recent
جديدنا

الفصل الثاني

 رواية ومَا مَلَكَت أَيمَانُهُم"

بقلم أمل محمد الكاشف

إقترب من نصف جذع شجرة مخروطة الشكل على هيئة مكتب، أخرج ورقة كتب داخلها مكتوبًا ثم قام بعد انتهائه منه مقتربًا من قفص حديدي أخرج منه حمامة برية عقد الرسالة بإحدى قدميها متسلق عدة صخور محاولاً الوصول لصخرة متحركة بالأعلى زحزحها عن مكانها مطلق سراح الحمامة معيد بعدها الصخرة لوضعها الأول، قفز على الصخور بنزوله وكأنه يلعب على أوتار الآلات الموسيقية.

كل ذلك على مرأى ومراقبة منها عاد ليقترب منها وهو يحدثها بطاقة كبيرة وكأنه لم يبذل مجهود قط، قائلا:
"سمعت أنكِ ماهرة في إعداد الطعام، ما رأيك بتجربة هذه الخبرة بشكل عملي".

نظرت حولها متعجبة أين وكيف ستعد ما طلبه، اقترب أكثر منها مما زاد هذا من توترها فرغم استخشانها وإظهارها لقوتها وهزلان جسدها إلا أنها بالأخير فتاة ضعيفة يرتجف قلبها لبقائها وحدها مع رجل جديد المفترض أنه مالك أمرها وصاحب الكلمة والقرار والاخير في أي أمر يخصها.


عرجت بخطواتها وانحناء ظهرها للوراء مبتعدة عن قربه وعيونه الثابتة على وجهها الذي تعمدت اخفائه عنه.
ابتسم من جديد منحنيًا للأسفل فاتحًا بجوارها صندوق خشبي كبير كان مخبأ بجاعد الغنم ثبّت بابه برباط أعلى الحائط وهو يقول لها:
"ماذا ستعدين لنا الليلة".

نظرت داخل الصندوق لتنبهر بما في داخله من نعم وخيرات معدة ومجهزة لاتحمل البقاء خارج البراد لوقت طويل.
أشعل موقد الحطب واضعا قدر الطبخ أعلاه وهو يحدثها:
"لنضع الزبد اولا من ثم….".

تحرك وأخذ قطعة من اللحم المقدد وبدأ يقطعها لدوائر صغيرة ملقي بها أول بأول داخل القدر مستنشق رائحتها بعينيه المغلقة:       "يا لها من رائحه شهية".

ابتلعت ريقها مغلقة وشاحها على كتفيها وعنقها، استرسل باستمتاعه بتحضير الطعام مقطع الطماطم شبيهة الكرز من شدة حمرتها، واضعا البيض ذو القشرة الحمراء ، اخرج عدة أنواع من الجبن لم ترى مثلهم من قبل قطعهم لفتات نثرهم على وجه طبخته رافعا القدر بعدها من أعلى الموقد ليضعه أسفله في مكان مجوف، استدار بجلسته أرضا قائلا:
 "تبقى القليل تتمازج الجبن مع البيض واللحم ونبدأ بعدها بتناولها، هيا جهزي مائدة الطعام الملكية وضعي الخبز الخاص بالسلطنة حتى أتي إليك".

زاد من حيرتها حتى كادت ان تصدق ان هناك مائدة خشبية سيخرجها من أحد الجدران ليمدها أمامها، ابتسم برحمته
ورغبته بإخراجها مما هي به، تحرك ليضع مفرش جلد على الأرض أخذ الخبز من داخل الصندوق ليضعه بجانب القدر أعلى المفرش جالساً متربعا بجانبهم قائلا:
"هيا اقتربي كي لا تندمي على انتهائه".

ابتلعت ريقها متحدثة بصوت منخفض:
"عافية لك انا لستُ جائعة".

عاد ليبتسم بوجهه الجميل قائما من جلسته مقتربا منها كلمح البصر لتتفاجئ به يسحبها من يدها:
 "هيا لنأكل سويًا".

صُدم بخوفها وقوتها في سحب يدها من يده، رفع يديه قائلا:
"اردت أن تشاركيني طعامي".

وبخوفها اقتربت وجلست وحدها بجانب القدر لتبدأ بتناول الطعام صامتة، اغمض عينه فتحها متعجب مما رآه
هل صحيح ام انه توهم هذا، تحرك وجلس مقابلها يشاركها الطعام وهو ينظر لإنحناء ظهرها بصمت لم يدم كثيرًا حين بدأ حديثه:
"ما دمتِ خائفة ومستاءة لهذا الحد الكبير لماذا أخبرتينني بخطة أخيكِ، من الطبيعي أن تصمتِ كي تعودي للمزرعة بجواره، أو تتحدثي طالبة النجاة من ظلمه وتسلطه عليكِ باحثة عن حياة أدامية تليق بكِ، أليس هذا ما حدث؟".

نظرت بعينيها المملؤة بسحُب الحزن والقهر والظلم لقطعة الخبز الأولى التي لا تزال بيدها منذ جلوسها والاستماع له،  عاد ليكمل حديثه بنبرته العطوفة الحنونة متأثرًا بحالتها:
"ما بكِ اهدئي لا تحزني ولا تخافي يمكنني إعادتك له دون مقابل يكفي أن يرتاح داخلك ويهدأ".

أراد أن يمازحها فنادها:
"حفصة مولاتي الصغيرة الجميلة، أخت ولي العهد وابنة السلطان نجم الدين الكبير، ما بكِ أم أنكِ لا تتحدثين مع الرَعايا".

بدأت حديثها بدموعها دون رفع وجهها المنغمس داخل وشاحها الكبير:
"لا أريد العودة، لا أريد أيًا كان قدري الجديد، سأتحمل و اطيع أوامرك واتكفل بكل أعمالك بالكوخ وخارجه بمكان كسب رزقك".

أعاد كلماتها بنبرة تعجب واستفهام:
"أيًا كان قدري! تتحملين وتُطِيعيِن هنا وهناك لأجل أن لا تعودي؟ من أين أتيتِ بهذه الثقة؟ ماذا أن كنت أسوأ من أخيكِ؟ ماذا إن عنفتكِ ونهرتكِ أكثر منه؟".

صمت حين رأى الدموع تتساقط على المفرش الجلدي تألم قلبه من حزنها وما هي به فقسوة حياتها بادية عليها عليها دون أن تتحدث.

اجابتها بلحظة استسلام منها لضعفها وقلة حيلتها وهوانها:
 "نعم سأتحمل كل ذلك مادامت من عند الله، الحمدلله على كل ما يقدر من الله لنا، بسم الله الرحمن الرحيم "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، أنا أؤمن برحمة الله وإن كانت الأسباب والمسببات تظهر عكس ذلك، فلكل ليل نهار وان طال، ولكل عسر يسر ولكل هم وكرب فرج، سأفعل كل ما تريده مني واكثر وسأتحمل ما ستفعله بي واكثر بشرط أن لا تعيدني له، يكفي غش وخداع وسرقة وظلم للناس يكفي جشع وطمع وسوء أخشى أن يأخذني الله بذنبه فأفقد آخرتي قبل دنياي".

فاجأته برفع عينيها به متسائلة:
 "أليس ظلمًا كبيرًا أن أخسر آخرتي بعد تَحَمُلِ لكل ذلك".

شرد بلون عينيها الفيروزي ورموشها الذهبية التي تلمع وتشع نورًا من آثار الدموع عليها كأنه يرى خضار الهضاب بمقلتيها الغارقة بحضن قرص الشمس الذهبي.

اخفضت عينيها خجلًا حين طالت إجابته وصمته وشروده، مسحت دموعها شيئا فشيء ساحبة طرف وشاحها من اعلى ناصيتها تسدله على منتصف وجهها المخفض لتزيد من تخبئته.

أخرج صوته مجيبًا عليها:
"اتفقنا ان تم موافقتك على شروطي".

صمتت بكل آذان مُصْغِية تنتظر ثقل الأقدار المعتادة عليها منذ صغرها
أكمل ليصدمها مجددًا:
"الشرط الأول علينا أن نتقاسم الطعام دون ان يهدر إحدانا حق الآخر".

 رفعت رأسها قليلًا دون أن ترفع عنه الوشاح ليكمل هو:
"الشرط الثاني ممنوع وضع هذا الوشاح الكبير على رأسك وخاصة داخل الكوخ".

تمسكت بوشاحها واغلقته على وجهها بتلقائية كشفت عن معصمها ليعود ويذهل مما يراه، سرعان ما رفعت أكمام ملابسها الريفية لتخفي يدها بعدها أسفل الوشاح.

عاد ليكمل بنبرة حزينة:
"الشرط الأخير أن تتخلي عن خوفك هذا، عليكِ ان تتعلمي القوة والثبات امام الجميع، عليكِ ان تدافعي عن ابسط حقوقك الإنسانية".

صمتت دون إجابة ليسألها:
"هل توافقين على شروطي ام تعودي…".

رفعت رأسها سريعا لتقاطعه بخوف:
"سأفعل كل ما تريد".

ابتسم من جديد ولكن هذه المرة كانت الابتسامة ممزوجة بالحزن والشفقة:
"هيا إذا ـ تناولي طعامك لتنفيذ أول شرط من بنود الاتفاقية".

رأها تلبي الامر تأكل دون انقطاع ولا استمتاع تبتلع اللقمة لتدخل غيرها وكأنها تقوم بعمل عليها انهائه
مازحها من جديد:
"ما بكِ هل دخلتِ سباق فجأة وأيضا لا تتعدي على حقي لا زلت جائع".

قالها وهو يشاركها تناول الطعام وإظهار استمتاعه بطعم اللحم المقدد والزبد والطماطم الطازجة.

أنهيا القدر كله لتتحرك هي بجمع بقايا الخبز و وضعها باللفافة الخاصة بها مقتربة من صندوق الطعام لأول مرة لتضعه داخله، هم ليجمع المفرش الجلدي ليجدها تعود سريعًا لتجمعه قبله.

رفض قائلًا لها:
 "من الان وصاعد سنتشارك بكل شيء حتى في خروجنا بالصباح والعودة بأخر اليوم ان رغبتي بذلك طبعا".

_"كما تأمر سيدي".

شدد من ضم حاجبيه وتصغير عينيه متسائل:
" سيدي؟".

اجابته بسؤالها:
"ألستَ بسيدي ومالكِ".

حرك رأسه:
"نعم حدث هذا ولكنِ لا أريد أن اسمعها منكِ".

وتحرك بخطوات دار بها في كوخه وهو فاتح ذراعيه قليلًا:
"ما رأيك بلقب شريكي وشريكتي، نتشارك المكان والترحال والتمتع بالطبيعة حتى أنني سأجد من يستمع لأشعاري".

ظلت على حالتها مختبئة داخل وشاحها بصمت ليتحرك من جديد كي يرتب لها فراشها الجديد ومن ثم بدأ بترتيب فراشه جالسًا عليه وهو يشير لها نحو فراشها قائلا:
"هيا نامي على فراشك وللغد بقية من حديثنا".

نظرت نحوه على استحياء لتجده يخلع سترته ليبدلها بأخرى اسرعت بغض بصرها واقترابها من فراشها لتصعد عليه وتنام متقوقعة داخل وشاحها مغمضة عينيها بخوف كبير.

سمعت صوته وهو يؤكد عليها سماحه لها بالاحتفاظ بهذا الوشاح على رأسها ولكن من يوم غد سيبدأ بتنفيذ الشرط الثاني.

لم تخرج صوتها ظلت على حالتها الثابتة الغير مطمئنة فهي تعلم أنها عائدة لاخيها دون مهرب، سيبحث عنهم ويستعين بالأقوى والاذكى منه كي يعيدها، نامت على حالتها لينام هو أيضا دون التفكير بأي غدر قد يأتيه منها لا احد يعلم من اين جاءته هذه الثقة العمياء بها.

ليحدث ما لم يخطر على باله حين خرجت من الكوخ متسللة وبيدها حاملة الحطب المشتعل تلوح به من اعلى الهضاب لربما يلمح أخيها وأصحابه طرف خطاها فيسرعوا إليها كانت خائفة من استيقاظ الرجل وخروجه للبحث عنها ومعاقبتها.

قفزت بقوة للأعلى كي تهب الرياح بالحطب لتزيد من لهيبه وانارته حتى وصلت لمرادها حقا فلم يقصر أخيها بالبحث عنها وإعادتها له.

هرع هو وأصحابه بأحصنتهم حتى وصل إليها يطمئن عليها ويسألها هل لمسها او اقترب منها لتطمئن قلبه انه لم يرى وجهها بشكل كامل فرح وسألها:
"وما الغنيمة هذه المرة".

اجابته بنبرة مغرية:
"كوخ ولا بالأحلام خيرات ونعم وذهب لم ترى عيني قدره عند من سبقوه".

فرح أخيها بغنيمته الكبيرة وتحرك خلفها ليكمل عملهم بإنهاء أمر الرجل وأخذ كل ما لذ وطاب منه.

دخلت هي أولا متسللة بخفة كي تتأكد من نومه وبعدها دخل أخيها ليبهر بالكوخ من الداخل وكأنه جهز لاستقبال كبار المدينة.

اخرج الخنجر من رباط خصره مقتربًا منه شاهرا ذراعه للأعلى كي يزيد من قوة غرزه داخل قلبه، فتح الرجل المسكين عينيه متفاجئ بوضع أخيها فوقه أمسك بمعصم يده السئيل مدافعًا عن نفسه وهو يستمع لصوت غريب بالجوار يزداد كلما زاد بدفاعه عن نفسه محاولا أخذ الخنجر من السئيل.

زاد العراك ليزداد ويرتفع صوت الفتاة مستنجدة:
"ان لم يكن بك علي غضب فلا ابالي".

لم يستطع تفسير الكلمات في ظل دفاعه عن نفسه لا يصدق أُذنه التي كانت تستمع لصوتها:
 "ربي إني مسني الضر وانت ارحم الراحمين".

استيقظ من حلمه منتفضًا بجلوسه على فراشه استمع لصوتها من جديد نظر نحوها ليجدها تتحرك بنومها وكأنها تجاهد شخص ما وهي تردد الأدعية القرآنية المحفوظة ادهشته بقوة إيمانها واستعانتها بربها.

رفع الوشاح عنها وهو ينادي عليها بصوت منخفض:
" حفصة ". 

دون أن تصغي له شخصت عينيه حين رأى تلون معصميها و كاحليها باللون الأزرق ليتأكد مما شك به اعتصر قلبها على تلك المسكينة، نظر لاحتضانها لنفسها ناداها مجددًا:
 "حفصة ، حفصة، أنتِ معي ، لقد تخلصتِ منه ، حفصة".

بدأت ترتجف بقوة وكأنها بنوبة برد قوية أخذ غطاء كبير و وضعه عليها دون ثبات من شدة ارتجافها وحركتها.

وهنا قرر أن يستلقي بجانبها ليأخذها بحضنه مغلق ذراعيه عليها ومن فوقه الغطاء السميك ليهدأ ويقلل من حالتها.
توقع ان تفزع وتنتفض وتصرخ ورغم تخوفه إلا إنه لم يتردد بالتجربة لعله يهون عليها ما هي به وعلى غير المنتظر وجدها تتمسك به مختبئه بصدره مردده:
 "اللهم يا ربي اللهم يا ربي".

اغلق ذراعيه عليها بقوة متحدثًا لها بصوت رحمة كبيرة:
"أنتِ معي، حفصة أنتِ بخير ومأمن لا تخافي، لم يعد أخيكِ موجود، حفصة هل تسمعيني".

هدأت حركتها وارتجافها لتغرق بنومها العميق بعدها، أراد ان يتركها ويذهب لفراشه كي لا يخجلها أو يحزنها عند استيقاظها ولكنه نام قبل أن ينفذ ما اعتزم عليه.

ليغرقا سويًا بعالم الأحلام الدافئة حيث الهضاب الخضراء والشمس الساطعة والفراشات الطائرة المتنقلة بين الورود والزهور الملونة. 

يتبع ..

إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا. 



منها "رواية حياتي" 


رواية جديدة قيد النشر من ضمن سلسلة روايات الكاتبة أمل محمد الكاشف ..

author-img
أمل محمد الكاشف

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  • غير معرف17 نوفمبر 2024 في 8:03 م

    روعه تسلم ايدك حبيبتي

    حذف التعليق
    • Rim kalfaoui photo
      Rim kalfaoui21 نوفمبر 2024 في 6:56 م

      الله على الجمال ايه ده من الاول حضن فعلا الحضن يداوي ومسكينه كم مر على رأسها من ظلم ووجع

      حذف التعليق
      google-playkhamsatmostaqltradent