رواية "ومَا مَلَكَت أَيمَانُهُم"
بقلم أمل محمد الكاشف
صمتت صوفيا ورضخت للحقيقة المخيفة التي حاولت سندس توضيحها لصديقتها حتى سمعتها بأذنيها.
لم تستطع سندس الخروج من ابواب القصر وفقًا للتعليمات الخاصة بالجواري، لجأت لحبيبها فؤاد كي يخرج صديقتها من القصر خفيةً.
صدمهم فؤاد بقوله
"أخشى أن يمسك بنا وهي بجواري"
ردت سندس بسرعة
"اتبع طريق المخرج الخلفي وبالخارج لا يسألك أحد عنها"
اجابها بخوف
"بدأ البحث عنها خارج القصر. هناك أوامر مشددة للإمساك بها قبل طلوع الشمس"
ترجته ان يجد وسيلة آمنة لخروج صوفيا من القصر وحمايتها حتى عودة الأمير سيف الدين ولكنه رفض تحمل السير معها لخطوات مؤكدا على خطورة مساعدتهم لها.
صدمها بطلبه التخلي عن صديقتها كي لا تؤذي نفسها. رفضت سندس ان تتخلى عنها ليتركها فؤاد وهو يحذرها
"تلعبين بالنار. انتبهي لنفسك"
كادت ان تتراجع عن مساعدة صديقتها من شدة خوفها وما تراه بحالة الحرس ورجال الأمن المنتشرين في كل مكان.
عادت لتجدها متعبة تفتح عينيها بصعوبة من كثرة تقيئها طوال اليوم، حدثت نفسها
"لا لن اتخلى عنكِ. ليحدث ما يحدث"
نظرت لوجه صوفيا متحدثة داخلها من جديد
"مسكينة كيف سأتركها ليقتلوها"
وبخطة ضعيفة غير محكمة أو مُرتب لها قررت سندس ان تخبئ صديقتها بصناديق المؤن المُعد تحميلها بالصباح على متن السفن الخاصة بالمملكة لتذهب للبلاد الفقيرة التابعة سيادتها للسلطان نجم الدين.
حثتها على الخروج من الصندوق قبل أن يُحمل على متن السفينة. ودعت لها أن يحالفها الحظ ويتوقفون في منتصف الطريق لتجد الفرصة وتتحرر بسرعة.
تركتها داخل الصندوق واسرعت بالخروج وهي تتعمد ان لا يراها أحد، استلقت على فراشها ممثلة نومها.
دخل الحرس من جديد باحثين عن صوفيا بكل زاوية، حزنت على صديقتها تذكرت طيبة قلبها وأحاديثهم المطولة سويًا، كيف كانت تصر عليها أن تجلس معهم ليتناولوا الطعام بحب و ود.
اختنقت بضحك الأمير وسعادته و وعده أن يحررها فور استعداد فؤاد للزواج ومجيئه لطلبها منه بشكل شخصي.
دمعت عينيها وهي تشعر باحتضان صوفيا وفرحتها الكبيرة يومها.
قامت من جديد لتفتح خزانتها وتخرج منها فستان صوفيا الذي أخذته منها بأول لقاء بينهم ضمته بحزن اوقاتهم السعيدة معا ثم
خرجت من غرفتها عائدة لصديقتها لتعطيها الفستان وبعض الأطعمة بجانب مبلغ مالي كانت قد جمعته لأجل زواجها. ودعتها وداعا حارا غص قلبها به.
عادت لغرفتها وقلبها يتقطع عليها ليس بيدها شيء آخر تساعدها به وبنفس الوقت تعلم الاحتمالية الكبيرة في الإمساك بها.
عاشت سندس عدة أيام مريرة لم تتناول طعامها ولم تتحدث مع أحد إلا للضرورة القصوى.
حدّت على صديقتها حتى انتفخت عينيها وشحب وجهها وذاب قلبها حزنًا كلما تذكرت حديثها مع الأمير سيف الدين وهي تقص عليه آخر كلمات صوفيا التي لا تزال ترن بأذنها
"لا تحزني انا معتادة على الألم. ولربما اقترب اللقاء وأراد الله أن يبدلني خير ما انا به"
تذكرت سندس سؤالها لصديقتها
"ألم تكوني سعيدة بجانب الأمير سيف الدين "
ردت صوفيا وقتها على صديقتها بصوتها الذي رغم تعبه وحزنه إلا إنه ثابت
"بسم الله الرحمن الرحيم. يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ"
بكت سندس يومها وهي تجيبها
"ألم يحق لنا عيش الدنيا والآخرة كما يعيشونها هم"
ربتت صوفيا على ظهرها بيدها الحنونة التي لا زالت تشعر بها وأشعل النار بقلبها لتقول لها
"ليس الجميع سواء. هو قدري وأنا مؤمنة بأن الله أصطفى لي بالآخرة الأفضل. أما انتِ فأمامك حياة كريمة ستعيشنها مع حبيبك بسعادة وهناء لا تحزني سيفي ولي العهد بوعده وتتزوجين وتنجبين"
بكت سندس وهي تقول لولي العهد
"طلبت مني ان اسمي ابنتي الأولى على اسمها كي ادعو لها كلما ناديت عليها"
ابتلع سيف الدين ريقه الملغم بالدموع والحزن العميق قائلا لها
"سيتم عقد قرانكما الخميس المقبل جهزا أنفسكما وفق ذلك. سيتم تخصيص منزل وعمل خاص لكما لأجل بداية جديدة"
رفضت سندس
"لا يمكنني القيام بذلك قلبي لا زال محترقً.."
قاطعها بقوة
"لا يمكنكم رفض الأمر الملكي"
خُفضت نبرة صوته بحزنه رغم عنه وهو يكمل "لأجلها"
نبض قلبه بقوة مؤلمة وهي يكمل
"لأجل أن تنام بسلام"
ابتعد عن سندس ليدخل الشرفة قبل ان ترى دموعه النازفة من جرح عينه الأليم قائلا لها
"لا تنسي وصيتها ستسمون ابنتكم الأولى على اسمها"
تحركت سندس بخطواتها المتثاقلة لتخرج من الغرفة وهي منهارة، اغمض سيف الدين عينه بحرقة وحزن وألم أصبح مع مرور الأيام عضوي.
تذكر صدمته فور عودته حين أخبروه بهروبها. تحرك ليجلس على أريكة جانبية بخطوات أشبهت مُسن اجهدته الحياة، تذكر بكاء سندس وخروجها عن صمتها وهي تخبره خبر قبض السيد مالك على صوفيا بأحد المنازل المهجورة وإنهاء أمرها كي تكون عبرة لكل من تجرأ على عصيان السلطانة رفيدة.
وضع يده على صدره المحترق وهو يرى وجه مالك الأحمر بين قبضة يديه مستمع لاعترافه
"لم أفعل لها شيء لقد زهقت روحها قبل أن أقدم على قتلها سقطت من سفح الهضاب وهي تركض خوفًا منا"
اغمض عينيه بقوة كادت ان لا تجعله يفتحها من جديد متخيلا حالتها وهي تسقط من هذا المكان العالي.
سعى السلطان نجم الدين لإرضاء ابنه واتخاذ كل القرارات التي من الممكن أن تبرد نار حزنه في هذا الشهر المرير.
عاقب امه بأخذ كل صلاحيات الحكم الملكي منها. بل وحدد إقامتها بغرفتها لا تخرج منها إلا بإذنه حسب الساعات المسموحة وتعود إليها من جديد.
وبرغم هذه القرارات القوية التي قسمت ظهر المملكة وكادت أن توقعها بصراعات مخيفة إلا أن نجم الدين لم يستطع كسب رضا ابنه وإعادته من هذا النفق المظلم والحزن الذي غرق به.
فكلما قرأ سيف الدين رسالة صوفيا الأخيرة التي تركتها له كلما اشتعلت النار بقلبه لتدميه حزنًا عليها، حفظ سطورها حتى أصبح يراها أمامه وهي تقصها عليه بصوتها الصبور
"لا تحزن نفسك. كن سعيد دائمًا فأنت تستحق السعادة. لا تتخلى عن مساعدة الضعفاء والمظلومين بقلبك الحنون الرحيم. تزوج وحقق حلم ابيك برؤية أحفاده. كن حاكم عادل بين الناس. تذكر دائمًا ان الجنة تستحق جهاد النفس والفتن في سبيل الحصول عليها لذلك عليك ان تعيش دنياك بسعادة وهناء ورضا الرحمن كي نلتقي بجنة الله هناك حيث المساواة والعدل. سأطلب من الله ان تكون حلالي هناك. سأطلب منه ان يجمعنا في الفردوس الأعلى دون أن يفرقنا. لا تحزن. إن كان لي خاطر بقلبك لا تحزن علي،عش بسعادة لحظة لقائنا بجنة الخلد. لم يشأ القدر ان اقولها بوجهك كنت اريد ان اصرح لك كلما طلبت مني ولكن خجلي من كان يمنعني. فماذا تريد أن تخبرك من امتلكت قلبها وكل دنياها بحنانك وجبرك وعطفك ورحمتك. انتظرك بالجنة إياك ان تحزن ربك منك أو تقوم بأي عمل يحيل بيننا. السلام ختام لا تنسى فروضك وخاصة فجرك"
قام وتوضأ ليخرج بعدها من القصر كي يذهب لقبرها المزين بالورود والزهور والأشجار المثمرة النادرة حوله كي لا يهجرها الناس. أراد أن يزحم المكان كي لا تشعر بالوحدة. كان يفرح برؤيته للفقراء وهم يتهافتون عليها كي يأكلوا من الثمار النادرة وهم يدعون لها…
ألقى عليها السلام واقفا بجانب القبر متبع القبلة كي يصلي فجره بجانبها وهو يشهدها انه لا زال على العهد والوعد.
احترق كل يوم بلوعة الفراق كان يصلي فجره وينام بعده على قبرها محاولًا التهوين على قلبه بها وهو لا يعلم أنه بهذا الفعل يزداد ألمًا وحزنًا.
لم ينسى الدعاء بالرحمة على ياغيز ذلك الوفي المحب لعمله والمملكة والذي دفع حياته مقابل خدمته لهم .
مرت الايام الثقال بصعوبة كبيرة حتى أصبح قلب أميرنا فارغًا. يسير في قصره بملامح وجهه الباهتة. اعتلى العهن أكتافه و اشتعل الرأس بالشيب وهو بمهد شبابه.
رفض رفضًا باتًا أن يختلي بفتاة غيرها حتى ولو بالزواج لأجل مصلحة المملكة، ندمت السلطانة روفيدة أشد الندم بعد ان قضت ثلاث سنوات بهذا الحزن الذي خيم على المملكة تأثرًا بحالة ولي عهدهم.
كرهت نفسها وتمنت الموت كلما رأت وجه حفيدها المعتزل للحياة. فأين ذهب من ضحك وهرب وانطلق برحلات الربيع وأين أصبح بحزنه وعزلته ومكوثه بجانب قبرها حتى كادت ان تذبل روحه ويذهب خلف محبوبته التي لا تشبه الفتيات بقلبها.
لا أحد يعلم ما فعلته تلك الفتاة بقلبه. لا أحد يعلم كيف سحرته واسقطته بحبها دون تخطيط منها. لم يعلم أحد صفاء قلوبهم التي وجدت حاجتها لدى بعضها البعض. ان علموا أن حبهم تخطى المفاهيم البشرية ما كان أحد تجرأ على مسهم بالشر.
ساءت حالة السلطان عند إصابته بمرض نادر بذلك الزمن ألتف حكماء العصر والاوان حوله محاولين كشف نوعية المرض كي يستطيعوا معالجته.
اضطر ولي العهد بهذا الوقت أن يتولى حكم المملكة حتى يعود أباه لسابق عهده من جديد، طالبته جدته بالمسامحة من جديد ليعفو عنها هذه المرة قائلا
"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، لقد عفوت عنكِ بحقي ولكني لا استطيع أن اعفو عنكِ بحقها لهذا سيبقى الحال كما هو عليه. لا دخل لكِ بالحكم او شؤون الموظفين بالمملكة"
رضخت رفيدة للتحسن الطفيف بينها وبين حفيدها الذي غير الحزن ملامح وجهه وجعلها حادة صلبة.
أصبح وقته مكرس للحكم. لم يجلس على عرش السلطان منتظر ان تأتيه أخبار العامة بل اصبح في ساحات الميادين يتجول بنفسه ليتأكد من سير الأعمال وتطبيق العدل والمساواة اللذان كانا سمة حكمه بهذه الحقبة العصيبة، لم يضحك سنه سوى لرؤيته الأطفال الذين يحملون اسم حبيبته توددًا لسلطان المملكة الحالي.
دوى اسم صوفيا بأنحاء المملكة شرقًا وغربًا جنوبًا وشمالًا. بُني مسجد كبير يحمل اسمها كما عُين داخله شيوخ مختصين بتحفيظ أبناء العامة القرآن الكريم ومنهم من اختص بتعليمهم القراءة والكتابة كما كانت تحلم حبيبة قلبه.
سمح للجواري أن تتزوج من عامة الشعب مع اعطائهم هدية ملكية تعينهم على بدء حياة جديدة سعيدة.
كان يكفي أن تأتي العبد او العبدة ليطلبوا تحريرهم ليتم التقصي عنهم ومنحهم طلبهم بعد أن يتأكدوا من سلامة العيش بعد الزواج.
لم يظل أحد بمحيط المملكة حتى سمع عن قصة حب الأمير والفتاة البسيطة وتآمر السلطانة رفيدة ببث أخبار كاذبة تجهز جيش باكمله للاستنفار والخروج آلاف الأميال استجابة لنجدة مملكة السلطان المنتصر بالله. كل ذلك لتعود السلطانة الشريرة كي تقضي على الفتاة والمسؤول عن التستر عليها بدم بارد. هناك من قال توفيت الفتاة بسقوطها من اعلى سفح الهضاب وهي تهرب من الحرس الملكي بقيادة مالك. ومنهم من قال اغرقها مالك بالبحر بعد أن قيد ارجلها وقدامها بقطع معدنية ثقيلة ولكن مشيئة الله جعلتها تطفوا على ضفاف البحر ليفضح أمر الظالمين. ومنهم من قال وجدها مالك وعاد بها للقصر كي تسقيها السلطانة السم بيدها. كثرت الحكايات وتجمعت بوجودها في قبرها مثواها الأخير الذي كُتب عليه
"وبشر الصابرين ".
اتخذها العامة مثال للعدل والصبر والرحمة والطيبة مما خرج عنها من حكايات.
وفي يوم من الأيام رأى الأمير امرأة عجوز تجلس امام عربة خشبية تبيع عليها الفساتين والملابس المستعملة.
نغزه قلبه متألمًا بعدم تحمله نبضه من جرحه الدامي. وقفت المرأة منحنية أمام الخيول الملكية لينزل الأمير من على ظهر الحصان الأسود اللون بعيون ثبتت على الملابس المستعملة وكأنه يرى فرحة فتاته بهم حتى انه سمع صوتها وهي تطلب منه ان تجربه يدوي بإذنه، تحدثت المرأة المسنة بخوف
"ليس لدي عمل سواها اتبادل انا وحفيدي بالعمل عليها. سامحني يا مولاي إن عرقلت عربتنا موكبك ولكننا…."
قاطعها بقربه من العربة ليلامس مواطن يد فتاته قبل الثلاث سنوات. كادت عينه ان تدمع تلبية رغبة القلب الدامي.
نظر للخلف نحو نوافذ البيع متذكر البائع الجاحد. ابتلع ريقه متحدث مع أحد رجاله
"ستأخذ هذه العربة.."
قاطعته المرأة بصوت راجي
"لا تكمل أتوسل إليك لا تكمل. اتركها لنا. اعدك ان لا أقف بها في الطرقات العامة. ورحمة حبيبة قلبك لا تؤذينا…."
أكمل ولي العهد بصوته المختلط بين الحزن والقوة
"خذ هذه العربة وبدلها لها بمنفذ بيع مملوء بالبضاعة الجديدة لتكون هدية منا لها ولحفيدها"
لم تصدق المرأة ما سمعته بكت وهي تدعو له وحبيبته صوفيا بالرحمة وان يجمعه الله بها بالجنة اقترب ليحدثها بحزن قائلا
"انه نتاج جبرك لخواطر الناس. فالخير لا يموت بموت صاحبه. ألا تتذكرين تلك الفتاة التي أتت إليك قبل ثلاث سنوات لتشتري منكِ فستان كل احلامها به أن يكون دون رقع"
ظل الأمير يقص عليها بالتفصيل ذاكرًا القطة الصغيرة ودعائها بالخير لهم بشكل مؤثر.
انتشرت القصة وفرحت المرأة وعلا سيطها بالمكان. تهافتت عليها الفتيات حالمين ان يكون له نصيب وحظ كنصيب صوفيا بامتلاكها قلب أميرها حتى بعد وفاتها.
حكم السلطان سيف الدين المملكة بالعدل لسنتين متتاليتين تزوجت بهم حفصة من أحد أمراء مملكة بعيدة عنهم. اقيم لها حفل زفاف كبير يليق بالمملكة. تأمل نجم الدين ان يهتز قلب ابنه لهذه الأجواء الفرحة وتحمس بعودته بمطالبته بالزواج كي يحمي المملكة ولكنه رفض قائلا
"ليكن أبناء حفصة من حملة هذه الأمانة الثقيلة" لم يحزن نجم الدين بقدر حزن رفيدة التي اضاعت هيبتها واظلمت نور حفيدها قبل موعده.
تحسنت صحة نجم الدين ولكنه رفض تولي مسؤولية المملكة من جديد. كان يأمل ان يتحسن ولده وينسى ألمه عندما ينشغل بالحكم.
ولكن هيهات هيهات فهناك جروح بالقلب لا يداويها العمل أو مرور الزمن ….
جاء السلطان المنتصر بالله لقصر أخيه ليعطيهم الخبر السعيد فلقد قرر ابنه الصغير الذي لم يتم عمره الثامن عشر الزواج من ابنة دولة أخرى لم تكن كبيرة ولكن رئيسها ذو سيادة ونفوذ كما أنهم أوفياء للسلاطين منذ القدم.
فرحت رفيدة بحفيدها الصغير مباركة لابنها هذا الخبر السعيد. لم يبالي نجم الدين لأحاديث أخيه عن الولاية والعزة التي تكمن بالعزوة.
تحدثت رفيدة لتقلل من ثقل الحديث
"اقتربت الأميرة حفصة من وضع طفليها التوأم مقتبل الشهر. ماشاء الله من كان ينتظر منها ان تعطينا طفلين بعد ابنها الأول الذي لم يكمل أربعة عشر شهرًا"
أجاب المنتصر بالله متفاخرًا
"فرحة حمل الاحفاد من صلب الأمراء مختلف تمامًا عن غيرها. العاقبة لكم ان شاءالله"
طلب المنتصر بالله من سيف الدين أن يذهب مع أبناء عمومته لطلب العروس. رفض بأول الأمر لفهمه غرضهم باقباله على الزواج حين يرى الأجواء السعيدة حوله ولكنه وافق أمام إصرار أبيه وقوله
"انا لم ارغمك على شيء حتى الآن ولكن هذا ، لا اعطيك الحق بتصغيري أمام الجميع. كما لم يحدث لك شيء ان ذهبت معهم لعدة أيام"
سافر ولي العهد معهم على متن السفينة الملكية بوجهه الفاتر الجاف من ملامح الحياة وكأنه عجوز زهد الدنيا ومتاعها بعد عمر مديد.
استمتع الأمراء بالسمر والضحك والموسيقى والاطعمة الشهية طوال السفر بينما كان سيف الدين مستلقي على سفح السفينة ينظر للنجوم المضيئة في السماء يشكو لهم طول الفراق وصعوبته.
مارس هواية التخيل التي أصبحت عالمه الآخر الذي يعيش به بجانب اميرته حتى نام على حالته.
غرق بنومه حتى أضاع فجره لأول مرة منذ خمس سنوات..
فزع من مكانه عند رؤيته للشمس قبض صدره واختنق لشعوره بخيانته لطلبها الأخير منه. أسرع ليتوضأ كي يقضيه وهو يتذكر ثرثرتها بجانبه كلما تأخر عن فرضه
وقف على سجادة الصلاة ليصلي ركعتي الصبح وكأنه يصلي لأول مرة بحياته بل وكأنه سيفارق حياته بعدها
كان يبكي وهو يتلو آيات الفاتحة حامدا مالك يوم الدين. تجرد من ملكه لملك مالك السموات والأرض ملعن توحيده بالألوهية والربوبية طالبًا منه الصراط المستقيم وأن لا يجعله الله من الضاليين. استرسل بقراءة خواتيم سورة البقرة ليتذكر صوتها وهي تقرأها وهنا لم يستطع الأمير خفض صوت بكائه الأجش بالصلاة وخاصة عندما وصل لأية "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"
ركع ثم سجد سجدة طالت من كثرة بكائه. من يراه يظن انه سيموت بعد تسليمه من الصلاة.
استجمع نفسه وجلس جانبًا يسبح ويحمد ويكبر حتى وصلوا لقبلتهم.
تم استقبالهم استقبالًا يليق بشأنهم مدوا أمامهم مائدة كبيرة بها كل ما لذ وطاب.
قبل والد العروس أن يعطيهم ابنته معلنًا انه لن يجد أفضل من الأمير نصر الدين زوجًا لابنته البكر الرشيد.
ترك سيف الدين اولاد عمومته بحفل الترحيب والفرح بالموافقة على الزواج وذهب لساحة السوق سيرًا على الأقدام متأمل المنازل ومعالم أهل البلد وما يتميزون به.
صدمه من الخلف طفل يلعب بالكرة اسرع بإمساكه قبل سقوطه ناظرًا لضحكه المستمر.
تحرر الطفل من بين يديه اخذًا الكرة ليلقي بها في ظهر أخيه مكمل ضحكه وهرب.
وقف ينظر للولدين اللذين كانا يلعبان يضحكا أمامه بوجه مبتسم. جلس جانبًا مستمتعًا بلعبهم. أعجب بصاحب الشعر الذهبي والعيون الخضراء كما أعجب بصاحب الشعر الأسود وعيون اشبه لونها بلون خلية النحل.
اقترب منه بائع متجول طامعًا بشراءه منه وهو يقول
"الاطفال احباب الله. وانا لأجل رضاهم أبيع الألعاب الخشبية المسلية. لا تفهمني بشكل خاطئ انا لم اقترب لابيع لك الالعاب لا سمح الله إنما اردت ان ترى المعلقات الخشبية المميزة من الممكن أن ترغب بأحدهم كتذكار من هذا البلد"
أومأ سيف الدين برأسه وقال
"سأشتري من المعلقات كما ساشتري لهؤلاء الصبية بعض الالعاب ومثلهم لأطفال اختي هيا أرني ما بجعبتك"
رد الرجل
"لا اريد ان اخسر بيع ثمين كهذا ولكن بقولك هؤلاء الصبية تؤكد خسارتي لبعض رزقي"
تعجب متسائلا
"ولماذا ؟"
أجابه الرجل
"لن يقبلا منك الهدايا مهما فعلت. فورائهما أم لا تقبل المساعدة ولا الهدايا منذ أن كانت بأشد الحاجة إليها. الشكر لله تحسن وضعهم حين عملت بتحفيظ القرآن الكريم لأطفال المنطقة. تأخذ أجر بسيط منهم يعينها على الاهتمام بأولادها"
نظر سيف الدين للأولاد باستغراب كبير تساءل به
"هل هما أخوة!"
تحدث الرجل مجيب عليه
"نعم اخوه وتوأم أيضا. تركها زوجها وهي حامل بهم. ساعدها أهل المنطقة حتى أنجبت أولادها. تعجب الجميع من قولها لا اريد لأحد أن يطعم ابنائي. بحثت عن عمل ليشفق عليها أهل المدينة وجعلوها تقوم بتحفيظ أبنائهم القرآن مقابل المال. كانت بنابع الشفقة والإيواء أول الأمر لكنها فاجأتهم بقوتها بهذا لتشتهر بسرعة حتى توافد عليها أبناء النبلاء وكبار المنطقة ومن هنا تحسن وضعها"
فرح لسماعه قصة تلك المرأة القوية المثابرة. اشترى من الرجل المعلقات وشكره مبتعد عن المكان.
كان يبتعد وعيونه معلقة على الطفلين الذين لم يغيبا عن عقله منذ رؤيته لهما.
عاد باليوم التالي للمكان دون إرادته فقلبه هو من أتى به رغم عنه. بحث بعيونه ليجد المكان خاليا من الأولاد والحركة. جلس على الصخر الجانبي ينتظر قدومهما دون أن يحدث ذلك.
تأخر الوقت وحان موعد العودة للانطلاق نحو مملكتهم من جديد. كان يسير خالي الوفاض يركل الحصى بقدمه يمينًا ويسارًا حتى سمع صوت ضحك الصغير ألتفت خلفه ليجده يركض بفرح كبير .
اتسعت عيناه وهو يرى طيران قطعة خشبية كبيرة متجهة نحو الصغير. صرخ الآخر على أمه كي تنقذ أخاه، اسرع سيف الدين راكضًا نحو القطعة الخشبية كي يركلها بسيفه القوى.
صُدم الرجال الذين كانوا يتشاجرون بالأخشاب من قوة الأمير وقسمه قالب الخشب ليسقطه ارضًا قبل أن يصل للطفل.
ألتفت خلفه ليجد الطفلين بحضن أمهم.
اقترب ليطمئن عليهم وهو لا يعلم حقيقة ما سيراه بل ما سينصدم به.
للحظة توقع انها خيال أمامه. أو أنها حورية من حور الجنة. ثبتت عينيه على عينها وهو يسأل نفسه كيف شبهتها حتى بسحر العيون.
من هول المفاجأة والصدمة من رؤية شبيهة محبوبته لم ينتبه سيف الدين لنظرات المرأة له بأول الأمر.
عاد إليه عقله مع أول دموع تتساقط من عينيها وهي تناديه بصوتها المحفور بقلبه
"مولاي الامير!!!!"
نظر للأطفال ثم نظر إليها نظرة من انفصل عن عالمه وذهب بدنيا غير دنياه
وتبقى الروح مشتاقة لمن كان ترياقا لها.
يتبع .. إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.