رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
تحت سماء حقل الظلال وقف يونس وقمر وهما متجمدان. بدأ الحائط يتصدع لينبثق من بين الشقوق كتاب قديم يغمره غبار السنين.
بدا الكتاب وكأنه انتزع من قلب الماضي صفحاته متهالكة وحوافه تكسوها علامات الزمن.
أمسكا الكتاب بأعين متسعة اعتلاهما شعور الرهبة والدهشة حين فتح يونس الكتاب على الصفحة الأولى، تفاجأاَ بنقوش تشبه الطلاسم لغة مجهولة تبدو وكأنها تهزّ الأرواح.
راقبت قمر حقيبة يونس التي لمعت فجأة نتيجة صدور شعاع ذهبي من العقد، أشارت إليه بأن يرفعه فوق الكتاب وما إن اقترب العقد من الكتاب حتى انفجرت بعض الحروف بضوء ذهبي خلاب أيقظت ذكرى بعيدة:
"عقد الأميرة منيفة فُقد في يوم زفافها، وهناك سر دفين لن يكشف إلا لمن يمتلك قلبًا صفيًا وجرأة غير اعتيادية".
توهجت الكلمات أمامهم لبضع ثوانٍ فقط قبل أن تخبو وتختفي مرة أخرى، وفي اللحظة ذاتها دوّى صوت عميق من داخل الحائط كأنه إعلان قديم صدر منذ زمن بعيد:
"عقد الأميرة قد سُرق!".
تردد الصوت في الأجواء كريح عاتية تمرّ بين الأزمنة.
هاجت حدة هذه الريح عندما دقت طبول بعض حراس القصر وهم يصيحون بصوت عال:
" فرمان ملكي
صادر عن جلالة الملك إيليادور،
باسم جلالة العرش وكرامة المملكة.
إلى جميع الرعايا والأوفياء في المملكة:
يعلم الجميع ما يمثله عقد الأميرة منيفة من قيمة عظيمة واعتزاز بين كنوز العائلة الملكية، إذ يُعد رمزًا للتاريخ والعزة والمحبة التي تجمع بين جلالة الملك وشعبه الكريم، وقد بلغ إلى علمنا بكل أسى وحزن، أن هذا العقد الثمين تم سرقته في ظروف غامضة لم يُكشف عنها بعد.
لذا، وبناءً على توجيهات جلالتنا، نعلن أنه من يبلغ عن السارق أو يقدم معلومة تؤدي إلى العثور على العقد المسروق سيحظى بمكافأة عظيمة وامتنان جلالتنا وتقدير المملكة بأسرها، المكافأة ليست مجرد أموال فقط بل تُعد تكريمًا وشرفًا يستحقه من يُسهم في إعادة ما سرق من خزائن الوطن".
أشرقا بنظرات ذهول ثم التفتا حولهما بحثًا عن مصدر الصوت. ليحدث ما اذهلهما أكثر فعندما استدارا خلفهم وجدا أنفسهما في مكان مختلف تمامًا. أدركا انه السوق حيث كان ممتد بصفوف متعرجة وأزقة متداخلة تعج بالحياة، كأنهم قفزا إلى عصر آخر حيث كان الباعة ينادون على بضائعهم، أطفال يركضون وناس يمشون مسرعين بين الأزقة.
وقفا في ذهول محاولين فهم كيف انتقلا من الحقل المهجور إلى وسط هذا السوق الصاخب.
وبينما هما على هذا الحال لاحظ أحد المارة العقد المتلألئ في يد يونس.
لينطلق راكضًا نحو مجموعة من الحراس، مشيرًا بارتباك إلى يونس وكأنه يحمل بين يديه شيئًا ثمينًا محرمًا.
لم يكن لدى يونس وقمر الكثير من الوقت لاستيعاب ما يجري، إذ سرعان ما بدأ الحراس في الاقتراب منهم بخطوات سريعة وقاسية، عيونهم مسلطة على العقد المتوهج في يد يونس.
نظرت قمر إليه نظرة مليئة بالقلق هامسة بصوت بالكاد يسمع:
"أظن أن العقد قادنا إلى هنا لسببًا لا ندركه، يحمل معه خطرًا لم نكن نتوقعه".
ابتلع يونس ريقه وعيناه تتنقل بين الحراس الذين يقتربون والمارة الفضوليين الذين بدأوا يلتفون حولهم.
بدا وكأن السوق بأكمله يشكل حلقة تحاصرهم.
أدركا أن الحراس لن يمنحوهم فرصة للشرح والتوضيح، وهنا تبادلوا نظرة سريعة قبل أن ينطلقا بالركض بين زحام السوق.
تسارعت خطواتهما على الطرقات المرصوفة بالحجارة وأصوات الحراس تقترب من خلفهم، صدى الأقدام الثقيلة ينبعث في أجواء السوق المزدحم.
يتسللان بخفة بين الأزقة الضيقة يجاهدان لاختراق الحشود دون لفت الانتباه.
وفي لحظة من الذعر أشار يونس نحو زقاق مظلم بين دكان بائع عطور ودكان يصدر منه بخار الطعام.
تسللا بسرعة عبر الزقاق الضيق الذى يمتد سقفه بجذوع خشبية متهالكة ما جعله أشبه بنفق خفي.
وبينما كاناَ يبتعدان عن الأنظار قادهما الزقاق إلى ساحة صغيرة مظللة بنباتات الكروم التي تزحف على جدرانها الحجرية. لتظهر في زاوية الساحة قبة قديمة مهملة يبدو عليها أثر السنين.
تبادلا نظرة سريعة قبل أن يدلفا إلى الداخل، حيث غمرتهم رائحة العتق والغبار، وامتزج الهدوء هنا بأصداء بعيدة عن أصوات السوق من الخارج.
وجدا المكان يعج بأكوام من الكتب القديمة والصناديق المتهالكة. يبدو وكأن هذه القبة كانت مكتبة أو مستودعًا للكنوز القديمة.
تقدم يونس ببطء وأخذ يتفحص رفوف الكتب، بينما قمر كانت تحاول ترتيب أفكارها وسط هذا المأوى المفاجئ الذى ظهر أمامهما من العدم.
وبينما كانَا يستريحان من رهبة المطاردة، شد انتباه يونس كتاب ضخم بغطاء جلدي عليه رموز مشابهة لتلك التي شاهدوها في الكتاب الذي حصلوا عليه من الحائط.
فتح الكتاب ببطء وبدأ في تقليب صفحاته التي تحمل رسومًا وخرائط حتى وصل إلى صفحة تتوسطها عبارة محفورة بلغة قديمة وكأنها تهمس بشيء مهيب.
أخرجت قمر العقد ووضعته بالقرب من هذه العبارة لتنطق بصوت خافت:
" يتوجّب على القبة حراسة ما خبئ فيها من أسرار حتى الفجر، هنا تختفي الأقدام ويعمّ الظلام".
أخذا يفكرا في تفسير للرسالة مدركين أن القبة من الممكن أن تكون ذات قوى سحرية، أو لربما تمتلك قدرات لحمايتهما، لكنها قد تتطلب التضحية بشيء أو تقديم مقابل لهذه الحماية كبقية الأشياء في هذه المملكة.
فيما يحدق يونس وقمر في جنبات القبة، تيقنا أن هذا المكان ليس مجرد ملجأ عابر. القبة تعلوهما كأنها سماء مصغرة، تزينت بنقوش باهتة وألوان خافتة تبدو كأنها تخبئ رموزًا وأسرارًا من زمن غابر، رفوف الكتب المنتشرة تتخللها نباتات متسلقة كما لو أن الطبيعة ذاتها تحرس هذا المكان القديم.
شعر يونس بتوتر متحدثًا بنبرة حذرة:
"قمر… هذا المكان ليس عاديًا، هل تشعرين بنفس الشيء؟ كأن القبة تحيط بنا وتحمينا، لكن في الوقت نفسه تشترط علينا شيئًا ما".
نظرت قمر حولها ثم توقفت أمام رفوف الكتب القديمة وهي تمرر يدها برفق فوق عناوين غريبة وأوراق متهالكة، وكأنها تهمس ببقايا قصص لا تفسر، مردفه بهدوء مشوب بالحيرة:
"أشعر بهذا أيضًا يا يونس. كأن القبة تختبرنا، أو تنتظر شيئًا مقابل حماية أسرارها… هذه العبارة هنا تشير إلى الصفحة التي قرأتها سابقًا،
تقول إن من يدخل هذا المكان عليه أن يحرس الأسرار حتى الفجر، ربما لن يسمح لنا بالخروج قبل ذلك".
همس وقد بدأت ملامح الخوف تتسلل إليه:
"لكن… ماذا يعني هذا؟ هل علينا حقًا أن نبقى هنا حتى الفجر؟ وماذا لو حاولنا الخروج؟".
أجابته قمر بنبرة مترددة وعينَيها تلمعان بشيء من التحدي:
"هذا المكان أوجد لنا ملاذًا، ولكنه لا يمنح الحماية مجانًا، ربما علينا إثبات شيء أو تقديم نوع من الولاء. تذكر العقد، الكتاب، كل الرموز التي وجهناها تشير إلى شيء قديم مرتبط بنا بطريقة أو بأخرى".
ضيق يونس عيناه محاولًا التركيز:
"ربما… ربما هي طريقتهم لحمايتنا من الحراس، القبة تملك قوة غريبة، لكنها في نفس الوقت تشبه لغزًا علينا فكّه، لننبش ما بداخل الصناديق أو نتفحص النقوش، لربما سنجد دليلاً يساعدنا على فهم شروط هذه الحماية".
هزت رأسها موافقة على ما قاله ثم اقتربت من صندوق صغير في زاوية القبة تعلوه طبقة كثيفة من الغبار فتحته ببطء، ليظهر داخله خريطة قديمة حدودها تموج بالرموز نفسها التي تغطي سقف القبة.
أشارت إلى نقطة مضيئة في وسط الخريطة قائلة:
"انظر هنا… أعتقد أن هذا المكان هو السوق حيث كنا، والنقطة الأخرى… إنها القبة!".
بدا الارتباك على يونس مردفًا بصوت حازم:
"إن كانوا يريدون منا حماية هذا المكان حتى الفجر سنفعل ذلك، لكن علينا أن نستعد لأي شيء قد يحدث، ربما هذه الخريطة ستكشف لنا أين نحن حقًا أو إلى أين سنذهب بعد أن تشرق الشمس".
تنفست بعمق مبتسمة بنظرة إصرار علت وجهها:
"إن كانت هذه هي رحلتنا، فلنحافظ على الأسرار كما يريدون لنبقَ هنا وننتظر ما سيكشفه هذا المكان. ربما هي مجرد البداية".
جلس يونس وقمر بجوار بعضهما تحت ضوء القبة الأزرق الشاحب، محاطَين بالصمت وأسرار المكان التي تلوح كظلال باهتة، الوقت يمر ببطء وكأن الدقائق تتثاقل بين جدران هذا المكان الغامض، بينما شبح الفجر يقترب كموعد غامض لا يعرفان ما ينتظرهما بعده.
كانت قمر شاردة عينها تتأمل الأرضية الحجرية، بينما يونس يجلس بقربها ينظر إليها بنظرات تبوح بكثير من التساؤلات ولكنه حاول كبح جماحها قدر المستطاع.
قضيا معًا لحظات غريبة كثيرة، لكن هذه هي المرة الأولى التي يجلسان فيها بهدوء، بلا تهديد وشيك فقط عليهم الانتظار.
وفجأة، وبصوت يكاد يكون همسًا، قرر يونس أن يطرح عليها السؤال الذي كان يراوده منذ لقائهما الأول:
"ما قصتك يا قمر؟".
رفعت رأسها ببطء وعينان لمعا بشيء من الحيرة والتردد، كأنها لم تتوقع أن يُطرح عليها هذا السؤال.
تنهدت ثم أجابت بصوت هادئ لكنه مثقل:
"قصتى!
أعتقد أنها بدأت منذ زمن أبعد مما أتذكر، ربما حتى قبل أن أعرف نفسي، كنت أحمل بداخلي هذا الشعور. شعور بأنني أنتمي إلى شيء مختلف، وكأن قدري مربوط بشيء لا أفهمه. كنت أعيش حياة عادية مؤلمة في غالبها إلى أن بدأت تلك الأحلام ترافق و تؤنس وحشة الليالي".
أثاره الفضول أكثر ليميل نحوها قليلاً:
"أحلام؟ عمن كانت تتحدث هذه الأحلام؟".
ابتسمت قمر بسخرية وهي تسترجع ذكرياتها مردفه بصوت هادئ:
"كانت أشبه برسائل من زمن بعيد، كنت أرى في تلك الأحلام وجوهًا وأماكن لم أرها قط، مدينة قديمة، طقوس غامضة، وأحيانًا… كنت أسمع صوتًا، صوت امرأة يناديني باسمي.. أدركت بعدها إنها ميثال.. تخبرني أنني هنا لأكمل مسارًا، لأجد شيئًا.. كأنني جزء من قصة لم يُكتب لي أن أشهدها بعد".
تردد صدى كلماتها في رأس يونس، وعيناه ترتكزان عليها محاولا فهمها، شعر بشيء مشترك بينهما، شيء يربطهما بطريقة لم يدركها من قبل.
قال بخفوت وكأنه يكشف شيئًا داخله هو الآخر:
"هذا الشعور أعرفه جيدًا. كأن هناك خيطًا خفيًا يربط حياتك بشيء لا تستطيع لمسه، شيء أكبر منك".
تنهدت قمر وعادت بذاكرتها إلى أيام سحيقة مضت، عيناها تلمعان بشيء من الألم:
"ربما لهذا السبب أتتني تلك الأحلام مرارًا. وكأنها تحثني على البحث عن شيء، ترسلني إلى أماكن لم أتوقع الذهاب إليها، في يوم ما تلاشت جميع الخيارات أمامي، وأصبحت الحقيقة واضحة، غادرت حياتي وجئت إلى مصر، مدفوعة بابتلاء.. أو هذا ما ظننته حينها فلقد اتضح لي أنه مجرد سبب.. وحتى الآن لا أعرف تمامًا ما أبحث عنه، كل ما أعرفه هو أنني يجب أن أتابع".
_"هل تشعرين أحيانًا… أنك مجرد أداة؟ أداة في يد قدر أكبر منا؟".
أومأت برأسها وعينيها تلمعان بالامتنان لفهمه لها مردفه بإجابتها:
"بالضبط. وكأنني لم أختر حياتي، بل اختارني القدر ليأخذني في هذا الطريق. تركت كل شيء خلفي، وأتيت هنا، والآن… أجد نفسي معك في قبة قديمة، ننتظر الفجر ولا نعرف ما سيحدث".
سكت يونس للحظة وكأن فكرة خطرت له، سألها بهدوء:
" ربما لم نصل إلى هنا مصادفة".
نظرت إليه بتأمل مجيبة عليه بصوت يحمل يقينًا غامضًا:
"ربما… القبة لا تختبرنا فقط، بل توجهنا، تكشف لنا ما نخفيه عن أنفسنا، ربما يُطلب منا أن نواجه ما نحن عليه، وما نخافه قبل أن نخطو للمرحلة التالية".
تنهد يونس وأخذ ينظر إلى القبة حوله، وكأنها تجسد كل تلك التساؤلات التي لم يعثر على إجاباتها بعد:
"أشعر أن القبة تريد منا أن نتغير؟ أن ندرك شيئًا قبل أن نتمكن من الخروج؟".
أجابت بتردد ممزوج بالاقتناع:
"ربما… التغيير أو ربما يتطلب الأمر منا تقديم جزء من أنفسنا، شيء نتمسك به كي نستحق ما نبحث عنه التضحية، يونس. لطالما تحدثت الأحلام عن التضحية، وأنا… ربما عليّ أن أتعلم كيف أتقبل هذا."
ساد الصمت بينهما وملأت جدران القبة صدى اعترافاتهما الصامتة، وكأنهما يُلقيان بأعباء قلوبهما في هذا المكان الغامض، محاطين بظلال من أسرار لا يعرفان كيف ستنتهي.
مر الوقت ببطء داخل القبة، كانت الأجواء مشحونة بشيء من الهدوء المريب، لم يتغير شيء وكأن الساعة توقفت عند لحظة ما.
بدأ الضوء الأول للفجر يتسرب عبر النقوش المتشابكة على سقف القبة التي ظلت ثابتة في مكانها، لا تفتح ولا تظهر ما ورائها وكأن لم يحدث شيء جديد.
راقبت قمر بترقب، نهضت فجأة وعينيها تتسعان جزئيًا بنظرة من الأمل والقلق، اقتربت من الباب واضعة يدها على المقابض الخشبية، محركة إياها بسرعة ولكن الباب لم يستجب، كررت الأمر مرة تلو الأخرى دون أن يغير الباب من وضعه، وكأن هناك قوة غير مرئية تمنعه من الفتح.
_"لماذا لا يفتح؟" تمتمت قمر محبطة.
وقف يونس بجانبها دون رد يفكر في شيء. وعندما لاحظ يأسها، قرر أن يتدخل مردفًا:
"يبدو أن الوقت لم يحن بعد. القبة لا تفتح هكذا بسهولة".
أصابها شعور بالفزع من أن يظلا حبيسين هنا، حاولت النظر في عينيه تبحث عن إجابة يقين، لكنها لم تجد شيئًا سوى تلك العيون التي كانت تحمل شيئًا آخر، شيئًا من الفهم العميق لما هو على وشك أن يحدث.
ظل يونس صامتًا لدقيقة أخرى، يحاول الوصول إلى تلك الفكرة التي تطارده، وأخيرًا أردف:
"إن كانت القبة لا تفتح، فربما هناك شيء آخر يجب أن يحدث، ربما يجب علينا أن ننتظر أكثر من مجرد ساعات قليلة، ربما يتطلب الأمر تقديم شيء بالمقابل".
أدركت أن يونس يخبئ شيئًا عنها، لم يكن هناك وقت للتفكير فتراجعت أخيرًا، ولكنها لم تترك الباب كان قلبها ينبض بشكل أسرع الآن:
"إذا كان الأمر كما تقول، فلماذا لا ننتظر؟ لماذا لا نرى ما سيحدث بعد قليل؟".
اختار يونس الصمت في تلك اللحظة، ليترك قمر تنتظر قرارًا آخر، حتى تملكها التعب الذي لا تستطيع مقاومته، راحت عيناها تغلقان شيئًا فشيئًا حتى غفت فجأة.
على عكس يونس الذي ظل واقفًا دون حراك، مستغرقًا في التفكير. عقله يعصف بأفكار متناقضة.
وبينما كانت قمر تغفو بالقرب منه، شعر بشيء يتغير، شيء غير مرئي لكنه حقيقي كأن القبة محيطًا لم يعد يعرفه بالكامل، وكأنها تراقبهم عن كثب، تنتظر تلك اللحظة التي سيتخذ فيها القرار المصيري.
اقترب من الباب بهدوء عندما تيقن أنها نامت، متسللاً نحو المقابض التي كانت ترفض الاستجابة سابقًا. وبينما كانت يديه تلامس المعدن البارد شعر يوني بشيء يتغير في الهواء. وبحركة واحدة فتح الباب بسلاسة غير متوقعة، وكأن القبة قد سمحت له أخيرًا بالمرور.
لكن ما رآه أمامه كان صدمة لم يكن يتوقعها، فكان الحراس يقفون كالظلال يحيطون بالقبة من البداية للنهاية كما لو أنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة، عيونهم ترصد تحركاته بدقة قاتلة يدركون انهم وصلوا لمبتغاهم وأنه سيكون بين يدي الحاكم قريبا.
في تلك اللحظة نظر يونس خلفه إلى قمر التي كانت لا تزال غارقة في نومها، ولم يكن من الممكن إيقاظها الآن، وكأنها كانت جزءً من هذا القدر وكأن القبة صدقت شعوره ورغبته الصادقة للتضحية لأجلها فتعاونت معه.
شعر يونس بشيء ثقيل في قلبه، ابتلع غصته في حلقه كان قد اتخذ القرار الصعب، يدرك أنه خذلها ولم يف بوعده أنهما سيكملان الطريق معا، نظر إلى الحراس، وقلبه يخفق بألم خفيف، لكنه استسلم للواقع، كان يعلم أن لا شيء يأتي دون مقابل وأن الرحلة التي ظنها طويلة ستنتهي هنا وأنه هزم وأن الليل سيتمطى إلى آخر العمر.
_"لقد اخترت" همس بكلماته في نفسه ثم التفت إليهم بهدوء دون مقاومة، كما لو كان يعرف ما ينتظره، سلم أمره لرب السماء ثم سلم نفسه للحراس وها هو ينتظر مصيره.
نامت قمر قريرة العين غير مدركة انها أصبحت بلا رفيق في ذلك الطريق، بينما كان يونس يسير معهم، كانت أفكاره تطوف بين اللحظات التي مر بها مع قمر، وكأن هذا الفصل قد وصل إلى نهايته، وأن الأفق الذي يبحثان عنه لن يأتي إلا بثمن، كانت المملكة التي دخلاها تفرض قوانينها بطريقة قاسية ويبقى القانون فوق الجميع، والآن كان الثمن الذي سيدفعه هو التضحية بنفسه لتواصل قمر رحلتها بلا سند ولا رفيق لوحدها كما كانت دائما.
بينما كان يبتعد عن القبة، شعر بنوع من التحرر والقيد في آن واحد، وكأن عينيه قد صارتا أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، لكن قلبه على الرغم من كل شيء كان يحمل مع ذلك الشعور بالسلام الداخلي.
كانت خطواته واثقة يسير وسط الحراس دون أي محاولة للهروب أو الاعتراض، وكأنه كان يعلم أن هذا الثمن هو ما يجب دفعه ليكمل الطريق أمام قمر ليمنحها الأمان والحرية لمواصلة الرحلة التي لم تتضح معالمها بعد.
ذهب يونس تاركًا وراءه قمر نائمة بسلام للمرة الأولى منذ لقائهما، بات واثقًا أن قراره هذا سيفتح أمامها أبواب مقرينوس تلك المملكة التي كانت تنتظرها لعقود من الزمن الغابر، حتى لو كان ذلك يعني فداءه بنفسه.
نحو المجهول مضى وإلى اللاعودة عقد العزم أن يسير…
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.