانحةً يونس فرصة للهروب من قبضة الموت.

لحظات مضت قبل أن يتنفس الجمع، غادر الطائر والأسطورة التي كتبها للتو، تاركاً وراءه حكاية لن تُنسى، حكاية قد لا تُصدّق، لكن من يجرؤ بعد الآن على إنكارها؟ لقد أيقن الجميع أن يونس.. هذا الشخص الغريب ساحر لربما ينتمي لزمن عابر أو زمن لم يأت بعد لكنهم تيقنوا أن لديه قوة حتى قوة ملكهم إيليادور لا تكفي لمجاراتها. 

يتبع لحين نشر الفصل القادم يوم الخميس ان شاء الله 
لا تنسوا قراءة بقية الروايات بالمدونة منها المكتملة والحصرية.


author-img
أمل محمد الكاشف

تعليقات

13 تعليقًا
إرسال تعليق
  • غير معرف11 نوفمبر 2024 في 5:39 م

    جميل بألانتظار حبيبتي ومتحمسين جدا ❤️

    حذف التعليق
    • Yas men11 نوفمبر 2024 في 6:14 م

      بانتظارك حبيبتي 😘

      حذف التعليق
      • تمارا ياسين11 نوفمبر 2024 في 6:16 م

        في انتظارك سمحوتي خلي عندك رحمه شويه يونس لسه فرفور شوش عليه

        حذف التعليق
        • غير معرف11 نوفمبر 2024 في 6:17 م

          شكل الفصل مشوق بنشوق قلبك الطيب مع يونس

          حذف التعليق
          • غير معرف11 نوفمبر 2024 في 10:13 م

            احداث مشوقه جدا تسلم ايدك حبيبتي

            حذف التعليق
            • Alaa Mohamed12 نوفمبر 2024 في 9:58 ص

              الفصل خيااااال توحفاااااة
              رغم زعلى على يونس بس القفلة فصلتني اول ما العقاب بص له ولا لما جه الطائر شعلقه في الهوا وطار 😂😂😂

              حذف التعليق
              • Alaa Mohamed12 نوفمبر 2024 في 9:59 ص

                ياترى الطائر هياخده على فين

                حذف التعليق
                • Rim kalfaoui photo
                  Rim kalfaoui12 نوفمبر 2024 في 2:06 م

                  يا جمالو حبيت الحلقة كثير كانت اعصابي مشدودة كيف هيخرج من هذا المأزق الصعب فعلا كان رهيب بس خدعتني في الأول كنت مستغربه هي عرفت ازاي وأتت تنقذه في الاخير طلع حلم هههه

                  حذف التعليق
                  • كنزة12 نوفمبر 2024 في 5:11 م

                    أبدعتي كالعادة شابو با

                    حذف التعليق
                    • كنزة12 نوفمبر 2024 في 5:12 م

                      حبيت حبيت التفاصيل كلها شجاعة يونس رغم الأذى الي تعرضله وشهامته انه لسه وفي لقمر رغم انه الثمن كان حياته

                      حذف التعليق
                      • كنزة12 نوفمبر 2024 في 5:13 م

                        غريب أم المملكة غريب عجيب وكأنها من زمن مفقود ثغرة بين أزمنة الممالك لأنها مملكة حية تستشعر مش مجرد مكان فيه ناس تعيش

                        حذف التعليق
                        • كنزة12 نوفمبر 2024 في 5:14 م

                          يالهوييز أنا مش حمل غموض طولي في الفصول يا دكتورة

                          حذف التعليق
                          • كنزة12 نوفمبر 2024 في 5:14 م

                            عملتي في يونس ايه وبعدين اي الطائر ده واي دخل اشراق؟؟؟؟ حستنا الفصل الجاي وأمري لله

                            حذف التعليق
                            google-playkhamsatmostaqltradent