رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
"في أعماق المجهول، حيث لا حدود للزمان ولا يقين للمكان، يبدو أن الضياع ليس دائمًا عدوًا... بل أحيانًا هو السبيل الوحيد لاكتشاف الحقيقة.
الضباب ليس دائمًا مجرد غشاوة تخفي الطريق، بل هو اختبار للإرادة حاجز يفصل بين من يتراجع خوفًا ومن يغامر ليعبر إلى ما وراء المستحيل".
تحت ظلال شجرة وارفة حيث تتراقص الأوراق مع نسمات الرياح برفق أشبه بلحن خافت، جلس يونس وقمر تحيط بهما سكينة ثقيلة. تخترقها همسات الطبيعة يستقر الكتاب الغامض بين أيديهما ، كتلة من الأسرار التي بدت وكأنها تتحدى كل من يحاول فك شفرتها.
أمسك يونس الكتاب بيدين مترددتين، ثم فتح غلافه مردفًا بنبرة يملؤها القلق والتحدي:
"لنحاول مرة أخرى. ربما يكون هناك شيء جديد لم نكتشفه بعد".
نظرت إليه قمر بإصرار مردفة بهدوء مشجع:
"إذا كان الكتاب قد أوصلنا إلى هنا، فلا بد أن لديه المزيد ليقوله هيا افتح الصفحات وسنرى".
بدأ يقلب الصفحات واحدة تلو الأخرى، متوقفًا بعد لحظات مندهشًا، كل صفحة خالية تمامًا، بياضها يثير في نفسه إحباطًا لم يستطع إخفاءه.
مرر يونس يده على وجهه مردفًا بإحباط:
"فارغة. كلها فارغة. وكأن الكتاب قرر أن يسخر منا!".
أخذت قمر الكتاب منه بلطف، رافضة الاستسلام لما بدا وكأنه طريق مسدود، نظرت إلى الصفحات بتمعن، مردفة وهي تقلب ببطء:
"ربما لا يتعلق الأمر بما نراه الآن، بل بما رأيناه سابقًا. تتذكر الكلمات التي ظهرت من قبل؟ ألم تشعر أنها تحمل أكثر مما بدا؟ ربما إذا قرأناها مجددًا سنجد فيها خيطًا يقودنا".
رغم رؤيتها التردد في عيون يونس إلا إنها تابعت بحزم:
"الكتاب ليس مجرد أداة بل إنه مرشد، لكنه عنيد بعض الشيء لا يمنحنا الإجابات بسهولة. علينا أن نفهمه".
صمت يونس لوهلة ثم أومأ برأسه، هم بمد يده ليستعيد الكتاب لولا بدأت قراءة قمر تلك الكلمات التي ظهرت من قبل بصوت خافت.
رفعت نظرها إليه بعد لحظات من القراءة مردفة بتأمل:
"أتعلم؟ هناك مكان قد نجد فيه الإجابات. مملكة سرمد".
رفع حاجبيه بدهشة، مردفا بتردد:
"سرمد؟! تلك المملكة الأسطورية التي لا نعرف طريقها؟ كما من الممكن أن تكون مجرد خرافة يا قمر".
ابتسمت بثقة أردفت بعدها بنبرة جادة:
" معظم الأمور التي عشناها حتى الآن تبدو خرافية، لكنها أصبحت حقيقية. سرمد ليست مجرد قصة إنها مملكة تحمل أسرار الماضي مثل مقرينوس. وإذا كان هناك مكان يمكن أن نجد فيه ما نبحث عنه، فهو هناك".
تنهد يونس مردفًا بعد لحظة من التفكير:
"حتى لو افترضنا أنها موجودة، كيف سنعثر عليها؟ لا نعرف طريقها، ولا أعتقد أن هذا الكتاب سيقودنا إليها بسهولة".
وقبل أن تتمكن قمر من الرد لاحظا انبعاث ضوء خافت من صفحات الكتاب بشكل مفاجئ لهما. ارتفع الضوء تدريجيًا حتى أغرق المكان حولهما بتوهج غامض.
نظر يونس إلى قمر بدهشة، ثم مردفًا:
"قمر... الكتاب!".
أسرعت بفتح الصفحة التي ينبعث منها الضوء. ليبدأ انكشف ما بداخلها حين أصبحت الكلمات تتشكل ببطء في منتصف الصفحة.
قرأت قمر بصوت مسموع:
"إلى سرمد".
ثم اتسعت عيناها فور رؤيتها ما ظهر أسفل الكلمات بجانب خريطة معقدة الملامح تبدو وكأنها تكشف طريقًا سريًا.
أشارت نحوها مردفة:
"يونس، انظر! هذه خريطة! إنها خريطة الطريق إلى مملكة سرمد!".
حدق يونس في الخريطة بذهول مردفًا بوجه مبتسم محاولًا كبح دهشته:
"يبدو أن الكتاب قرر أن يمنحنا الإجابة، حسنًا رحلتنا إلى سرمد ستبدأ الآن. استعدي".
ابتسمت بدورها وعيناها تتألقان بإصرار:
"دائمًا مستعدة، لكن هذه المرة علينا أن نكون أكثر حذرًا. سرمد ليست مجرد مملكة. بل إنها مفتاح لما نبحث عنه".
____
تحركا ليبدأا رحلتهما على ظهر راشد ذلك الطائر الغريب الذي أصبح رفيق رحلتهما المخلص.
بدا لهما أنه يعرف الطريق كما لو كان جزءً من هذه الأرض منذ الأزل، حلق راشد بثبات فوق الغابات والوديان موجهًا إياهما بناءً على تفاصيل الخريطة السحرية.
طالت رحلتهم حتى اقتربوا أخيرًا من نقطة محددة على الخريطة، منطقة خفية وسط سلسلة من التلال الوعرة. يوجد هناك ارتفع حاجز غريب من الضباب الكثيف، بدا وكأنه ينبض بالحياة. كان الضباب أشبه بكائن حي يتحرك ببطء، يتماوج كأمواج بحر لا تنتهي، بألوان باهتة تتراوح بين الرمادي والأزرق البارد. من حين لآخر، كانت هناك أصوات غريبة تصدر من أعماق الضباب وكأنها تنادي أو تحذر.
أبطأ راشد من تحليقه عندما اقترب من حافة المنطقة، ثم فجأة أطلق زمجرة منخفضة، صوت نادرًا ما سمعه يونس أو قمر من قبل.
بدأ جناحاه يرتجفان ورفض التقدم إلى الأمام، وكأنه يشعر بخطر غامض لا يستطيع وصفه.
_"ما الأمر يا راشد؟" .
سأل يونس بقلق وهو يربت على عنق الطائر.
لكن راشد زاد من زمجرته وبدأ يتحرك بعصبية مرفرفًا بجناحيه وكأنه يريد العودة.
قالت قمر وهي تنظر حولها إلى الضباب المتماوج:
" هذا المكان ليس طبيعيًا. أشعر وكأننا... دخلنا في شيء أكبر مما توقعنا".
لم يستسلم يونس فأمسك بجناح راشد محاولًا تهدئته:
"لا يمكننا التراجع الآن! سرمد خلف هذا الضباب، وأنا واثق أن الكتاب لا يمكن أن يكون مخطئًا".
ضغط على راشد بحزم أكثر ليحثه على التقدم، لكن ذلك أدى إلى نتيجة عكسية. فجأة، انقلب راشد في الهواء بشكل عنيف، وبدأ يتحرك بعشوائية، جناحاه يرفرفان بقوة في محاولة للهروب.
صرخت قمر وهي تحاول التشبث به:
"يونس! شيء ما يحدث! لا أستطيع أن أمسك جيدًا!".
وفي لحظة خاطفة فقدت قبضتها وسقطت من على ظهر راشد نحو الضباب المتلاطم.
_"قمر!"
صرخ يونس وقلبه يخفق بجنون وهو يشاهدها تختفي وسط الضباب الكثيف. حاول السيطرة على راشد، لكنه كان في حالة هياج كامل يطير بشكل فوضوي يرفرف في كل اتجاه.
أدرك يونس أنه لن يستطيع تهدئته، فقرر سحبه بعيدًا عن المنطقة. بعد محاولات مضنية نجح في إجباره على الهبوط بعيدًا عن حافة الضباب.
قفز يونس من على ظهر راشد بتهور، بالكاد شعر بالأرض تحت قدميه وهو يركض مباشرة نحو الضباب الكثيف، نادى بأعلى صوته: "قمر!".
بدا صوته وكأنه يغرق في بحر هذا الضباب الحي، بالكاد يصل إليه صدى ضعيف، وكأن الضباب نفسه يبتلعه.
كان كثيفًا للغاية أشبه بجدار لا يمكن اختراقه. تلاشى الضوء بسرعة حتى شعر يونس وكأنه يركض داخل العدم. كلما تحرك أكثر بدا أن الهواء يثقل، يضغط على صدره يجعله يكافح من أجل التنفس. البرد كان قارسًا، يتسلل إلى عظامه رغم عرقه المتصبب من القلق. بدا الضباب وكأنه يلتف حوله، يخنق صوته ويمحو خطواته، وكأن العالم الذي يعرفه قد اختفى تمامًا.
صرخ مجددًا: "قمر!".
هذه المرة صوته كان مشحونًا بالذعر. تصور للحظة أنها تائهة هنا، وحدها، ربما مصابة أو أسوأ... لم يجرؤ على إكمال الفكرة. أصابعه تشنجت وهو يضغط عليها بعنف، كما لو كان يحاول إمساك شيء غير مرئي.
ثم سمعه صوت خافت يكاد يكون همسًا: "يونس...".
صوتها متقطعًا. ضعيفًا. لكنه اخترق مخاوفه مثل السهم. استدار بسرعة نحو مصدر الصوت، خدعه الضباب كلما ظن أنه اقترب بدا الصوت أبعد. قلبه ينبض بجنون، كل خطوة أشبه بمعركة، يرفع قدميه بصعوبة وكأنه يغرق في رمال متحركة خفية.
صرخ. ورجاؤه الوحيد أن تسمعه:
"قمر! أنا قادم! ابقي مكانك!".
أخيرًا. بعد ما بدا وكأنما مرت ساعات، لمح شيئًا يتحرك في الضباب. ظلًا باهتًا بالكاد مرئيًا، ولكنه كان كافيًا لإشعال أمله. ركض نحوها، وقدماه تتعثران بين الحين والآخر، دون أن يتوقف.
ناداها مجددًا: "قمر!".
وهذه المرة جاءه الرد أقرب. كان صوتها واضحًا أكثر، ولكنه ما زال واهنًا.
وصل إليها أخيرًا ليجدها جالسة على الأرض، تمسك رأسها بيديها وعيناها مغمضتان وكأنها تكافح ألمًا غير مرئي.
همست له بصوت مكسور:
"يونس...".
نظرت إليه بعيون مليئة بالراحة لرؤيته.
جلس يونس بجانبها يتفحص ان كانت مصابة سائلا برفق:
"قمر، هل أنت بخير؟ هل أصابك شيء؟".
كانت كلماته سريعة ومفعمة بالقلق، ولكنه شعر بخدر البرد الذي غمره أكثر وهو ينظر إلى وجهها الشاحب.
أومأت ببطء مردفة بصوتها المهتز:
"أنا بخير... فقط... الضباب... كان ثقيلًا جدًا. شعرت وكأنه يريد أن يبتلعني".
ظل يناظرها مطولا حين أبت عينه أن ترمش حتى للحظة وكأنه يريد أن يؤكد لنفسه أنها هنا حقيقية:
"لا بأس الآن. أنا هنا. لن أتركك أبدًا".
أغمضت قمر عينيها للحظة تستجمع أنفاسها، ثم همست:
" هذا المكان ليس طبيعيًا. شعرت وكأنه يحاول أن يفرقنا".
نظر حوله بحذر وكأن الضباب نفسه يمكن أن يتحرك أو يهاجم ثم أردف:
"علينا أن نخرج من هنا. لن ندع هذا المكان يأخذنا".
ساعدها على الوقوف ممسك بيدها وكأنها الحبل الذي يربطهما وسط هذا الفراغ.
بدأت خطواتهما بطيئة، مترددة، ولكنه كان مصممًا على المضي قدمًا. كلما ساروا، شعر يونس أن الضباب يتراجع ببطء، وكأن وجودهما معًا كانت القوة التي تحررهما من قبضته.
بدأ الضوء يخترق الظلام وعادت ملامح الأرض لتظهر تدريجيًا.
وقف يونس للحظة يتنهد بارتياح وهو ينظر إلى قمر التي استعادت جزءًا من قوتها، مردفًا بنبرة جادة:
"لن أدع أي شيء يفرقنا مجددًا".
ابتسمت قمر ابتسامة صغيرة رغم تعبها، مردفة بهدوء: "وأنا أعتمد عليك".
تحركا ببطء بجانب بعضهما كان يونس ممسكًا بيد قمر كأنه يمسك خيط أمل وسط الفراغ الضبابي.
بدا وكأنهما يقتربان من نهاية هذا الكابوس، حيث بدأت ملامح الضوء تخترق العتمة شيئًا فشيئًا، ومع كل خطوة يتراجع الضباب وكأنهما انتصرا أخيرًا.
فجأة تغير كل شيء أمامهم بدأ الضباب بالتحرك، في البداية أشبه الأمر بريح خافتة تعيد تشكيله، ثم ازداد حركةً وكأنه يستجيب لشيء خفي.
التفت يونس وقمر تلقائيًا للخلف إذ بهما عيناهما تتسعا رعبًا. لارتفع الضباب خلفهما بشكل مفاجئ، موجة كثيفة ترتفع إلى السماء، تكاد تبتلع كل شيء.
_"يونس...".
همست قمر بصوتها المرتجف، علقت الكلمات في حلقها وهي تشاهد الضباب يتصاعد أشبه بجيش جبار يستعد للانقضاض عليهما.
صرخ يونس دون أن ينتظر ردًا:
"اركضي!".
تبادلا نظرة خاطفة ثم انطلقا، أقدامهما تضرب الأرض بلا توقف كل خطوة كانت كفاحًا ضد الخوف الذي كاد يشلّهما. يركضان معًا كتفًا إلى كتف وقلباهما يخفقان بعنف.
يسمعان صوت الضباب خلفهما، لم يكن صوتًا طبيعيًا، بل أشبه بزئير متماوج لكائن حي يسعى لابتلاعهما.
التفت يونس للخلف أثناء ركضه، ليرى الموجة الهائلة من الضباب وهي تقترب.
صاح بصوت مخنوق:
"إنه سريع جدًا!".
حاول زيادة سرعته لكن الأرض نفسها بدت وكأنها تقاومهما، خطواتهما تغوص في طين خفي، وكأن الضباب يمد ذراعيه ليمسك بهما، الهواء أصبح أثقل، برودة غير طبيعية تخترق جلدهما، وبدت الرؤية وكأنها تتلاشى تدريجيًا، كل شيء حولهما كان يذوب في هذا الكيان الغريب.
صرخت قمر وهي تلتفت لترى الموجة على وشك الانقضاض عليهما:
"يونس!".
في لحظة سريعة شعر يونس وكأن شيئًا غير مرئي يلتف حول جسده، قوة جبارة شدّته للخلف.
مدّ يده تلقائيًا نحو قمر لكن قبضته لم تمسك سوى الهواء.
صرخت قمر مجددًا بإسمه قبل أن تبتلعها الكثافة المطلقة للضباب. حاول أن يقاوم، أن يتحرك، لكن الضباب كان أقوى، حين لفّهما بالكامل ملقي بهما في ظلام مطبق، حيث لم يكن هناك فوق أو تحت، لا اتجاهات ولا أصوات، سوى شعور بالاختناق والضياع.
شعر يونس وكأنه يطفو في فراغ، أنفاسه تتقطع وحرارة قلبه هي الشيء الوحيد الذي يذكره بأنه ما زال حيًا، حاول أن ينادي، أن يبحث عن قمر، لكن صوته لم يخرج.
وفجأة، بدأ الضباب ينسحب ببطء، ليس إلى الوراء، بل إلى الداخل، وكأنه يبتلع نفسه. ووسط ذلك الفراغ الزمني المتماوج، بدأ يونس يرى ملامح جديدة تتشكل. أرض غريبة تظهر أمامه، غابات سحرية تتلألأ بأضواء خافتة، وسماء مليئة بشفق أرجواني يتراقص بهدوء.
كان الضباب قد أخذهم... ولكن إلى أين؟
يتبع….
ترقبوا الفصل الجديد من الرواية يوم الخميس المقبل في تمام الساعة الثامنة مساءً، حيث نستكمل معًا رحلة يونس وقمر في مغامرتهم المشوقة داخل عالم مقرينوس. أحداث جديدة ومفاجآت مثيرة بانتظاركم، فلا تفوّتوا الفرصة لتكونوا جزءًا من مغامراتهما.
ندعوكم أيضًا لاستكشاف مدونتنا التي تضم مجموعة مميزة من الروايات الحصرية بالإضافة إلى روايات مكتملة تأخذكم إلى عوالم خيالية وإبداعية لا مثيل لها. تابعوا جديدنا وعيشوا متعة القراءة بأسلوب مختلف.