رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم: سميحة رجب
"ثمة لحظات تتوقف فيها الحياة على هاوية الخيال، حيث لا يعود الواقع كما عهدناه، وتصبح الخطوات جزءًا من أسطورة لا نعرف نهايتها.
قمر ويونس.. وَجَدَا نفسيهما في متاهة من الرموز والأسرار، يسيران معًا كأنهما غريبان في قلب قصة قديمة كُتِبَت لهما وحدهما بين الحذر والشغف، والخوف والدهشة، كان كل باب يغلق خلفهما، وكل مفتاح يُهديهما لعالم يحمل جوابًا ووعدًا بالوصول.
كانا يواصلان الرحلة بعيون ترى ما لا يراه أحد، كأن مقرينوس ذاتها قد مدت إليهما يديها كي تختبر ولاءهما. بعيون تترقب صمودهما حتى النهاية.
●▬▬▬▬▬๑۩۩๑▬▬▬▬▬●
وقف يونس بمجرد وصوله إلى نهاية السرداب يتأمل الأبواب أمامه بتردد. استدار بنظرة عميقة نحو الباب الذي عبره سابقًا، ثم حول انتباهه إلى الباب الآخر على يساره بذهن يقظ يفكر فيما ينتظرهما من غموض ومفاجآت.
راقبت قمر تعبيره بفضول لم تستطع كتمه مفصحة عنه بسؤالها المشوب بالتوتر:
"ماذا حدث؟ لماذا توقفت؟".
أشار لها نحو أحد الأبواب مردفًا بصوت خافت:
"هذا هو الباب الذي خرجت منه في المرة السابقة".
ثم أومأ بإصبعه نحو الباب الآخر بتردد مضيفًا:
"خلاف هذا الباب الذي لا فكرة لدي إلى أين يأخذنا".
اقتربت قمر بخطى واثقة نحو الباب الأول، مردفة بتساؤل:
"وماذا وجدت عندما خرجت من هنا سابقًا؟"
تنهد يونس حين مرّت أمام عينيه مشاهد ضبابية كأنها من عالم آخر:
"وجدت نفسي داخل القصر. كان هناك أشخاص غريبون، لا ينتمون إلى هذا الزمان أو المكان…
الخروج من القصر لم يكن سهلًا، تحيطه المياه من كل جانب، وهناك حراس عند كل زاوية. لكنني على الاقل اعرف مداخل ومخارج القصر وبعض الممرات السرية به".
ابتسمت بتحدٍّ وكأنها تحاول اختراق المخاوف المرسومة على ملامحه مردفة:
"لنجرّب الباب الآخر. قد يكون لهذا العُقد الذي وجدناه علاقة بظهور هذا الباب، ولربما يكون هو دليلنا للوصول إلى ميثال".
تردد محدقًا في العُقد الذي في يده، مردفًا بقلق: "و ماذا لو قادنا هذا الطريق إلى متاهة لا نعرف كيف نخرج منها؟".
اقتربت منه قمر بثقة ناظرة إلى العقد الذي يحمله و كأنه خريطة رحلتهما مردفة:
"لست وحدك هذه المرة. مهما كان ما ينتظرنا، سنواجهه معًا. وإن أغلق أمامنا طريق، سنبحث عن مفتاح جديد يقودنا للخروج من هذه المملكة الغريبة".
نظر إليها بصمت مأخوذًا من تصميمها الذي يبدو وكأنه الضوء الهادئ في عتمة السرداب، وثقتها التي تبدو وكأنها المفتاح الحقيقي للأبواب المغلقة.
ارتسمت على وجهه ابتسامة متأثرًا بحماسها، ثم أومأ برأسه موافقًا، مردفًا بصوت أكثر ثباتًا:
"حسنًا، لننطلق".
تقدما نحو الباب الجديد بحذر، رفع يده ليُمسك بالمقبض ولكنه لاحظ قبل أن يلمسه بدء العُقد الذي يحمله بالتوهج بلون غامض، تبادلا النظرات بدهشة، همست قمر بحذر وعينيها تلمعان بالفضول:
"أرأيت! يبدو أن العُقد هو مفتاح هذا الباب".
قرر يونس أن يضع العقد بالقرب من الباب، ليحدث ما لا يتوقعاه حين ظهرت كلمات غريبة عليهما محفورة بنورٍ باهت على سطحه، مزودة بإشارات مبهمه وكأنها تهديهم إلى مكان ما.
اهتزت قلوبهما حين تفاجأا بالأرض تهتز تحت أقدامهما ، ثبتت عينهما وهما ينظران لأنشقاق
الجدار بجانبهما كاشفًا عن ممرٍ سري آخر يقود إلى أسفل نحو مغارة مجهولة.
ورغم ترددهم إلا أنهما اندفعا نحو الممر السري بسرعة هروبهما من أي لحظة خوف وقلق قد تمتلكهما، دارت عيناهما على ما حولهما بتعجب فلقد كان الممر وكأنه محفور داخل قلب الجبل، بالإضافة للهواء المُحَمّلَ برائحة البحر المالحة وكأنهما على مشارف عالم مختلف.
استمرا في سرهما بترقب وتمعن حتى ظهرت أمامهما بركة من الماء بلون زمردي، تتلألأ في ظلام المغارة بنورٍ خافت ينبعث من أعشاب متوهجة تنمو حولها.
تساءلت قمر بدهشة وحيرة:
"هل هذا هو المخرج ياترى؟ ولكن كيف سنعبر من هنا؟".
نظر يونس إلى البركة بإمعان، لمح شيئًا غريبًا يطفو على سطح الماء، كان يبدو كزورقٍ خشبي صغير مزين بنقوش قديمة، تحدث بحذر:
" أعتقد أن هذا الزورق سيقودنا إلى مكانٍ آخر لذلك يتوجب علينا استخدامه. وإن لم نجد مخرج سنعود به إلى هنا ومنها الى السرداب مرة أخرى".
بدت المناظر الطبيعية حولهما كلوحات من عالم الأحلام. بتلات الزهور تتناثر في الهواء تضيء كاليراعات متناثرة حولهما كالنجوم. يشق الزورق طريقه عبر النفق المائي المضي، تمتد الأشجار على الجانبين بجذوعها العالية وأغصانها الملتفة، مكسوة بأزهار متوهجة بألوان غير مألوفة تشبه الأزرق العميق، البنفسجي الداكن، والأخضر اللامع.
الأرضية المائية شفافة بشكل مذهل، تُظهر طبقات من الأحجار الكريمة بألوان قوس قزح، كأنها أرض مرصوفة بالياقوت والزمرد والفيروز، الأسماك الصغيرة تسبح بين الصخور المتلألئة كأنها جواهر تتحرك بانسيابية وأحيانًا تلمع بإشعاع خفيف، محاكية أنوار النفق.
اعتلا الزورق الذي بدأ يتقدم مبحرًا بهم في لوحة ساحرة لم يروا مثلها من قبل.
شلالات صغيرة تتدفق من جدران النفق، متحولة إلى ضباب ناعم يتلألأ في الضوء انعكس على وجه قمر وملامح يونس.
رأيا طيور ملونة بأجنحة شفافة ترفرف ببطء على أطراف نهاية النفق، وكأنها حوريات حارسة لهذا العالم السحري، تهمس بصوت خافت كألحان موسيقى بعيدة، تضفي على الرحلة إحساسًا بالهدوء والترقب.
ظهر بنهاية المطاف قوس قزح نصف دائري مشع بألوانه الزاهية وكأنه بوابة لعالم آخر.
محاطًا بهالة ذهبية، وكأنّ النفق نفسه يقودهما نحو قدرٍ مكنون لم يكتشفاه بعد.
ازداد المشهد روعة كلما اقتربا منه حتى وصل الزورق إلى ضوء ساطع في نهاية النفق.
تغير كل ذلك فجأة عندما وجدا أنفسهما على شاطئ غريب، يعلوه سماء صافية لم يشهداها من قبل وكأنهما في عالم مختلف تمامًا.
غمرتهما لحظة من السكينة وهما ينزلان من الزورق. تطلّع يونس نحو الشجرة الضخمة على بُعد خطوات متذكرًا لقائه الأول مع إشراق في هذا المكان وكيف ساعدته وأعادته من هناك إلى القصر بلحظة، أشار لقمر نحو الشجرة مردفًا بابتسامة قلب مطمئن:
"أعتقد أننا وصلنا إلى البر الآمن. يوجد خلف الشجرة كوخ. ذلك المكان الذى أخذتني إليه إشراق بعد أن أنقذتني من الحراس".
سارت قمر بجانبه بعيون لا زالت تتأمل المكان، وكأنها تتعرف على كل زاوية فيه.
اخذت نفس عميق بشعور غريب ممزوج بالروح والسكون حين بدا الهواء مشبعًا بعطر الغابة القديمة، تحركت أوراق الشجرة الكبيرة فور اقترابها وكأنها تهمس مع الريح الاستقبال زائرين تعرفهما.
بينما كانا يقتربان من مكان إشراق المختبئ خلف الشجرة الضخمة، شعر كلاهما بإحساس غريب يشبه الألفة التي نبعت من الكوخ الذي كان ينتظرهما بصبر قديم.
مدّ يونس يده إلى الباب الخشبي طارقًا عليه عدة طرقات فُتح بعدها وحده.
لتظهر إشراق أمامهم وهي واقفة بداخل الكوخ تبتسم لهم ابتسامة ترحيبة دافئة تعبر عن شخص كان يعلم بأمر قدومهما منذ البداية.
أردفت إشراق بصوتٍ حنون يحمل أصداء الماضي:
"أخيرًا وصلتما. أهلا بكما في مقرينوس".
قالتها متقدمة بعدها خطوات نحو قمر لتحتضنها بلطف، مضيفة:
"كنت أعلم أنكما ستجدان الطريق".
تراجعت قمر للوراء ببطء ناظرة إلى إشراق بدهشة وذعر طفيف، متسائلة:
"هل أنت شبح؟"
ضحكت إشراق بصوت ناعم أجابت بعدها بقلب مطمئن:
"لا تخافي لست شبحًا. أنا مرسال من زمن آخر".
لم يبدُ على قمر الارتياح، واصلت حديثها بصوت متردد:
"هذا مخيف أكثر.. أأنتِ إنسان أم.. من الجن؟".
ابتسمت إشراق بلطف ثم أجابت:
"إنسانة مثلك تمامًا. لكن الأمر أعقد مما تتصورين. ستفهمين كل شيء مع مرور الوقت، كما فعلت ميثال قبلك".
بدت على وجه قمر علامات الحيرة، لتهمس بكلماتها:
"أنتِ.. أنتِ من رأيتها في أحلامي مرارًا...".
أومأت إشراق برأسها وكأنها تتوقع هذا السؤال، مردفة بجوابها:
"لم تكن أضغاث أحلام. كانت رسائل تهيئكِ قبل وصولك إلى هنا حتى لا تشعري بالضياع، مثلما حدث مع يونس عندما جاء وحده في المرة الأولى".
نظر إليها يونس بفضول، سائلا بذهول:
"وكيف عرفتِ أنني كنت في القصر؟".
أجابته إشراق بصوت هادئ:
"لديَّ هبة تمكنني من تتبع خطواتكما، لكني لا أستطيع رؤيتكما طوال الوقت. فقط عندما تكونان في خطر، حينها ترغب مقرينوس بحمايتكما، لذلك تصلني بعض الإشارات التي تحمل صوركما واخباركما".
نظرت إشراق إلى المقاعد الخشبية المثبتة بالأرض قرب الموقد، مشيرة لهما نحوها:
"اجلسا، فهناك الكثير مما يجب أن تعرفاه عن مقرينوس وعن ميثال".
جلس يونس وقمر بترقب، يلتقطان أنفاسهما وينتظران تفسيرًا لما يحدث.
أشارت إشراق إلى الحائط خلفها، حيث تتدلى خريطة قديمة مملوءة برموز وأشكال غامضة.
بدأت تشرح لهما:
"مقرينوس ليست مكانًا عاديًا. إنها بوابة بين الأزمنة، عالم يجمع بين الحاضر والماضي، وأحيانًا المستقبل، هنا تتلاشى الحدود بين العوالم، وهذا ما جعلني أتمكن من التواصل معكما في كل مرة يصل أحد منكم ترتبط روحه بجزء من تاريخ هذه الأرض".
وبفضول غريب تساءلت قمر بصوت مرتجف:
"وهل كانت ميثال هنا أيضًا؟".
أومأت إشراق بابتسامة غامضة:
"نعم، ميثال كانت هنا، وقد تركت خلفها إرثًا، لكنها ليست إرادة مكتوبة بوضوح. تركت لكم علامات تنتظر من يملك القدرة على قراءتها حينها ستعثران عليها".
نظر يونس إلى قمر، ثم إلى إشراق، سائلا بقلق: " لماذا نحن؟ لماذا يجب علينا أن نتحمل هذا العبء؟".
أجابت إشراق وعيناها تلمعان بعمق المعرفة:
"لم تختارا الطريق الذي أوصلكما إلى هنا. كما لم تختره ميثال أيضا. لأن مقرينوس لا تظهر إلا لأولئك الذين تحتاج إليهم".
ثم مدت يدها إلى صندوق صغير بجانبها، وأخرجت منه حجرًا كريمًا متوهجًا وبوصلة، مردفة:
"هذا الحجر وهذه البوصلة سيرشدانكما إلى الطريق. لكن عليكما أن تتذكرا الرحلة ليست سهلة، ستواجهان اختبارات تجعلكما تعيدان النظر في كل ما تؤمنان به ولن أكون معكمًا في بداية الأمر".
أخذ يونس الحجر، شعر بشعور غريب يسري في جسده. نظر إلى قمر مردفًا بإصرار:
"سنخوض هذه الرحلة معًا، مهما كانت الصعوبات مادام في النهاية سنصل إلى ميثال".
ابتسمت إشراق قائلة بصوت ملؤه الحكمة:
"إذن، اذهبا وكونا على يقين أن مقرينوس سترافقكما في كل خطوة، وستفتح لكما الأبواب التي تخفي أسرارها خلفها".
نهضا معًا واتجها نحو باب الكوخ، وقبل أن يخرجا، استوقفتهما إشراق بقولها:
"انتظرا!"
التفتا نحوها ليجداها تشير إلى أحد الصناديق الخشبية القديمة المتراصة على جانب الكوخ مردفة:
"يجب أن ترتديا ملابس مثل التي يرتديها الناس هنا، حتى لا يشعر أحد أنكما غريبان".
اقترب يونس ليفتح الصندوق، وجد بداخله ثيابًا واسعة ومحكمة التصميم، تحمل طابع الزمن القديم.
كانت الملابس مزخرفة بنقوش دقيقة تشبه رموزًا وأشكالًا تعود لعصر بعيد، ألوانها دافئة تتراوح بين البيج الداكن والبني وأطياف من الأزرق الهادئ.
ارتدت قمر ثوب طويل مميز، مصنوع من قماش ناعم يتدلى بحرية حول جسدها، بأكمام عريضة تصل حتى المعصمين، مزينة بخيوط فضية رقيقة على طول الأكمام والحواف، غطت رأسها بوشاح خفيف من نفس القماش مطرز عند الأطراف، ليبدو وكأنه تاج ناعم يعكس نور الكوخ.
بينما ارتدى يونس رداءً طويلاً يشبه العباءة، مزين عند الياقة والأطراف بزخارف ذهبية بسيطة، كان الثوب فضفاضًا يعطيه مظهرًا وقورًا، يمتد إلى أسفل ركبتيه، مع سروال داكن وواسع يضفي عليه راحة مناسبة للحركة، لف حول رأسه قطعة قماش داكنة كغطاء، مضيفًا بذلك لمسة من التمويه لتتناسب مع أجواء المكان وتقاليده.
وجد حقيبة داخل الصندوق أشارت له إشراق بإرتدائها ليضع بها العقد والحجر والبوصلة مردفة:
"كل ما تجده يجب أن تحتفظ به فستحتاجه كل صغيرة وكبيرة تتعثر بها".
ابتسمت إشراق برضا وهي تراهما في هذه الأزياء مردفة:
"الآن تبدوان وكأنكما تنتميان حقًا إلى هذا الزمن، وهذا حافظا على تصرفاتكما حتى لا تثيرا الشكوك، فالناس هنا يراقبون الغرباء بعناية كبيرة".
أومأ يونس وقمر وهما يشعران بثقل هذه المسؤولية، يحملا بداخلهما رهبة ممزوجة بالتطلع لما ينتظرهما.
انطلقا خارج الكوخ متخفيين بملابسهما، وكأنهما جزء من ماضي مقرينوس ذاته، مستعدان لمواجهة أسرار هذا العالم والبحث عن ميثال.
يسيران معًا في صمت، لم تستطع قمر كبح ضحكتها الصغيرة التي انطلقت بخفوت بينما كانت تسترق النظر نحو يونس بين الحين والآخر.
سار بجانبها محاولًا التظاهر بعدم المبالاة، رافعًا رأسه ومثبتًا عينيه للأمام.
لم تستطع قمر مقاومة التعليق عليه، كسرت الصمت بابتسامة خجولة أردفت بعدها:
"مظهرك يبدو كمن خرج من مسرحية تاريخية للتو".
التفت إليها بتذمر مصطنع هاتفًا:
"يحق لكِ أن تسخري، فمظهرك مرتب وأنيق وكأنك ابنة أحد السادة.. أما أنا فأشبه الكتبة الذين كنا نقرأ عنهم في كتب التاريخ".
تسرّب الضحك من بين شفتيها رغم احمرار وجهها خجلًا من كلماته، حاولت إخفاء خجلها بابتسامة متوترة.
تحدثت محاولةً كبح ضحكتها:
"لكنك تبدو لطيفًا بهذه الملابس، أعني… مناسب جدًا لهذا العصر، أقصد… لطيف بطريقة ما".
نظر إليها متظاهرًا بالجدية لكنه لم يتمكن من إخفاء ابتسامة خفيفة بدأت تتسلل إلى وجهه مردفًا:
"أوه كم هو لطيف؟ هل هذه الكلمات تعويضًا لي عن ضحكتكِ عليّ منذ قليل؟".
احمرّ وجه قمر أكثر، ضحكت مجددًا مردفة: "ربما هكذا... أو اعتبرها مجاملة إضافية مجانية، لأنك فعلاً تبدو جزءًا من هذا المكان".
ابتسم أخيرًا وهز رأسه بخفة، ثم تابع السير إلى جانبها بارتياح.
ركزت قمر على الطريق بدقة وترقب، كلما تلاقت نظراتها بنظراته شعرت بارتباكها يتزايد، تتحاشى عينيه كأنها تدرس الأرض بدقة غير مسبوقة.
سارا معًا في هدوءٍ تحت سماء مقرينوس الصافية، حيث كل شيء يبدو مشبعًا بالغموض والرهبة.
كانت قمر تتلفت حولها، تحاول استيعاب تفاصيل هذا العالم العجيب، بينما كان يونس يسير بجانبها متمسكًا بالحجر المتوهج الذي أعطته له إشراق، وكأن الضوء القادم منه يفتح أمامهما طريقًا لا يمكن لغيرهما رؤيته.
تحدثت قمر بقلق خفيف:
"ماذا سنفعل الآن؟".
أجابها ونظره على الحجر المتوهج بين يديه:
"سنرى إلى أين ستأخذنا هذه المملكة الغريبة… يبدو أن كل خطوة في هذا المكان تحكي شيئًا مخفيًا."
ازداد توهج الحجر فجأة ليظهر عليه اسم محفور بوضوح: "حقل الظلال".
نظرت قمر إلى الاسم بحيرة أردفت بها حواسها:
"أين يقع هذا الحقل؟".
هزّ يونس كتفيه بتساؤل، مجيبًا:
"لا أدري… لم أسمع به من قبل".
فكرت قمر سريعًا، مقترحة عليه:
"ربما البوصلة التي أعطتنا إياها إشراق سترشدنا إليه، أخرجها لنرى ما ستقودنا إليه".
أخرج يونس البوصلة القديمة، وبمجرد أن استقرت بين يديه، تحركت إبرتها بشكلٍ غريب وكأنها تشير على طريق 'حقل الظلال'.
اتجهت الإبرة نحو مسار خفي بين الأشجار الكثيفة، أومأ يونس برأسه مردفًا بابتسامة صغيرة:
"يبدو أنها وجدت الطريق… هيا بنا فلنتبعها".
سارا في طريق متعرج، حيث الأشجار الطويلة تمتد كأنها تراقبهما، اقتربا خفتت أضواء المكان وأصبح الجو أكثر برودة حتى أصبح الهواء أثقل، وكأن روحًا قديمة تهمس من بين الأغصان.
وصلا أخيرًا إلى حافة حقل غريب، كان أشبه بمشهد من عالم آخر.
امتد الحقل أمامهما كأنه بحر من الظلال الداكنة، تغمره سحب منخفضة تتحرك بهدوء، تغطي الأرض كأشباح تطفو عليه لتلامس أوراق الأشجار المتدلية. لا توجد أزهار ولا عشب أخضر فقط أعشاب طويلة داكنة تميل مع الرياح بهدوء، كأنها تهمس بأسرار لا يفهمها أحد.
وقف يونس وقمر على أطراف الحقل، يشعران برهبة غير مألوفة.
همست قمر بكلماتها خشية أن تزعج هذا الهدوء الساحر:
"هذا المكان يبعث شعورًا غريبًا وكأن الحقل يراقبنا".
نظر يونس حوله محاولًا التأكد من عدم وجود أي شيء غريب، مردفًا بثبات:
"هذا هو حقل الظلال قولًا ووصفًا، يبدو أنه يحمل لغزًا آخر، لنبحث عن أي إشارات".
تقدما ببطء يتتبعان الإضاءة الخافتة الصادرة من الحجر، التي بدأت تزداد كلما اقتربا من قلب الحقل.
استمرا في البحث وسط حقل الظلال، يمران بين الأعشاب الداكنة والضباب البارد، حتى توقفا أمام جدار غريب بدا وكأنه جزء من الحقل، ولكنه مصنوع من مادة ناعمة كالحجر الصقيل ومغطى بنقوش وأشكال مبهمة.
امتد الجدار في الظلام بلا نهاية، يشع منه شعور عميق بالغموض، ما لفت انتباه قمر كان فجوة صغيرة بدت كأنها تفتقد حجرًا.
اقتربت بحذر ولمست الحافة الفارغة بأناملها بحذر، ثم التفتت ليونس قائلة:
"أعطني الحجر".
تردد للحظات قارئًا في عينيها الثقة ذاتها التي رأها حين استخدموا العقد كبوابة في السرداب.
حدثته وهي تلمح تلك النظرة في عينيه:
"ربما يكون الحجر مفتاحًا لهذا الجدار، أو قد يساعدنا بطريقة ما. أحيانًا ما نفتقده يكون هو ما يفتح الأبواب المخفية".
أخرج يونس الحجر المتوهج من جيبه وأعطاها إياه محذرًا:
"ضعيه بحذر، وتراجعي للخلف فنحن لا نعلم ماذا سيحدث".
أمسكت قمر بالحجر ونظرت للحظة إلى الفراغ في الجدار، ثم وضعت الحجر في مكانه بلا تردد. التصق الحجر بشكل تام، كما لو كان جزءًا مفقودًا من الجدار.
ما إن تراجعت قمر للخلف حتى بدأ الجدار يضيء، انتشرت خطوط ضوء غامضة حول الحجر، لتشكل أنماطًا متشابكة تتماوج على سطح الجدار. شيئًا فشيئًا أخذت الأشكال تتجمع وتتبدل، كأنها ترسم لغزًا حيًا، حتى تشكلت في النهاية على هيئة كتاب غارق في ضوء باهت يبعث شعورًا عميقًا بالرهبة.
تقدم يونس ببطء وشدّ يده نحو الكتاب، وفي اللحظة التي لمسه فيها، اختفى الضوء تدريجيًا ليترك الكتاب بوضوح بين يديه.
أردف حينها بابتسامة تتخللها دهشة:
"لقد أعطيناه الحجر الذي ينقصه، فأعطانا الكتاب… أظن أنني بدأت أفهم طريقة الوصول في هذه المملكة".
وقفت قمر بجانبه تحدق بالكتاب وكأنها ترى شيئًا من أسطورة غابرة، رفعت عينيها ليونس مردفة بذهول:
"هذه المملكة لا تعطي شيئًا إلا إذا قدّمت لها شيئًا في المقابل… وكأن كل باب هنا يحتاج مفتاحًا مخفيًا في داخله".
نظر يونس إلى الكتاب بتركيز، ثم فتح صفحته الأولى، فإذا بهما يكتشفان خرائط ورسومات قديمة تشير إلى مواقع وأماكن غريبة، لم يروا مثلها من قبل، كأنها دليل لمسار لم يكتشفه أحد من قبل.
تحدث يونس بنبرة مليئة بالفضول:
" نعم أنتِ محقة، ولربما هذا الكتاب هو المفتاح التالي للوصول إلى وجهتنا".
أومأت قمر برأسها وقد امتلأت عينيها بشغف المغامرة، مردفة:
"فلنكتشف كل ما يخفيه… يبدو أن رحلتنا الفعلية قد بدأت للتو."
سار يونس وقمر في رحلة تكتنفها الأسرار، يخطوان في مملكة لا تفتح أبوابها إلا لمن يسعى بصدق، ولا تمنح هداياها إلا لمن يغامر في ظلالها. كأن مقرينوس ذاتها تعرف خطواتهما وأسرارهما الخفية. بين حجرٍ يهدي إلى كتاب، ودرْبٍ ينسج خيوطه من الغموض، وجدا نفسيهما يخوضان مغامرة لا تنتهي، عالم قديم يهمس لهما، يختبر شجاعتهما وولاءهما لجدتهما، في هذا الحقل المليء بالظلال، تعلّما أن الأبواب التي تفتح هي تلك التي تطرقها الثقة قبل اليد".
يتبع لحين نشر الفصل القادم، لا تنسوا قراءة بقية روايات المدونة منها المكتملة وقيد النشر حصريا لمدونتنا.