رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
وقفت قمر أمام القصر ساكنة كتمثال يواجه الريح عيناها تتأملان التفاصيل الصغيرة المنحوتة في جدرانه. بدا وكأنه يتحدى الزمن، بقببه العالية وشرفاته التي تتراقص عليها أطياف غامضة. حاولت استيعاب الموقف، لكنها شعرت وكأن الأرض تسحبها نحو الغموض الذي يغلف المكان. التفتت حولها تدور كمن تاه وفقد وجهته قبل أن تهمس بصوت مرتجف:
"يونس... أين أنت؟"
لم يكن هناك أي صدى يجيبها سوى الرياح الباردة التي تسللت بين الأشجار الكثيفة المحيطة. نظرت خلفها حيث كان السرداب الذي خرجت منه، لكن المفاجأة كانت في اختفائه التام، وكأنها لم تخطُ منه قط. غمرها شعور بالخوف والتوجس، وهمست بقلق:
"هل ضللت الطريق هذه المرة؟"
بينما كانت غارقة في أفكارها شعرت فجأة بشيء يتحرك داخل حقيبتها. ارتعشت قليلاً قبل أن تسرع في إخراج الكتاب. فتحته بلهفة، لتتفاجأ بصفحة تشع ضوءًا ناعماً يحمل عنواناً غريباً:
"أهلاً بكم في سرمد... مملكة الحب."
انعقد حاجباها وهي تتابع الكلمات أسفل العنوان، تقرأ بصوت خافت:
"سرمد... مملكة تخفي خلف أسوارها أسرار الحب والسلام الأبدي، لكنها أيضًا موطنًا للأرواح التي لم تجد الراحة، تسعى لتحقيق مصيرها."
تنفست بعمق. شيء من الطمأنينة تسلل إلى قلبها. أدركت أن السرداب لم يخدعها، وأنها وصلت إلى المكان الذي أرشدها إليه الكتاب. أغلقته بحذر وأعادته إلى حقيبتها، لتتأمل القصر من جديد.
ــ "لابد من مدخل.لابد أن هناك طريقًا."
بدأت تدور حول القصر، خطواتها تتسارع مع كل دورة، عيناها تبحثان بيأس عن أي ممر أو بوابة. كلما استدارت بدا لها القصر أكثر غموضًا، وكأنها عالقة في دائرة لا نهاية لها. شعرت بالتعب ينهش قدميها. همّت بالاستسلام، ولكن فجأة. خيّل إليها أن ظلاً يحوم فوقها. رفعت رأسها ببطء وإذا بها ترى جناحين عظيمين يرفرفان بخفة، يعكسان ضوء الشمس الذهبي.
صرخت بدهشة وارتياح:
"راشد؟"
هبط برفق. وعلى ظهره كانت تجلس إشراق، وجهها يضيء بابتسامة مطمئنة.
اقترب رشيد بخطوات رشيقة من قمر، منحنيًا بجناحيه الضخمين وكأنه يرحب بها. مدت يدها بحذر، فلامست ريشه الناعم، وشعرت بدفء يغمرها. أصدر صوتًا خافتًا أشبه بأغنية قديمة، وكأنما يعبر عن سعادته بلقائها.
أردفت إشراق وهي تنزل بخفة عن ظهر الطائر:
"كنت أعلم أنك ستصلين، راشد لم يهدأ حتى وجدك."
ـسألتها قمر بدهشة بينما تنظر نحو الطائر:
"هل كان يبحث عني؟"
ــ "نعم، بعد أن انفصلتم، ظل يطير بلا توقف حتى وصل إلى كوخي. كنت أبحث معه في كل مكان. وبالصدفة سمعت حديث الأميرة منيفة مع البومة مرام، أدركنا أن يونس وصل إلى سرمد... لكنه ليس بخير."
تجمدت قمر في مكانها، وعيناها اتسعتا بصدمة:
"يونس؟ماذا حدث له؟"
هزّت إشراق رأسها بحزن:
"لا أعرف التفاصيل، لكن حديث منيفة كان واضحًا. هو هنا، لكنه يعاني. علينا الإسراع لإنقاذه فكما تعرفين تأثير مقرينوس لا يزول الا بحاضركم وكذلك تأثير سرمد."
نظرت نحو رشيد ثم عاودت النظر إلى إشراق، وامتلأت عيناها بتصميم جديد حين أردفت:
"إذن، لن نتأخر أكثر. ولكن كيف سأدخل القصر؟"
ابتسمت إشراق بثقة مجيبة:
"لقد عجز الحكيم نزار عن إفاقته. فأصدر الملك أمرًا بإيجاد حكيم آخر يساعده. هذه فرصتك الوحيدة للدخول. يجب أن تجذبى ثقة الملك لكى يسمح لك بعلاجه. وهذا سهل فالملك ثورين ليس مكارًا كالملك إيليادور؛ انه طيب القلب ولكن ذكى وقلبه يقع بسهولة فاحذرى أن يفتن بك. فإن حدث لن يستغني عنك ولن يسمح لك بالخروج من القصر مرة أخرى".
اومأت قمر متفهمة:
"حسنا سأحترس ولكن الأهم انقاذ يونس وبعدها سنترك القصر"
تحركت إشراق ناحية البوابة الرئيسية قائلة بحزم:
"ومع ذلك احترسي"
تحركت قمر خلفها وهي تتأمل القصر الضخم الذي بدا وكأنه يستقر على حافة عالمين. صمتت للحظة وهي تستجمع أنفاسها، لكن قلبها كان يضج بالقلق. حديث إشراق عن مرض يونس وأن الحكيم لا يتمكن من علاجه يعصف بها، تلك الكلمات كانت كخنجر يغوص في أعماقها تاركًا أثراً من الخوف والارتباك.
همست لنفسها وعيناها تبرقان بمزيج من القلق والتصميم:
"يونس... ما الذي حدث لك؟"
اقتربت منها إشراق، وقد لاحظت ارتجاف يديها الخفيف. وضعت يدها على كتفها برفق:
"لا تقلقي، ستنقذيه. عليكِ أن تثقي بنفسك."
سألتها قمر بصوت مبحوح، وكأنها تخشى الإجابة:
"لكن ماذا لو لم أتمكن من مساعدته؟"
_"ستنجحين، لديك ما يحتاجه يونس."
شعرت قمر ببعض الطمأنينة من كلمات إشراق، لكنها لم تستطع التخلص من شعور الانقباض الذي يخنقها. الوقت يمر. يونس في خطر. كل لحظة تقضيها بعيدة عنه تزيد من قلقها.
اقتربت إشراق من بوابة القصر الضخمة، حيث وقف حارسان يرتديان دروعًا داكنة، يتقاطع عليها شعار سرمد ( شمس تحيطها أغصان الزيتون). رفع أحد الحراس يده لإيقافهما قائلا:
"من هناك؟ هذه البوابة ليست للمارة!"
تقدمت إشراق بخطوات ثابتة، ورفعت رأسها بشموخ:
"سمعت أن الملك يبحث عن حكيم لضيفه. هذه الفتاة حكيمة مبتدئة لكنها تملك مهارات نادرة. أتيت بها لمساعدة ضيف الملك، الذي يبدو أن الحكيم نزار لم يتمكن من شفائه."
تبادل الحارسان النظرات قبل أن يقول أحدهم:
"لا يمكننا السماح لأي أحد بالدخول. ضيف الملك حالة خاصة، والحكيم نزار وحده مسؤول عن علاجه."
ابتسمت إشراق بهدوء، لكنها لم تتراجع:
"أفهم قلقكم، فحسب ما سمعت الوضع خطير. الوقت ليس في صالحنا. هذه الفتاة قد تكون أملكم الوحيد. إنها ليست مجرد مبتدئة، بل تملك وصفات علاجية فريدة تعلمتها من حكماء كبار."
نظر الحارس الآخر إلى قمر، متفحصًا ملامحها التي غلب عليها القلق، لكنه لمح في عينيها بريقاً من الإصرار.
ــ "هل تعرفين ما الذي تواجهينه؟ ضيف الملك ليس مجرد مريض عادي."
تقدمت قمر خطوة للأمام، محاوِلة كبح الارتجاف الذي سيطر على صوتها:
"أعرف أن الوضع خطير، لكنني سأفعل كل ما بوسعي. أرجوكم، دعوني أحاول. إذا كان هناك أي أمل في إنقاذه، فلا يجب أن نضيعه."
تبادل الحارسان نظرات طويلة، قبل أن يتنهد أحدهما بعمق ويقول:
"سأسمح لكِ بالدخول، لكن القرار النهائي سيكون للملك. إن أقنعته بقدراتك، فربما يسمح لك بمساعدة الحكيم نزار."
أشار لها بالدخول، وفتح البوابة الثقيلة ببطء، محدثًا صوتاً عميقاً كأنه صدر عن أعماق الأرض. نظرت قمر إلى إشراق، التي ابتسمت تودعها بنظرات مشجعة، ثم خطت إلى الداخل بخطوات مترددة، لكن قلبها كان ينبض بتصميم لا يتزعزع.
سارت قمر بخطوات بطيئة خلف الحراس عبر ممرات القصر الواسعة، حيث الجدران تزدان بنقوش ذهبية وحكايات من زمن غابر. كانت الأنوار الخافتة المنبعثة من المشاعل تراقص الظلال على الأرضية الرخامية، مما زاد من هيبة المكان وغموضه. شعرت بنبضات قلبها تتسارع، لكنها تماسكت متشبثة بالأمل الذي أضاءه وجودها هنا.
عندما وصلت إلى قاعة العرش توقفت للحظة. تبصر الملك الذى يجلس على عرشه في نهاية القاعة يرتدي عباءة داكنة مزينة بخيوط فضية، وعيناه تحدقان في القادمين بصرامة واهتمام.
التقت عيناها بعيني الملك. للحظة، بدا وكأن الزمن توقف. عينا الملك الواسعتان الحادتان، تجمدتا على وجهها. كان هناك شيء مختلف. شيء لم يره من قبل.
رفع الملك حاجبه قليلاً، ثم مال برأسه إلى الجانب، يتأمل وجهها بانبهار. ابتسم ابتسامة خفيفة مشوبة بالدهشة:
"ما هذا الفن؟"
شعرت بالارتباك لكنها لم تتكلم، فواصل الملك حديثه:
"وجنتاكِ.. هذه الرسومات المدهشة! لم أرَ مثلها من قبل. هل أنتِ من رسمتِ هذا على وجهك؟ لديك موهبة نادرة في الرسم."
ابتلعت ريقها بصعوبة، وشعرت بحرارة تغمر وجهها، لكنها لم تعترض. أدركت أن هذا الوهم قد يكون المفتاح الذي تحتاجه الآن. خفضت عينيها احتراماً. واكتفت بالرد:
"شكراً، جلالتك."
ابتسم الملك أكثر وأشار بيده للحراس كي يتراجعوا، ثم رفع الملك يده، مشيراً لها بالاقتراب أكثر. فوقفت أمامه بثبات، رغم شعورها بالقلق الذي يعصف بها من الداخل.
أخذ يناظرها متفحصاً إياها عن قرب.
ــ "ما اسمكِ؟"
ــ "قمر، يا مولاي."
ــ "قمر... اسم يناسبك تماماً. قلبي يخبرني أن لديكِ ما هو أكثر من موهبة الرسم. قالوا لي إنكِ حكيمة مبتدئة، لكني أشعر أنك تحملين شيئاً أعمق. إذا كنتِ بالفعل حكيمة كما تدعي فكيف يمكن لشخص مبتدئ أن يساعد ضيفي الذي عجز نزار عن علاجه؟"
فكرت قمر للحظة، ثم أجابت بثقة:
"مع احترامي للحكيم نزار يا مولاي، أحياناً تكون المشكلة ليست في الدواء، بل في النهج المتبع. ربما يحتاج الضيف علاجاً روحياً قبل الجسدي، أو ربما هناك تفاعل بين أدوية معينة لم يُؤخذ بعين الاعتبار. لكل مرض مفتاحه، وما قد لا يصلح لشخص قد يكون شفاءً لآخر."
رفع الملك حاجبيه بإعجاب، وقال:
" تتحدثين كمن يعرف أكثر مما يبدو. أخبريني كيف تكتسبين هذه الحكمة رغم صغر سنك؟"
ابتسمت قمر ابتسامة خفيفة، وقالت بهدوء:
"الحكمة ليست بالعمر يا مولاي، بل بالتجربة والقدرة على التعلم من كل ما حولنا. أؤمن بأن كل لقاء، وكل لحظة، تحمل درساً. وها أنا أقف أمامك الآن، لأتعلم منك أيضاً."
ضحك الملك ضحكة خافتة، ثم أشار بيده:
"قمر… لقد أبهرتني بكلماتك كما أبهرتني برسوماتك. سأمنحك فرصة. ستذهبين إلى ضيفي، وإذا نجحتِ فيما فشل فيه نزار، فستكونين المساعدة الجديدة له."
اومأت قمر باحترام، وقالت:
"شكراً لثقتك، يا مولاي. سأبذل قصارى جهدي."
أشار الملك للحراس:
"خذوها إلى الضيف. أريد أن أرى ما تستطيع فعله."
غادرت القاعة، وخلفها خطوات الملك تتردد في ذهنها، وعباراته تثقل كاهلها بمسؤولية جديدة. لكنها كانت تعرف أن هذا هو الطريق الوحيد للوصول إلى يونس وإنقاذه.
دخلت جناح يونس بخطوات حذرة، يتبعها الحارس والملك، فيما انسحبت الأميرة ليانا بسرعة إلى الخلف، لتقف خلف الملك بخجل وريبة. كان الجو في الغرفة ثقيلاً، مشبعاً برائحة الأعشاب التي وضعها الحكيم نزار في محاولة يائسة للعلاج.
تجمدت للحظة عندما وقع نظرها على يونس. كان مستلقياً على السرير. وجهه شاحب. والعرق يتصبب من جبينه. بدا كأنه عالق بين النوم واليقظة، يهذي بكلمات غير مفهومة. شعرت بغصة تخنقها، وامتلأت عيناها بالدموع.
همست بصوت بالكاد سُمع:
"ما الذي حدث لك يا يونس؟"
لكنها لم تسمح لنفسها بالانهيار. تمالكت قواها. تقدمت نحوه بسرعة. وضعت حقيبتها على السرير بجواره، وبدأت تفتحها بعزم، تخرج أدواتها الطبية.
يداها ترتجفان وهي تتفحص حالته. تمسح بيدها جبينه الساخن، تتحسس نبضه الضعيف. كل خفقة كانت كأنها طعنة في قلبها. شعرت بالعجز للحظة، لكنها سرعان ما انتفضت بعزم جديد. بدأت تتحدث مع نفسها بصوت منخفض، وكأنها تطمئن قلبها:
"لا تقلق يا يونس... أنا هنا. سأساعدك."
أخرجت الإبر والمحاليل، وعدداً من الأمبولات الصغيرة. نظرت حولها. ثم رفعت يده، وبدأت تعقم المنطقة التي ستضع فيها الكانيولا.
رفع الملك حاجبيه بانبهار. متقدماً خطوة للأمام:
"ما الذي تفعله هذه الفتاة؟ هل تنوي طعنه؟"
نظر الحكيم نزار الذي كان يقف بجوار الملك بعينين واسعتين إلى الإبرة:
"مولاي، لم أرَ شيئاً كهذا من قبل إنها تغرس تلك الأداة الغريبة في يده! هل هذا جزء من طقوس سحرية؟"
همست ليانا من خلفهم بخوف:
"هل... هل ستؤذيه؟"
لم تلتفت لهم وبدأت تشرح وهي تضع الكانيولا:
"هذا ليس سحراً. إنها مجرد وسيلة لإعطاء الأدوية مباشرة إلى جسمه عبر الدم. الكانيولا ستساعدنا في توصيل السوائل والدواء بشكل أسرع."
وضع الملك يده على ذقنه مفكراً:
"كانـ... كانيولا؟ هل هذا اسم نوع جديد من الأعشاب؟"
ضحكت قمر بخفة، وهي تفرغ محتوى إحدى الأمبولات في المحلول:
"لا يا مولاي. إنها تقنية طبية حديثة."
اقترب الحكيم بحذر محاولاً رؤية ما تفعله عن كثب، ثم تراجع فجأة:
"مولاي، أعتقد أنها تقوم بشيء خطير... السائل داخل ذلك الكيس يتحرك من تلقاء نفسه!"
بدا الملك مشدوهاً:
"يا نزار، أظن أن هذا هو نوع السحر الذي كنت تبحث عنه طوال حياتك!"
قمر وهي تضبط المحلول:
"إنه ليس سحراً، فقط علم. هذا السائل يحتوي على أدوية لتخفيض الحمى وتسكين الألم."
بدأت قمر بتركيب المحلول الوريدي، ثم أخرجت حقنة أخرى تحتوي على خافض للحرارة ومسكن للألم وحقنتها في الكانيولا.
ــ "سأعطيه الآن جرعة لتخفيض الحرارة. من المهم أن نبقيه رطباً، لذلك المحلول سيساعد على تعويض السوائل التي فقدها."
الملك وقد بدا عليه الفضول أكثر من القلق:
"وهذا... السائل العجيب، كم يحتاج من الوقت ليعمل؟"
قمر، بابتسامة هادئة:
"ليس طويلاً، يا مولاي. ستبدأ حرارته بالانخفاض تدريجياً."
نزار بحيرة وهو يراقب القطرات وهي تتدفق عبر الأنبوب:
"وماذا عن هذا الأنبوب الشفاف؟ يبدو كأنه أفعى صغيرة تلتف حول يده!"
هتفت قمر وهي تقاوم ضحكتها:
"إنها مجرد أنبوب لنقل السوائل، وليس أفعى. صدقني."
ضحك الملك أخيراً مردفا:
"نزار، أظن أن عليك إعادة النظر في دراساتك. يبدو أن قمر تفوقت عليك في فنون الطب والسحر معاً!"
ابتسمت قمر بخجل، ثم جلست بجوار يونس، تراقب تحسن حالته بعيون قلقة ولكن مطمئنة في الوقت ذاته، بينما ظل الملك يراقبها بإعجاب واضح.
مر الوقت بطيئاً وكأنه يعاندها وهي تجلس إلى جوار يونس تراقب وجهه الشاحب وتنتظر أي علامة تدل على تحسنه. كل لحظة تمر تزيد من قلقها. ماذا لو لم يشفَ؟ ماذا لو أخفقت؟ تلك الأفكار كانت تثقل صدرها، لكنها تماسكت، تحاول طردها بعيداً.
بدأ يونس يتحرك قليلاً. جفونه ترتجف. وشفتيه تهمسان بكلمات غير مفهومة. أنَّ بصوت خافت، وكأنه يحاول أن يتحدث من عالم آخر.
تنهدت قمر بارتياح، وهي تضع يدها على جبينه:
"بدأ يستفيق... لكن جسده ما زال مرهقاً من أثر الحمى. سيستمر في النوم حتى الصباح."
نظر الملك إليها بتمعن، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وقال بصوت هادئ ولكن يحمل أمراً واضحاً:
"لقد أمرت بتجهيز الجناح المجاور لكِ. اذهبي وارتاحي. غداً في الصباح سنطمئن عليه معاً."
همّت قمر بالاعتراض، ففتحَت فمها لتتحدث، لكن الأميرة ليانا سارعت إلى التقدم بخطوات واثقة، قاطعة الطريق عليها:
"واضح أنكِ مرهقة، قمر. أحضرت لكِ ثياباً جديدة، وضعتها في غرفتكِ."
ترددت قمر للحظة غير راغبة في ترك يونس، لكن قبل أن تتمكن من الرد، جاء صوت الملك حاداً وحازماً، موجهاً نظره إلى ليانا:
"وأنتِ، يا ليانا، إلى غرفتكِ فوراً!"
ارتجفت ليانا قليلاً، ثم انحنت بخضوع:
"أمركَ يا مولاي."
استدار الملك ليغادر، لكن قبل أن يخطو خارج الغرفة توقف فجأة، والتفت نحو ليانا بنظرة تحمل الغضب المكبوت:
"لم نتحدث بعد بخصوص ما فعلتِ. عندما يستفيق يونس، سنتحدث... وسأحاسبكِ على أفعالكِ. أتمنى أن تكوني مستعدة لذلك."
صوته كان كالصوت الهادر في الغرفة، مما جعل ليانا تبتلع ريقها بصعوبة، وتحني رأسها أكثر.أضاف بنبرة بطيئة ومهددة:
"تأكدي أن ما فعلته لن يمر دون حساب."
غادر الملك تاركاً الجو مشحوناً بالتوتر. تنفست قمر بعمق، وألقت نظرة أخيرة على يونس قبل أن تتبع الحارس إلى غرفتها، وهي تفكر في كل ما ينتظرها غداً.
دفعت الباب الخشبي المزخرف ببطء، فصدر عنه أزيز خفيف، وكأنه يئن من وطأة السنين. خطت إلى الداخل بحذر تستكشف المكان بعينيها المتعبتين. كان الجناح واسعاً على نحو غير متوقع يضج بالفخامة الهادئة. الجدران مغطاة بنقوش ذهبية دقيقة تصور أساطير غامضة، بينما تتدلى من السقف ثريا من الكريستال تتلألأ بضوء الشموع، فتمنح الغرفة وهجاً دافئاً وناعماً.
في وسط الجناح استقر سرير كبير ذو أعمدة مزخرفة، تعلوه أغطية من الحرير الأزرق المزين بخيوط فضية. كان المشهد أشبه بحلم بعيد لكنها بالكاد لاحظت تفاصيله، إذ كانت قدماها تقودانها بخطوات متثاقلة نحو السرير، وكأن جسدها أصبح أثقل من أن تحمله.
وضعت حقيبتها برفق على الأرض ثم خلعت عباءتها، تاركة إياها تنزلق عن كتفيها بسلاسة لتسقط بصمت على المقعد المجاور. جلست على حافة السرير، وأغمضت عينيها للحظة تستجمع ما تبقى من طاقتها. صوت أنفاسها كان وحيداً في الغرفة، هادئاً لكنه يحمل ثقل الأحداث التي مرت بها.
تمدّدت على الفراش ببطء تشعر بنعومة الأغطية تحتها كأنها غيمة تحتضنها. أغمضت عينيها، ولكن عقلها ظل يقظاً يعيد شريط الأحداث مراراً وتكراراً. قضية القتل والاتهامات الموجههة لها. صورة يونس وهو يتألم لم تفارق ذهنها، وصدى كلمات الملك، ونظرة ليانا المليئة بالخوف.
وسط هذا الضجيج ابتسمت فجأة. ابتسامة خفيفة، وكأنها وجدت سلاماً داخلياً وسط الفوضى. همست لنفسها تردد تلك العبارة التي وجدتها جوار الجوهرة بغرفة القصر:
"الوفاء يزيل الحواجز... والبصيرة تجمع القلوب."
كانت كلماتها أشبه بتعويذة سحرية منحتها الطمأنينة واليقين. شعرت بالدفء يملأ قلبها، وكأنها تذكرت غاية وجودها هنا.
فتحت عينيها مجدداً تتأمل السقف المزين بالنجوم المرسومة، والتي بدت وكأنها تلمع في الظلام. أخذت نفساً عميقاً، ثم زفرته ببطء وهي تهمس مجدداً:
"سننجو... معاً."
أغلقت عينيها وسمحت لنفسها بالاستسلام للنوم، تاركة الأحلام تأخذها إلى عوالم قد تحمل إجابات لما تنتظر.
بدأت أشعة الشمس الصباحية تتسلل بخجل بين أغصان الأشجار العالية، تلامس العشب المخملي برفق، وتنشر دفئاً لطيفاً في أرجاء الحديقة. نسيم الصباح العليل يحرك أوراق الأشجار برقة، ويملأ المكان برائحة الزهور المتفتحة.
وقفت قمر أمام المرآة في جناحها، تتأمل نفسها بتلك الثياب الملكية التي أحضرتها الأميرة ليانا. الفستان الطويل من المخمل الأزرق الغامق، المطرّز بخيوط ذهبية على أطرافه يعكس ضوء الصباح، ويمنحها مظهراً مهيباً. رفعت يدها لتعدل خصلات شعرها المتساقطة على كتفها ثم ابتسمت لنفسها. عينان تلمعان بتفاؤل وحماس. كيف ستكون ردة فعل يونس حين يراها؟ هل سيفرح كما تتمنى؟
كان صباحاً هادئاً في سرمد، لكن قلب قمر لم يكن يعرف الهدوء. خطواتها تتابعت بثبات، رغم اضطرابها الداخلي، وهي تتجه نحو غرفة يونس. طرقت الباب مراراً، لكن الصمت وحده كان سيد الموقف. شعرت بوخزة قلق في صدرها. أين يمكن أن يكون؟ دفعت الباب ببطء، لتجد الغرفة فارغة. السرير المرتب بعناية بدا وكأنه يتهكم على مخاوفها.
خرجت تبحث عنه، تتنقل بين الممرات الحجرية الفخمة بخطوات متسارعة. أوقفت أحد الخدم وسألته بلهفة، ولم تنتظر أن يرفع عينيه حتى أنهت سؤالها:
"أين يونس؟"
انحنى الخادم باحترام وأجاب بصوت خافت:
"إنه في الحديقة مع الأميرة ليانا، سيدتي."
الحديقة؟ تسارعت نبضاتها، وكأن شيئاً غامضاً ينتظرها هناك. تابعت السير، تتبع حدسها أكثر من اتجاهات الممرات. وما إن اقتربت من الحديقة حتى توقف الزمن للحظة. رأته هناك!
يجلس تحت شجرة وارفة الظلال، على مقعد خشبي مزخرف، وإلى جواره الأميرة ليانا. شعره الأشعث بدا أكثر ترتيباً، وجهه شاحب لكن مفعم بالحياة بطريقة ما. يستمع إلى ليانا بانتباه، ملامحه متوهجة باهتمام حقيقي. يبتسم أحياناً. يرفع حاجبيه دهشةً أو إعجاباً بما تقول. كل شيء فيه ينبض بالحياة. وكأنه لم ينهض من فراش المرض لتوه. وكأن كل شيء عاد إلى طبيعته... إلا قمر.
توقفت مكانها تراقب المشهد من بعيد. شعرت وكأنها دخيلة، وكأنها تتابع مشهداً لم تكن مدعوة إليه. كانت ليانا تتحدث بثقة، ويدها تتحرك في الهواء بإيماءات رشيقة. ويونس؟ كان يتفاعل معها، بروح خفيفة، وكأنه لا يحمل همّاً، لا يفكر... فيها.
_"لماذا لا يبحث عني؟"
شيء ثقيل استقر في صدرها. غصة غريبة. حادة. لم تفهمها تماماً. غيظ؟ ضيق؟ ربما كلاهما. لم تكن مرتاحة. وجودهما معاً بهذه الألفة أثار شيئاً دفيناً بداخلها، لم تكن تعرف حتى بوجوده.
استدارت فجأة محاولة كبح مشاعرها المتشابكة، لكنها لم تخطُ سوى بضع خطوات حتى جاء صوت الأميرة ليانا خلفها، صافياً وواضحاً:
"تعالي يا قمر!"
توقفت للحظة أغمضت عينيها، تأخذ نفساً عميقاً، ثم استدارت ببطء، وكأنها تجمع شتات نفسها.
أما يونس... فقد رفع رأسه بحدة عند سماع اسمها. للحظة جمد مكانه. عيناه اتسعتا، وظهر في ملامحه شيء من الذهول، وكأن الزمن انشق أمامه وأعاد قمر من عالم آخر. لم يكن متأكداً مما يراه، لكنه لم يجرؤ على الرمش. ارتسمت الابتسامة على شفتيه ببطء، ثم اتسعت حتى بدت أقرب إلى جنون الفرح. نهض من مكانه بخفة غير متوقعة، وكأن جسده استعاد عافيته دفعة واحدة.
يحدق بها، عيناه تلمعان بفرح صافٍ، كفرحة طفل وجد لعبته الضائعة. بالكاد تمكن من التقاط أنفاسه قبل أن يقول، بصوت متحشرج بالراحة:
"ظننت أنني لن أجدكِ أبداً."
تقدمت بخطوات واثقة. ملامحها جامدة لكنها تحمل شيئاً غامضاً. ابتسامة خفيفة شقت طريقها إلى وجهها، لكنها لم تكن ابتسامة فرح، بل ربما ابتسامة شخص فهم اللعبة أخيراً. همست بنبرة هادئة، لكنها حادة كالنصل:
"ظننت... أم كنتَ متأكداً؟"
عقد حاجبيه وكأن الكلمات ارتطمت بجدار في ذهنه ولم تخترق المعنى. فتح فمه لينطق بشيء، لكن صوته خذله، ولم يسعفه إلا صوت آخر، أكثر عمقاً، وأكثر حضوراً.
رنّ صوت الملك في الأجواء، حازماً ومهيباً:
"هل تعرفان بعضكما؟"
استدار يونس نحو الملك ثم قال بثقة:
"أجل، سيدي. هذه قمر... التي كنت أبحث عنها."
تأمل الملك قمر بتمعن، وكأن قطع الأحجية بدأت تتشكل في ذهنه. تذكر أن يونس كان يتحدث عن فتاة ضائعة، لكن شيئاً في قمر أثار فضوله أكثر. رفع حاجبه، وكاد أن يسألها لماذا لم تخبره بذلك منذ البداية، لكنها بادرت بالكلام، بصوت واضح وقوي:
"أجل، مولاي. أنا أخته. لقد تفرقنا وضللنا الطريق."
ناظرها مذبهلا لوهلة يحاول ان يستوعب ما قالت، ظن أن تأثير الحرارة لا زال به وانه يهذي لا محالة فلامس جبينه براحة يده لكنه بخير وحرارته طبيعية فردد في نفسه هامسا:
هل أنا بخير؟ نعم أنا كذلك.
حملق بها مرة اخرى فاستدارت نحوه ورمقته بعيون متسعة مشيرة له بأن يصمت.
التفتت بعينيها بثبات نحو الملك، بنبرة صادقة لكنها ملؤها حذر أردفت:
"لم أستطع إخبار حضرتك. كان كل همي أن أنقذه وأعالجه."
أومأ الملك برأسه ببطء، وكأن كلماتها أرضت فضوله... مؤقتاً. ثم استدار تاركاً وراءه غموضاً لم يفسَّر بعد، وقلوباً تبحث عن إيقاعها المشترك من جديد.
يتبع ….
هسيبكم مع غيرة قمر الغير مبررة والفصل الجاى تولع في يونس والأميرة ونشوف نوع اكشن جديد عجيب 😂 ان شاء الله الفصل الجاى في نفس الميعاد يوم الاتنين.
ندعوكم أيضًا لاستكشاف مدونتنا التي تضم مجموعة مميزة من الروايات الحصرية بالإضافة إلى روايات مكتملة تأخذكم إلى عوالم مشوقة بين الخيال والإبداع بأسلوب يلامس القلوب.