recent
جديدنا

رواية مقرينوس الفصل الخامس عشر.

 رواية مقرينوس 

ضي القمر وظلمات يونس 



استفاقت قمر على صوت خافت يشبه الهمس ينساب من جدران الغرفة المألوفة. فتحت عينيها ببطء ولم يرحب بها سوى السقف المزخرف الذي بدا وكأنه يراقبها. 


جلست على الأرض تحدق في الجدران التي بدت أكثر ظلامًا. الهواء من حولها ساكنًا لكنه مشحون بشيء غريب وكأن الماضي والحاضر اختلطا في هذه الزاوية. هذه هي الغرفة - انها في الغرفة... مرة أخرى!-  

 التي فتحت لها ولـيونس البوابة الأولى إلى مقرينوس. لكنها لا تتذكر كيف عادت إليها الآن أو حتى لماذا.


نهضت بخطوات مترددة نحو الضوء الوحيد المنبعث من شمعة صغيرة على طاولة قديمة في زاوية الغرفة. التفتت نحو الباب الذي يبدو كفاصل غامض بين العوالم. كان مواربًا قليلاً هذه المرة كأنه يدعوها للخروج.


خطت نحو الممر تتلفت حولها لتبصر الظلال التي تتراقص حولها بفعل ضوء الفجر الخافت. تبدو الجدران حولها أضيق مما كانت، شعرت وكأن القصر نفسه يتنفس، يتفاعل مع خطواتها. فسارت ببطء حذرة من كل صوت أو حركة. 


توقفت فجأة عندما لاحظت شيئًا لامعًا على أحد المقاعد عند نهاية الممر. اقتربت ببطء لتجد هاتفًا موضوعًا بعناية كأنه ترك خصيصًا لها. حدقت فيه بصدمة مردفة: 

" هل هذا هاتف يونس؟" 


التقطت الهاتف تناظر شاشته المظلمة لكنها أضاءت فور أن لمستها لتعرض إشعارًا بارزًا:

" صانع المحتوى يونس هلال مفقود! ومجرمة تدعى قمر الرفاعي مطلوبة بتهمة اختطافه بعد أن اختطفت جدته ميثال."


اتسعت عيناها وبدأ قلبها ينبض كطبول الحرب: 

" أنا؟ مجرمة؟ اختطاف؟"


نقرت على الإشعار بارتباك لتجد نفسها أمام خبر رئيسي في موقع إخباري:

"الطبيبة الليبية الهاربة قمر الرفاعي، أصبحت محور قضية اختفاء غامضة لشاب يُدعى يونس وجدته التي تُدعى ميثال. مصادرنا تشير إلى أن قمر متورطة في جريمة قتل سابقة في ليبيا، حيث هربت بعد مقتل مرافق إحدي المريضات أثناء مناوبتها."


كلمات الخبر ارتطمت بها كصفعة الصورة المرفقة كانت لها، التقطت أثناء عبورها أحد الممرات في مستشفى طرابلس قبل أشهر. عيناها في الصورة بدتا متعبتين، مشحونتين بشيء تتذكره جيدًا: 

"قتل؟ متى؟ كيف؟" 


ذكريات مشوشة بدأت تطفو على السطح. تلك الليلة المشؤومة، مناوبتها الطويلة المريضة التي وصلت بحالة حرجة نتيجة حريق شوه وجهها. كانت تستعد لإجراء تجميلي لها.  

 

ضغطت على الخبر لتقرأ المزيد كل كلمة كانت خنجرًا جديدًا. الحديث عن اختفاء يونس وميثال. عن هروبها المزعوم، عن مطاردتها من قبل الشرطة، وعن ارتباطها بالقصر الملعون.


جمدت في مكانها. الهاتف بين يديها ينبعث منه وهج خافت كأنه يسخر منها. الكلمات على الشاشة كانت كالضباب الذي يخنق أنفاسها 

_"هربت من ليبيا بعد قتل مرافق مريض... قتلت؟"


ضغطت كفيها على الهاتف حتى شعرت بجفاف جلديهما. صور من الماضي تدفقت إلى ذهنها بلا رحمة. ليلة المناوبة الطويلة… الساعة التي بدت وكأن عقاربها تسير ببطء مقصود لتعذبها … كانت تلك الليلة مرهقة إلى حد لم تعد تتذكر فيه متى بدأت أو كيف انتهت.


همست بصوت بالكاد تسمعه: "لا!"


 شعرت بوخز الذكرى وهو ينغرس في قلبها. تلك المشادة. الطريقة التي حاول ذاك الرجل مرافق المريضة الإمساك بذراعها. الغضب المشتعل في عينيه. كانت قد دافعت عن نفسها، لا أكثر. الضربة التي وجهتها له كانت خفيفة، مجرد حركة لإبعاده عنها، وكان قد تعثر وسقط. سقط فقط، مجرد سقوط… صحيح سقط بجانب أدوات جراحية اصابته في ذراعه. لكن لا يمكن أن يكون قد مات!


لكن تلك الليلة. رغم كل محاولاتها للتأكد انتهت بمغادرتها المستشفى، والخوف يلتف حولها كالشبح. يومها لم تسمع الا عن اصابته وهربت حتي لا تضطر للمواجهة وحدها بعد أن تخلى عنها والدها. لقد ظنت أن الأمر انتهى. لكنها الآن وهي تقرأ الاتهامات شعرت وكأن كل شيء عاد ليطاردها.


اردفت بضيق:

"كيف مات؟ لا يمكن أن يحدث هذا... كان مجرد دفاع عن النفس."


شعور عارم بالذنب بدأ يسيطر عليها، كيد خفية تخنقها ببطء. لو أنها تمالكت أعصابها وقتها، لو أنها وجدت طريقة أخرى للتعامل مع الموقف، لكانت حياته الآن مستمرة... لكان هو حيًّا! 


ضغطت بأصابعها على جبينها، محاولة تهدئة الأفكار المشتعلة في رأسها. صوت الرياح في القصر بدا وكأنه يهمس باسمها، يلقي باللوم عليها: "قاتلة... قاتلة..."


ركعت ببطء على الأرض. انزلق الهاتف من يدها ليسقط بصوت مكتوم:

" هل يمكن أن يكون ما يقولونه صحيحًا؟ هل أنا فعلاً قاتلة؟"


لكنها عادت تشد على نفسها، تحاول التماسك. لا يمكن أن تستسلم لهذا الشعور. كانت متأكدة من أن إصابته بسيطة، لا تكفي لتهدد حياته. ماذا لو كان هناك شيء آخر؟ خطأ آخر ليس له علاقة بها؟


همست بصوت مبحوح والدموع تتجمع في عينيها: 

"لا يمكنني الاستسلام الآن… كل الذكريات المشوشة. كل اللوم، لن يغيرا شيئًا الآن. يونس وميثال بحاجة إلي".


وقفت تتجول في القصر وكأنها تتحداه. الذنب ينهشها من الداخل، لكنها تعلم أن الوقت ليس مناسبًا للانهيار.


رفعت رأسها عن شاشة الهاتف. أنفاسها متسارعة. القصر الذي كان صامتًا منذ لحظات بدأ الآن يُصدر أصواتًا غريبة، كأن الجدران تهمس تدعوها للهرب.


نظرت ناحية الغرفة لترى شعاعًا صغيرًا من الضوء ينبعث منها ارتجفت للحظة، لكنها عرفت أن الخيارات أمامها قليلة فأردفت بلسان مرتجف: 

"يونس وميثال بحاجة إلي. وإذا كان القصر يريد أن يوجهني، فسأتبع إشاراته".


___________



استفاق يونس على ملمس بارد تحت راحتيه. فتح عينيه ببطء ليجد نفسه ملقى على أرض مكسوة بالعشب الناعم. الرائحة العطرة للزهور المتفتحة ملأت أنفه مختلطة بنسيم دافئ يحمل معه أصوات العصافير. جلس ببطء. يمسح جبينه الذي تبلل بقطرات ندى خفيف.


كانت الحديقة غريبة. أشجارها شاهقة ومتراصة. مزينة بزهور بألوان غير مألوفة. وكأنها خرجت من لوحة فنية. في وسطها نافورة رخامية تصدر صوتًا خفيفًا لماء ينهمر بهدوء. لم يكن لديه شك أن هذا المكان ملكي؛ الأعمدة الرخامية والنقوش التي بدت كأنها تحكي قصصًا قديمة أكدت ذلك.


لكنه لم يعرف أين هو؟ والأهم... أين قمر؟


وقف بسرعة ليلف رأسه قليلاً من أثر السقوط. جال بنظره في كل اتجاه، ينادي باسمها:

"قمر! أين أنت؟"


صدى صوته ارتد بين الجدران العالية المحيطة بالحديقة، لكنه لم يتلق أي إجابة. قلبه بدأ ينبض بقوة، شعور بالقلق اجتاحه. بينما كان يبحث بلهفة، وقع نظره فجأة على شيء غريب في إحدى الشرفات العالية المطلة على الحديقة. كانت هناك فتاة تقف على الحافة بخطوات غير ثابتة. شعرها الذهبى الطويل يتطاير مع الرياح، وثوبها الأبيض يرفرف كجناح مكسور. وضعت يديها أمامها وكأنها تتأهب للسقوط.


أدرك يونس الخطر فورًا. همس لنفسه:

"النافذة قصيرة، لن تموت... لكنها ستصاب إصابة خطيرة لو سقطت."


لم يمنحه المنظر وقتًا للتفكير. صاح بأعلى صوته:

"هيه! توقفي! لا تفعلي هذا!"


لكنها لم تستجب وكأن صوته لم يصل إليها، أو أنها كانت غارقة في عالمها الخاص.


ركض بكل ما أوتي من قوة، يتجاوز المساحات الخضراء، وقدماه تغوصان في العشب الرطب. أطلق صرخة أخرى، محاولاً جذب انتباهها:

"انتظري! لا تفعلي هذا! أرجوك!"


بدأت بالفعل بالتقدم خطوة أخيرة، قدمها اليسرى تترك الحافة. أدرك أنه لن يصل في الوقت المناسب ليمنعها، فغير خطته على الفور. ركض بسرعة حتى وقف أسفل الشرفة مباشرة، ورفع يديه مستعدًا للإمساك بها.


قالها بصوت قوي، وكأنه يحاول أن يثبت لها أنه قادر على إنقاذها: 

"لا تخافي، أنا هنا!"


لحظات قليلة مرت كأنها دهر. سقطت بالفعل تهاوى جسدها بسرعة نحو الأرض. شد يونس عضلاته وأخذ وضعية الدفاع، ثم مد ذراعيه ليحمل وزنها كاملاً.


ارتطم جسدها بذراعيه بقوة. حاول أن يثبت نفسه لكنه فقد توازنه وسقط على ظهره، الفتاة فوقه. شعور ألم حاد اخترق ذراعه اليمنى، وكأن شيئًا داخله انكسر. أطلق أنينًا مكتومًا، لكن أولويته كانت الفتاة التي أنقذها. سأل بصوت متقطع من شدة الألم: 

"هل أنتِ بخير؟" 


رفعت الفتاة رأسها ببطء، عيناها شاردتين مليئتين بالخوف والدموع. بدت مذهولة وكأنها لا تصدق أنها ما زالت على قيد الحياة. حاولت التحدث لكنها لم تجد الكلمات.


تجاهل يونس الألم الذي ينهش ذراعه وساعدها على الوقوف. لكنه عندما حاول النهوض لم يتمكن من تحريك ذراعه اليمنى. حدق فيها فرأى أن مرفقه بدأ يتورم بسرعة. عرف فورًا ما حدث: 

"لقد كُسر"


لكن يونس لم يندم. نظر إلى الفتاة مرة أخرى، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:

"لقد كدتِ تؤذين نفسك. ماذا كنتِ تفعلين؟"


لم تجبه لكن نظرتها كانت تحمل في طياتها شكرًا صامتًا وخوفًا دفينًا.


_"قمر .. عليّ أن أجدها بسرعة لكنني لن أترك هذه الفتاة حتى أطمئن عليها". 


جمع قواه، رغم الألم الذي يتصاعد مع كل حركة، واتخذ قراره، يجب أن يتأكد من أن هذه الفتاة آمنة قبل أن يعاود بحثه عن قمر.


لم يكن قد تعافى من الصدمة بعد، بين سقوط

الفتاة وآلام ذراعه المكسور، حتى رأى مجموعة من

الرجال يقتربون. يرتدون دروعًا برّاقة، تحمل

رموزًا غريبة بدت له كأنها طلاسم حركاتهم كانت

صارمة، وأعينهم مثبتة عليه وكأنهم وجدوا كنزًا غير

متوقع.

كانت الفتاة التي أنقذها تقف خلفه، نصف

مختبئة وكأنها تتوقع العون منه رغم إصابته.

صاح أحد الحراس وهو يشير إلى يونس:

"سيدي، أخرج يديك عن سلاحك!"


نظر يونس إليهم بشيء من الذهول، ثم رفع يده

السليمة متألمًا:

 أي سلاح ؟ أنا مصاب... أنقذت الفتاة فقط."


تقدّم أحد الحراس بخطوات ثابتة، كان رجل ضخم له لحية كثيفة وعينان قاسيتان. وأردف:  

"لقد رأينا ما فعلت أنقذت الأميرة ليانا."


رفع يونس حاجبيه بدهشة. أميرة؟ ليانا؟ لم يكن

هناك وقت للدهشة، فقد كان الحراس يحيطون به

كالسياج.


قال يونس وهو يحاول التراجع خطوة للخلف: 

"حسنًا. لقد قمت بواجبي والآن سأذهب."


لكن الحارس أمسكه من ذراعه السليمة بقبضة كادت تكسرها هي الأخرى:

 "لن تغادر. ستأتي معنا إلى الملك على الفور."


انتفض يونس محاولا التحرر رغم الألم الذي ازداد

حدة في ذراعه المكسورة:

 "الملك؟ ما الذي يريده مني؟ أنا لا علاقة لي به"


أشار الحارس إلى الأميرة التي ما زالت تراقب

الموقف بصمت:

 "لقد أنقذت الأميرة ليانا. الملك

سيرغب في شكرك شخصيًا. أو ربما التحقيق معك،

من يعلم؟"


صرخ يونس بنفاد صبر: 

"تحقيق؟! استمعوا إلي! ليس

لدي وقت لهذا أنا أبحث عن شخص ويجب أن أجده"


لكن الحراس لم يستمعوا كانوا قد قرروا بالفعل،

وكأن ما يقوله لا يهم. فقال الحارس بحدة: 

"كفّ عن المقاومة" 


بدا أن يونس لم يكن لديه خيار. قال بصوت متهدج

من الألم والغضب: 

"حسنًا، خذوني إلى ملككم لكن هذه المرة سيقضي عليّ بيده!"


توقف الحراس للحظة ثم نظر أحدهم إلى يونس

بازدراء وقال: 

"هل قابلت الملك من قبل؟"


 حدق يونس فيه بحيرة ثم قال بتردد: 

"الملك إيليادور؟"


ارتفع حاجبا الحارس بدهشة، ثم انفجر بالضحك،

وأشار إلى رفاقه:

 "إيليادور؟ أيها الغريب، أنت في سرمد لست في مقرينوس"


شعر يونس بقشعريرة تسري في جسده، وكأن الهواء

من حوله صار أثقل همس لنفسه وعيناه تدوران في المكان كأنه يبحث عن إجابة معلقة في الهواء:

 "سرمد ؟ هل وصلت إلى سرمد حقا" 


_ " إذاً أين قمر؟!" صاح بها فجأة محاولا أن يتجاوز

الحراس.


لكن الحارس الرئيسي أوقفه بقبضة حديدية: 

"من هذه التي تتحدث عنها؟ أولًا ستقابل الملك ثورين، وبعدها يمكن أن تخبره بكل ما تريد!"


حدق فيه بصدمة: "ثورين؟ من هو؟"


ضحك الحارس مجددًا، لكن هذه المرة كان هناك

احترام في صوته:

 "الملك ثورين العظيم ينتظر لقاءك منذ زمن يقولون أنك ساحر العقاب... وهزمت الملك إيليادور. ربما يرحب بك أكثر مما تتوقع."


شعر يونس بالارتباك يزداد داخله فأردف بخفوت:

" ساحر العقاب؟ هزمت إيليادور؟ متى حدث ذلك؟". 


لكنه لم يجد الوقت للأسئلة، فالحراس كانوا يدفعونه

بصرامة نحو بوابة ضخمة ظهرت على حافة الحديقة، بدا أنها تؤدي إلى قاعة الملك.


قاد الحراس يونس عبر الممر المؤدي إلى القاعة الملكية، خطواتهم الرنانة على الأرضية الرخامية تكاد تصم الآذان. الجدران حولهم كانت مزينة بلوحات ضخمة، تصور معارك أسطورية وحكايات عن ملوك وأمراء، بينما الشموع الموضوعة على حوامل ذهبية طويلة تنير الممر بضوء خافت يشوبه دفء غريب. بدا المكان كأنه يروي قصصًا عمرها مئات السنين.


عندما وصلوا إلى القاعة الكبرى، فتح الحراس الأبواب ببطء، ومع كل شبر انفتحت فيه الأبواب، ازدادت رهبة المشهد. كانت القاعة أشبه بكونٍ مستقل، بجمالها وعظمتها. السقف مقوس ومرسوم عليه مشهد لسماء مرصعة بالنجوم، يشع منها ضوء كأنه ينبض بالحياة. أعمدة ضخمة بارتفاع مبنى كامل انتصبت على الجانبين، يلتف حولها الذهب كالأفاعي، وتنتشر عليها رموز ونقوش بلغات لم يستطع يونس فهمها.


في منتصف القاعة كان هناك ممر مفروش بسجادة قرمزية اللون، تنتهي عند العرش. العرش نفسه بدا وكأنه صُنع من قلب الجبال، تحيطه شظايا من الأحجار الكريمة، تلمع بألوان مختلفة مع كل انعكاس للضوء.


الملك ثورين يجلس على العرش بصلابة، كأنه امتداد للعرش نفسه. نظرته متجمدة وثاقبة تحمل مزيجًا من الهيبة والغموض. حوله وقفت الحاشية بملابسهم المزركشة يرمقون يونس بنظرات غير خالية من الحذر والفضول.


عندما توقف الحراس أجبروا يونس على الركوع. رغم ألمه أبى أن يخفض رأسه، وظل ينظر إلى الملك مباشرة.

 قال الملك ثورين بصوت يشبه دوي الرعد: 

"انهض، يا ساحر العقاب."



نهض يونس ببطء رغم الوجع الذي يخنقه قائلا: 

"لستُ ساحرًا. ولستُ هنا لأي أمر يخصكم. أنا فقط أبحث عن قمر."


علا الهمس بين الحاشية وكأن ذكر إسم "قمر" أثار استغرابهم أو حيرتهم.


لم يتحرك الملك لكنه رفع حاجبًا واحدًا بتعبير يشبه التحدي: 

"قمر؟ من تكون هذه؟"


شد يونس قبضته السليمة محاولًا أن يُظهر ثباته:

 "فتاة. كنت معها، والآن هي مفقودة. أحتاج إلى إيجادها."


قال الملك وهو ينحني قليلًا للأمام:

 "وكيف وصلت إلى سرمد؟"


زفر يونس بضيق:

 "أخبرتكم، لا أعرف! استيقظت في حديقتكم، ثم لم أجدها. هذا كل ما لدي."


ابتسم الملك لكن ابتسامته حملت برودًا أكثر مما حملت أي نوع من اللطف: 

"قد يكون ما تقوله صحيحًا. لكن من يصل إلى سرمد عادةً لا يأتي بلا سبب."


رفع يونس حاجبيه: 

"لا سبب؟! كل ما أريده هو إيجادها!"


لكن الملك تجاهله لينظر إلى الحراس قائلا:

"هل رأيتم ماذا حدث؟"


تقدم أحد الحراس وقال:

 "نعم، يا مولاي. هذا الرجل أنقذ الأميرة ليانا بنفسه، ومنعها من القفز من النافذة."


_"حقًا؟" 


نظر الملك ثورين إلى يونس بعينين ضيقتين، ثم أشار إلى الأميرة ليانا التي كانت تقف خلف أحد أعمدة القاعة، تراقب الموقف بصمت: "تعالي هنا."


تقدمت الأميرة ببطء، خطواتها ثقيلة كأنها تخشى مواجهة الملك. كانت صغيرة السن بشعر ذهبي يتدلى على كتفيها ووجه طفولي يحمل آثار دموع جفت للتو.


سألها الملك بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من التسلط:

"هل هذا صحيح، ليانا؟" 


أومأت برأسها بخجل:

 "نعم، يا أبي. لقد أنقذني. كنت سأقع لكنه أسرع وأمسكني."


تغيرت ملامح الملك قليلًا، وكأن شيئًا من اللين ظهر على وجهه. لكنه أخفى ذلك بسرعة وعاد ليحدق في يونس: "حسنًا، يبدو أن لك فضلًا علينا. لكن هذا لا يعني أنك ستُترك حرًا هكذا."


شعر بالإحباط يغلي في داخله:

 "قلت لكم، أنا لا أريد شيئًا منكم! فقط أريد قمر!"


مال الملك برأسه قليلاً وكأن اسم "قمر" أثار فضوله. فقال: 

"سنعرف عن هذه 'القمر' لاحقًا. أما الآن، فأريد أن أسمع منك عن إيليادور."


تجمد يونس في مكانه فأومأ الملك:

 " هناك شائعات أنك هزمته، وسحرت عقابه الملكي. هل تنكر ذلك؟"


شعر بالارتباك فضحك الملك بصوت عميق لكنه بارد وأردف:

 "يبدو أنك لا تعرف من تكون، يا يونس."


وقف من عرشه ببطء ومشى نحو يونس بخطوات ثابتة، ثم قال:

" أنت ضيف في سرمد الآن، سواء أردت ذلك أم لا."



بينما كان الملك يراقب يونس وقعت عيناه على ذراعه المتدلية بوضع غير طبيعي. رفع يده بإشارة صغيرة. فتقدم أحد الحراس وقال بصوت واثق:

 "يبدو أن ذراعه مكسورة يا مولاي."


نظر الملك إلى يونس نظرة عميقة، وكأن عينيه تنفذان إلى روحه:

"كيف كسرت ذراعك؟"


زفر بتعب محاولًا السيطرة على ألمه، وقال:

 "سقطت على ذراعي حين حاولت إنقاذها ولم أشعر إلا بالألم بعدها."


هز الملك رأسه ببطء وكأنه يزن صدقه:

" خذوه إلى الحكيم فورًا. لا أريد ضيفًا في مملكتي يموت بسبب إهمالنا."


لم يرد يونس بشيء. شعر بالصدمة من نبرة الملك التي لم تخلُ من الاهتمام، على الرغم من العداء الظاهر في كلماته.


قاد الحراس يونس عبر ممر جانبي، حيث الأضواء خافتة والهواء يحمل رائحة أعشاب غريبة. عند نهاية الممر، فتح أحد الحراس بابًا صغيرًا يؤدي إلى غرفة مظلمة. في الداخل. كانت هناك طاولة خشبية قديمة عليها أوانٍ زجاجية مليئة بسوائل مختلفة وأعشاب مجففة.


وقف هناك رجل عجوز يرتدي عباءة خضراء طويلة، ووجهه مغطى بالتجاعيد التي تحكي عمره الطويل وخبرته. يحمل عصا خشبية منحوتة بعناية، وعلى رأسه رباط جلدي بسيط.


قال الحارس باحترام: 

"أحضرت لكم مصابًا، أيها الحكيم نزار."


نظر الحكيم إلى يونس وابتسم بخفة، لكنه لم يتحدث. أشار له بالجلوس على الكرسي الخشبي الكبير وسط الغرفة.


تساءل يونس: 

"أجلس؟"


ثم جلس بحذر وهو يراقب الأدوات حوله بشيء من القلق.


سأل الحكيم بصوت خافت لكنه ثابت: 

"ذراعك؟"


أومأ يونس وأشار إلى ذراعه. بدأ الحكيم بفحصها بخفة، يضغط على أماكن معينة بيديه القويتين رغم عمره، مما جعل يونس يتأوه من الألم:

"كسر بسيط، لكنه بحاجة إلى تجبير. هل تثق بي؟"


ابتسم بسخرية طفيفة:

 "وهل لدي خيار آخر؟"


لم يرد الحكيم بشيء بل بدأ بتحضير الأعشاب. أخذ حفنة من الأوراق وسحقها في هاون حجري، ثم أضاف إليها سائلًا أخضر غريبًا. الرائحة التي انتشرت في الغرفة كانت نفاذة وقوية، جعلت يونس يشعر بدوار طفيف. سأل يونسه يحاول إخفاء قلقه: 

"ما هذا؟"


_"دواء لتخفيف الألم. ستحتاجه عندما أبدأ."


ثم أخذ الحكيم العصا الخاصة به ووضعها تحت ذراع يونس المكسورة، مثبتًا العظم المكسور بحركة سريعة جعلت يونس يصرخ من الألم.


_"ألم أقل لك أنك بحاجة إلى هذا الدواء؟"

 قالها الحكيم بابتسامة خفيفة.


ثم أخرج لفافات طويلة من القماش المصنوع من خامة بدت غريبة ليونس. كانت مغطاة بمزيج من الأعشاب المهروسة، وبدأ بلفها حول ذراع يونس بحركات دقيقة ومتمرسة.


رغم ألمه لم يستطع إلا أن يلاحظ الاختلاف الكبير بين هذه الطريقة التقليدية والطريقة الطبية الحديثة التي يعرفها. كل شيء هنا بدا وكأنه جزء من طقوس قديمة، مليئة بالرمزية والأسرار. سأل يونس مترددًا:

"هل هذا... سيجبر الكسر حقًا؟".


ابتسم الحكيم وقال: 

"ثق بي، عندما تستيقظ غدًا، ستشعر بتحسن كبير."


_"غدًا؟"

قالها يونس بدهشة، لكنه لاحظ أن التعب بدأ يتسلل إلى جسده بسبب الدواء.


"الآن ارتح قليلاً. لديك الكثير من الإجابات التي تنتظرك، لكنك تحتاج إلى أن تكون قويًا."


لم يستطع يونس الرد. شعر بثقل في عينيه، وكأن المزيج الذي وضعه الحكيم يحتوي على مفعول مهدئ. قبل أن يدرك الأمر، كان قد غفا، وذراعه ملفوفة بعناية، وكأنها جزء من طقوس شفائية قديمة لم يرَ مثلها من قبل.




يتبع….


ترقبوا الفصل الجديد من الرواية يوم الاثنين المقبل في تمام الساعة الثامنة مساءً، حيث نستكمل معًا رحلة يونس وقمر في مغامرتهم المشوقة داخل عالم مقرينوس. أحداث جديدة بانتظاركم فلا تفوّتوا الفرصة لتكونوا جزءًا من مغامراتهما.


ندعوكم أيضًا لاستكشاف مدونتنا التي تضم مجموعة مميزة من الروايات الحصرية بالإضافة إلى روايات مكتملة تأخذكم إلى عوالم خيالية وإبداعية لا مثيل لها. تابعوا جديدنا وعيشوا متعة القراءة بأسلوب مختلف.

author-img
أمل محمد الكاشف

تعليقات

10 تعليقات
إرسال تعليق
  • غير معرف21 نوفمبر 2024 في 11:45 م

    روعه تسلم ايدك حبيبتي ابدعتي

    حذف التعليق
    • Alaa Mohamed22 نوفمبر 2024 في 12:52 م

      الفصل توووووحفااااة يا سمسمة تسلم ايدك

      حذف التعليق
      • Alaa Mohamed22 نوفمبر 2024 في 12:53 م

        زعلت اوى على قمر 😭 شكلها القضية دى هتكون سبب فراقهم 😭

        حذف التعليق
        • Alaa Mohamed22 نوفمبر 2024 في 12:55 م

          متحمسة جدا للفصل الجاى وازاى قمر هتوصل ليونس
          ويا ترى ايه قصة الأميرة ليانا وازاى والدها تصرف بالبرود ده بعد ما عرف انها حاولت الانتحار

          حذف التعليق
          • Mariam22 نوفمبر 2024 في 3:48 م

            طلع فعلا الضباب عاوز يفرقهم
            كده المفروض قمر توصل سرمد وتلاقي يونس لأنه مش هيعرف يخرج ده الملك كأنه كان مستنيه

            حذف التعليق
            • غير معرف22 نوفمبر 2024 في 3:48 م

              الفصل تحفة منتظرة الجديد بفارغ الصبر ♥️

              حذف التعليق
              • Rim kalfaoui photo
                Rim kalfaoui23 نوفمبر 2024 في 3:01 ص

                حلقة دسمة جدا جدا وفيها أحداث غريبه عجيبة ومن جمال وصف للأحداث انبهرت

                حذف التعليق
                • salwanader29 نوفمبر 2024 في 3:54 ص

                  الحلقه تحفه
                  صعبانه عليا قمر جدا ويونس ياتري هيكون مصيره ايه وهيفكر ازاي في قمر

                  حذف التعليق
                  • غير معرف29 نوفمبر 2024 في 3:55 ص

                    تسلم ايديكي سموحه بجد كل مره بتتفوقي بتجذبي القارئ بشكل رائع شابوه

                    حذف التعليق
                    • salwanader29 نوفمبر 2024 في 3:57 ص

                      كل مره بتثبتي فيها انك قادره علي الانطلاق والتفكير خارج الصندوق تسلم ايديكي بحد ابدعتي بوصفك وسردك ياتري الحكايه هتكون ايه وهل قمر فعلا مجرمه

                      حذف التعليق
                      google-playkhamsatmostaqltradent