رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
في لحظة خاطفة شعر يونس كأن الأرض انسحبت من تحته ساقطًا في فراغ كبير، لم يستوعب ما يجري حوله وجد نفسه محمولا بواسطة طائر ضخم جناحاه يضربان الهواء بقوةٍ هائلة جعلته يرتجف من شدة الارتفاع.
تعصف الرياح أذنيه فاقدًا القدرة على فتح عينيه، لم يتملك بهذه اللحظة سوى أن يغرق في الأدعية يرددها بصمت كأن كل دعاء ينساب مع الرياح يصل إلى أعماق السماء لعله يجد طمأنينة.
لا يزال محلقًا بالسماء وسط هذا الفزع بجسد متوتر وعضلات يديه متشبثة بريش الطائر بشكل لا إرادي خشية الانزلاق أو أن يخطئ الطائر وجهته والأسوأ أن تقرر السماء فجأة سحب أجنحته وإسقاطه في الفضاء الشاسع.
في تلك اللحظات بدا له الفضاء ممتدًا كما لو كان يدور حول نفسه في أفق بعيد لا نهاية له.
وسط هذا الشعور العميق بالغربة والرعب صدح صوت قمر كضوء ينير عتمته، مرّ صوتها كنسيم وادع يحمل بنبرةٍ مشاكسة ساخرة:
"لو أنّ في هذا الزمن كاميرا وإنترنت، لأصبحت تريند، حتى لأقول لك كنت كسرت الأرقام القياسية للمشاهدات يا يونس يا بن هلال!"
خفف صوتها عنه قليلاً من شعور الوحدة والخوف.
فتح عينيه ببطء محاولًا رفع رأسه ليراها دون ان ينجح حين حجب جسد الطائر الضخم عنه رؤية أي شيء إلا ظل جناحي الطائر العملاق وهو يحلق بثبات، كأنهما مظلتان تمدان جسده بحماية ما. ورغم أنه لم يستطع رؤيتها شعر بقربها متأثرًا بكلماتها التي لامست قلبه وبددت بعضًا من فزعه.
لم يمض وقت طويل حتى عاد صوتها مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت نبرتها أكثر جدية و قربًا من أي وقت مضى:
"سيبطئ الطائر سرعته الآن، سأمد يدي لتمسك بها كي لا تسقط".
صوتها محملاً بدفئ وطمأنينة غريبة رغم أن الوضع لا يزال مرعبًا. لم يكن يونس متأكدًا هل الطمأنينة جاءت من صوتها أم من الوعد غير المعلن بالحماية التي تمنحها له.
تسللت أشعة الشمس الخافتة عبر الغيوم الكثيفة لتضيء المسار أمام الطائر كأن السماء ذاتها تقودهم نحو هدفهم.
شعر يونس بنبض قلبه يهدأ شيئًا فشيئًا، فتح عينيه من جديد ناظرًا حوله ليرى كيف تطير بهم فوق مملكة مقرينوس. تلألأت الأرض بعيدًا، مفصحة عن مدنها وقراها وهي تتراجع تحت أقدام الطائر كلوحة فنية رسمها فنان مبدع.
بينما كان الطائر يحلق للأعلى أكثر أحس يونس بلمسة دفء على يده عندما امتدت يد قمر نحوه تلمع بنعومة في ضوء الشمس الذي انعكس من خلالها.
تردد للحظة لا يعلم إن كان سيتمكن من الإمساك بها أو إن كانت ستنقذه من هذا الموقف أم لا، لكنه كان يعلم شيئًا واحدًا. أن قمر لن تتركه يسقط، شعر في تلك اللحظة أنه بحاجة ماسة لوجودها بجانبه كما لو أن حياتهما قد تداخلت برباط لا يمكن فصله.
أمسك يدها بثبات شعور أن يديه مشدودة إلى عالم آخر. عالم آمن بعيد عن كل المخاطر والرهبة التي عاشها. جذبت قمر يده بكل قوتها لتثبته وتمنحه الثبات الذي يحتاجه في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت.
رفرف الطائر بجناحيه ببطء ليخفف سرعته، تشبث قمر بيد يونس بقوة مقررة عدم السماح له بالانزلاق أبدًا.
بذلت مجهودًا جبارًا وهي تسحبه لأعلى حيث كان جسدها مشدود والعرق يتصبب من جبينها، وعيناها تراقبانه بعزيمة لا تهتز، حتى استقر أخيرًا على ظهر الطائر بجانبها، ليتنفسا الصعداء معًا وكأنهما عبرا عتبة من المجهول إلى الأمان.
جلس يونس بثبات على ظهر الطائر بجوار قمر، أتاح له الوضع الجديد فرصة لإلقاء نظرة حقيقية على ما كان يحلق فوقه.
كانت المملكة تمتد كواحة سحرية بجبالها وهضابها التي تتخللها مساحات خضراء زاهية، تلمع على مد البصر تحت ضوء الشمس الهادئ. لم تكن هناك أي إشارات للتلوث، لا دخان. لا أبخرة. فقط هواء نقي وكأن الرياح نفسها تتنفس عبق الأزهار النادرة التي تملأ المكان.
السماء نقية وصافية، زرقاء تتخللها بعض السحب البيضاء المتناثرة كقطن خفيف يطفو في فضاء واسع لا حدود له.
بدت مقرينوس كأنها حُفظت بعناية منذ الأزل، لم يلوثها أي تغيير ولم يشوّه نقائها أي زمن.
بينما يستمتعان بهذه الرؤية الساحرة لمحا من بعيد قبة كبيرة تعلو على قمة تلة مشجرة، تتوهج بلمعان غامض تحت أشعة الشمس. بدت وكأنها مكان عتيق مهجور لكنه لا يزال يحتفظ بملامح جلاله وهيبته، ربما معبد قديم أو ملجأ محفوظ للعابرين. قررا أن يوجها الطائر إلى هذا المكان على أمل أن يكون محطة استراحة آمنة، وربما يجدان هناك ما يعينهما على اكتشاف مسارهما التالي.
هبط الطائر ببطء على التلة مستقرًا بجوار القبة، فيما أخذ يونس وقمر ينزلان عنه بحذر. كانت الأرض مغطاة بطبقة خضراء من الأعشاب البرية الصغيرة تنبعث منها رائحة زكية تملأ المكان بعبق الأرض البكر.
تقدم الاثنان نحو القبة المحاطة بأعمدة حجرية عملاقة تزينها نقوش باهتة بفعل الزمن لكن ما زال بالإمكان تمييز بعض الرموز والأشكال التي تحمل دلالات قديمة. الهواء داخل القبة ساكنًا بشكل غريب كأن المكان يحتفظ بهدوء مقدس يمنحه شعورًا بالأمان.
وفي داخل القبة. وجدوا طاولة حجرية محاطة ببعض الشموع الذائبة، تعلوها خريطة قديمة. عند اقترابهم منها شعرا بأنها تنبض بنوع من الطاقة غير المرئية، وكأنها تحوي سرًا مختبئًا ينتظر من يكتشفه. كانت الخريطة تشير إلى مواقع مجهولة والنقوش الموجودة بها بدأت تلمع بشكل خافت عند لمسهما لها كأنها ترد على حضورهما.
بهذه الرموز أدركا أن هذه القبة ليست مجرد مأوى، بل هي نقطة انطلاق نحو جزء آخر من مهمتهما.
وقف يونس فجأة وقبل أن تتعمق قمر بالنظر إلى الخريطة المرسومة على الطاولة الحجرية، أردف بصوت خافت لكنه جاد:
"يجب أن أوضح سبب ذهابي…".
ابتسمت قمر وهي تقطع جملته مردفة بلهجة واثقة:
"أعلم أن فتح باب القبة لم يكن بدون ثمن، لقد دفعنا هذه المرة بشيء معنوي. التضحية كانت أفضل شيء يمكن تقديمه لمكان وفر لنا الحماية".
ثم توقفت وهي تشير إلى حقيبة يونس التي كانت ترتديها على كتفها وأكملت بنبرة خفيفة:
"ومنحنا الكتاب الذي سيكون مرشدنا طوال الرحلة، ومنحني أيضًا...".
ترددت لوهلة، ثم أضافت بضحكة صغيرة وهي تلمح إلى الطائر: "راشد".
نظر يونس إلى الطائر الجالس في الخارج على أحد الأعمدة الحجرية يراقب بصمت وكأن اسمه الجديد يعجبه.
ابتسم يونس ممتنًا لقمر مردفًا بتقدير:
"لأول مرة، أحد يفهمني دون الحاجة إلى تبرير وشرح طويل".
رفعت كتفها بتلقائية وببساطة ردت بعدها بابتسامة عفوية:
"كل شيء واضح لا داعي للشرح".
ثم نظرت إليه نظرة ساخرة بنبرة مليئة بالتحدي وأضافت مهددة بضحكة متخفية:
"ولكن إن فكرت وتصرفت من تلقاء نفسك مرة أخرى، فحينها سأسلط عليك راشد!".
ضحك رغمًا عن توتره ونظر إلى الطائر الذي أمال رأسه قليلًا كما لو كان يشاركهما المزاح.
رد بتحدٍّ مرح:
"آه راشد! حسنًا، لن أتجرأ على مخالفة أوامرك بعد اليوم، يا سيدتي!".
ثم مدّ يده وكأنما يعقد اتفاقًا رسميًا، ولمسة من الدعابة في عينيه. مدت قمر يدها وصافحته، ليشعر كلاهما للحظة بتمازج روح الدعابة مع الثقة العميقة التي نشأت بينهما.
ما إن صافحها يونس حتى انبعث وميضٌ خافت من داخل الحقيبة التي كانت قمر ترتديها. تبادلا النظرات للحظة، ثم أسرعت تفتش في الحقيبة بحثًا عن مصدر الوميض لعلها تكتشف ما الذي يبعث هذا الضوء الغريب.
لم يمر وقت طويل حتى أخرجت الكتابين اللذين كانا في الحقيبة، الأول من حقل الظلال، والثاني الذي وجداه في القبة.
وضعت الكتابين على الطاولة الحجرية، وفور أن فعلت ذلك ازداد وهج الكتابين حتى اضطرا للتراجع خطوة للخلف مبهورين و منبهرين بما يحدث أمامهما.
وميضُ الكتب كان كأنه ينبض بالحياة، يتوهج ويخفت في ترددٍ يشبه إيقاع دقات القلب. يكاد يوقفهما الذهول عن النطق.
تراجعا خطوة إلى الخلف. فلم يكن ما يحدث أمامهما مجرد ظاهرة بصرية، بل كان أشبه برقصة مهيبة للطبيعة ذاتها، كما لو أن روحًا قديمة سكنت الكتب وقررت الإفصاح عن أسرارها لأول مرة منذ قرون.
راح الكتاب الأول الذي حصلوا عليه من حقل الظلال يتوهج باللون الفضي الباهت، كأنه مغطى بضوء القمر.
أما الكتاب الثاني من القبة فكان وهجه ذهبيًا دافئًا، مثل شعاع الشمس ساعة الشروق. وما إن بدأ الكتابان يتجاوران على الطاولة حتى بدا كأن الضوءين الذهبي والفضي يندمجان ويشكلان هالة نورانية ساحرة، تحيط بالكتابين و تتمازج بخفة ورشاقة، كأنها خيوط من حرير الهواء ذاته.
شعرت قمر بيدها ترتعش قليلاً لكنها لم تستطع مقاومة التحديق، عيناها متسعتان بدهشة تكاد تشلّ حركتها. همست ليونس بصوتٍ خافت، كأنها لا تريد أن تكسر سحر اللحظة:
"ما الذي يحدث؟ كيف يمكن أن يكون هذان الكتابان… حيّين؟".
أجابها يونس بصوت مذهول لم يعتده هو نفسه:
"لا أعرف… كأنهما يحملان سرًا لم يفصح عنه أحد منذ دهور. كأننا شهود على طقوس تعود لعصر سحيق."
وبينما كنا يتبادلان النظرات، بدأت الصفحات تتقلب كعاصفة خفيفة تتسارع شيئًا فشيئًا حتى بدا أن هناك قوى خفية تعبث بها. أصوات الورق المتقلب تزداد وتيرتها تحاكي همسات غير مفهومه، تروي حكاياتٍ من زمنٍ بعيد لا يصلهم سوى صداها الغامض.
بدأت فجأة الصفحات تتحرر من إطارات الكتب، لتطير في الهواء كأسراب من الفراشات اللامعة، تلتف حول قمر ويونس في دائرة ضوئية متوهجة، لم يكن ما يجري أمامهما مجرد تفاعل غامض للكتب، بل كان أشبه بطقسٍ قديم كأن الأرواح التي كتبت تلك الأسطر قد عادت لتظهر.
في تلك اللحظة أصدر "راشد" صوتًا غريبًا، صوت عميق مترنح بدا كأنه أتى من أعماق وادٍ بعيد، أو كصرير الصخور وهي تتحرك تحت ضغوط خفية. حلق "راشد" فوق القبة نافشًا ريشه الكثيف وفاردًا جناحيه بكل عظمة وكأنه يحرس طقوساً مقدسة، يحجب الأنظار عن هذه اللحظة الاستثنائية. ظلّ يرفرف ببطء وجناحاه الواسعان يمتدان فوقهما كغطاءٍ واقٍ.
بينما كانت الأوراق تطاير وتدور حولهما، لاحظ يونس أن بعضها يحمل نقوشًا لم يرَ مثيلها من قبل، رموزًا وأحرفًا متشابكة تتوهج بالضوء الذهبي والفضي على حد سواء. حاول أن يمد يده ليلمس إحدى الصفحات، سرعان ما تراجعت الصفحة مبتعدة، كأنها تدرك حركته وكأنها كائنٌ واعٍ بحد ذاته.
راح الضوء يزداد توهجًا مع كل لحظة، وكلما تعاظم التوهج زاد وهج الخريطة على الطاولة، فأصبحت هي الأخرى تنبض وكأنها تنادي الصفحات المتطايرة لتندمج معها.
تحركت الخريطة ببطء وبدأت تتداخل مع الصفحات، كأنها تحلّ رموزها لتلتقي بمحتوى الكتب، وبدأ الضوء يخفت تدريجياً مع اكتمال هذا التمازج العجيب.
وفي النهاية جمعت الصفحات المتناثرة نفسها ببطء، وتجمعت فوق الطاولة كأنها مغناطيس يجذبها إلى نقطة واحدة، لتكوّن كتابًا واحدًا أكثر ضخامة وأعمق هيبة، أشبه بمجلد عظيم يحتفظ بكل الأسرار التي كانت موزعة في تلك الأوراق. له غلاف ثقيل منقوش عليه نقوش تتداخل فيها الألوان، تارة ذهبية وأخرى فضية، وكأن كل جزء من الكتاب يمثل قوة قديمة توحدت لتكون هذا المجلد.
وقفا يتأملان الكتاب الجديد بدهشة غير قادرين على تصديق ما حدث للتو. هذا الكتاب لم يكن مجرد مرشد لقد أصبح رابطًا حيًا مع الزمن، يهمس لهما بأسرار الماضي، ويفتح أبوابًا لمغامرات قادمة منتظرًا منهما أن يكونا جزءًا من قصته.
ما زالا واقفين أمام الكتاب الجديد، تحدق أعينهما في الغلاف العظيم كأنهما أمام قطعة من الأساطير التي لم يتخيلا يوماً أن يلمساها بأيديهما. أنفاسهما متلاحقة، تختلط بين الفضول والخوف. كيف تجمعت الصفحات بهذه الطريقة؟ ولماذا بدا الكتاب كأنه يحمل رسائل خفية لم تكشف نفسها إلا الآن؟.
تقدمت قمر ببطء وقد ارتجفت أناملها وهي تقترب من الكتاب، كأنها تشعر بأنه حي، وكأن لمسة واحدة قد تفتح أمامها بوابة لعالم جديد.
حين لامست قمر أطراف أصابعها الغلاف، فتح الكتاب تلقائيًا على صفحة بيضاء ناصعة.
اتسعت عينا قمر بدهشة فقد بدأ الحبر ينساب على الصفحة تلقائيًا، كأن الكلمات مخفية بحبر سري وبدأت تظهر ببطء لتتكوّن أمامهما سطور واضحة بلغة عربية.
بدأت قمر تقرأ بصوتٍ منخفض، وكأنها تحاول استيعاب كل كلمة تتكشف أمامها:
"بعد أن تم إلغاء زواج الأميرة منيفة بسبب العقد، اعتقد الجميع أن والدها الملك إيليادور مجنون فهذا ليس لسببًا لإلغاء الزواج، ولكنه لم يكن كذلك. فهذا العقد هو سر من أسرار بقاء مقرينوس، إن ضاع ضاع أثرها، وحيثما كان العقد ستظهر مقرينوس".
توقفت قليلاً لتتنفس بعمق ثم تابعت القراءة وقد زادت نبرة الدهشة في صوتها:
"هذا العقد هو مهر الأميرة الذي تم تقديمه من أمير مملكة سرمد، وبسببه قامت الحرب و انعدمت الثقة بين المملكتين، فهو ليس مجرد عقد بل هو ضمان بقاء إحدى المملكتين. ضحى به ملك سرمد، ولم يحافظ عليه ملك مقرينوس".
أنهت قمر القراءة وقد بدا على وجهها مزيج من الحيرة والانبهار.
رفعت نظرها نحو يونس وسألته بنبرة قلقة:
"هل تفهم شيئًا؟".
هز يونس رأسه بالنفي متحيرًا من عمق الغموض في الكلمات، مد يده نحو باقي صفحات الكتاب يقلبها ببطء لعل هناك إشارة أخرى أو تفسير لما قرأته قمر، لكن الصفحات كانت بيضاء تمامًا، كأن كل ما أراد الكتاب أن يقوله قد انحصر في تلك الصفحة الواحدة.
حاول يونس استيعاب الكلمات الغامضة التي ظهرت أمامهما، مردفًا بتردد:
"يبدو أن هذا العقد ليس مجرد قطعة ثمينة بل مفتاح… أو ربما بوابة لبقاء مملكتهم".
أومأت قمر برأسها، محاولة تحليل الأحداث:
"إذا كان العقد يحمل بقاء مملكة مقرينوس… فكيف عثرنا عليه وسط اغراض جدتك، وهل فعلاً هو مرتبط بالأميرة منيفة وملك سرمد؟".
فكر يونس للحظة:
"ربما يكون هذا الكتاب هو المرشد الذي سيقودنا لنفهم أكثر. لو كان حقًا هو المفتاح، فلابد أن هناك شيئًا آخر مخفي أو ربما هذا الكتاب يحمل رسائل تظهر تدريجيًا مع تقدّم رحلتنا".
ألقى نظرة على الكتاب بعناية وكأنه ينتظر منه إجابة أو توضيحًا، ثم أردف بنبرة مطمئنة:
"هذا الكتاب اختار أن يكشف لنا بعض أسراره… ربما يريدنا أن نفهم القصة تدريجيًا. والأهم الآن هو ألا نفقد الأمل. مهما كانت هذه الأسرار معقدة سنكتشفها معًا".
ابتسمت قمر وهي تتنفس بعمق، وقد عادت الثقة لقلبها، مردفة بمزاح:
"إذن. لدينا دليل غامض، وكتاب يظهر رسائل سحرية، وطائر لا يفارقنا. أظن أن رحلتنا أصبحت أكثر تشويقًا بكثير مما تخيلنا".
ضحك يونس وهو يستشعر الثقة التي بدأت تتشكل بينهما، مردفًا بجدية ممزوجة بالمزاح:
"هذا صحيح، لكن حاولي ألا تتسرعي في استكشاف الكتاب أكثر مما ينبغي، وإلا قد يظهر سرٌ آخر لم نتوقعه ولا نستطيع التعامل معه".
أخذ الكتاب بين يديه بحذر وأعاد النظر في الصفحة التي انكشف فيها السر الأول، وكأن كل كلمة فيها أصبحت محفورة في ذاكرته. حينها أدرك يونس أن هذا الكتاب ربما يحمل أدلة أخرى ستكشف عن نفسها مع الوقت، وأن أسرار مقرينوس بدأت للتو في الظهور، وبأن رحلتهما قد تكون أصعب وأكثر تعقيدًا مما كان يظنه.
تحرك بإرهاق ليجلس على أحد المقاعد زفرًا ببطء مردفًا بعده بنبرة متعبة:
"أريد أن أستريح. أشعر وكأن جسدي بأكمله يحتاج لنوم يوم كامل".
تطلعت إليه قمر مردفة بنبرة يائسة مازحة:
"مع احترامي لجروحك ووجهك المشوه هذا، لكن منذ أن جئنا إلى هنا ولم نأكل شيئًا. أظن أننا لن نعيش على هذا الحال طويلاً، يا يونس".
رفع حاجبيه مستغربًا وسألها ممازحًا:
"آه، أنتِ قلقة على بقائنا أم أنك جائعة؟".
أومأت برأسها وهي تبتسم بسخرية:
"الجوع أقوى من كل المشاعر يا صديقي! قد أبدأ بأكلك إن لم نجد شيئًا قريبًا".
ضحك يونس على مزاحها وأجاب بنبرة فكاهية:
"معك حق، لكن ماذا سنأكل؟ نحن في مكان معزول وكأننا في طرف عالم آخر".
ابتسمت بثقة، وأشارت بإصبعها نحو الخارج، مردفة:
"هذه الطبيعة من حولنا نقية، لابد أن نجد فيها شيئًا يصلح للأكل. لننزل ونبحث عن أي خضار أو فاكهة".
وافقها يونس مردفًا:
"فكرة جيدة، ولن أعارضك فلننطلق".
تحركا نحو الخارج وعندما وصلا إلى الحافة، حام راشد بجناحيه العريضين مرحبًا بمساعدته لهما. تبادلا نظرة متحمسة ثم اقتربا من الطائر، الذي أسعفهما بالهبوط في سلاسة إلى أحد الحقول المحيطة.
اتسعت عيونهما دهشةً من روعة المكان عند وصولهما إلى الأرض، الحقل ممتدًا أمامهما بخضرة زاهية، مغطى بأنواع متعددة من الفاكهة والخضراوات، وكأنهما وقعا في جنة على الأرض.
هنالك شجيرات صغيرة محملة بثمار التوت الزاهي، وتفاح لامع كأنه مرصع بأشعة الشمس، وأشجار برتقال متدلية بثقل حباتها الناضجة، وأرض غنية بمزيج من نباتات الخس وأوراق النعناع التي تفوح برائحتها العطرة.
حدقت قمر في هذا المشهد الساحر، مردفة بانبهار:
"هل هذه جزء من الدنيا؟ إذا كانت مقرينوس بهذا الجمال، فما بالك بالجنة وما فيها!".
ضحك يونس مردفًا:
"بالتأكيد ستكون الجنة أجمل… لكن حتى الآن، أعتقد أننا قد وجدنا موطنًا مؤقتًا للطعام".
بدأ يونس بجمع بعض الفواكه والخضراوات، وراح ينتقي الأجمل منها ويضعها في قطعة قماش حملها معه. وبينما كان يملأ يديه بالثمار الناضجة، اردفت له قمر ممازحة:
"خذ بقدر حاجتنا فقط، لا أريد أن أحملك مسؤولية فناء مخزون الفواكه من مقرينوس!".
ضحك يونس وردّ مردفًا:
"لو أننا بقينا هنا طويلاً، ربما سأحول هذا المكان إلى بستانٍ رسمي وتصبحين أول زبونة فيه".
بعد أن جمعا ما يكفي من الخضراوات والفواكه، تحركا نحو مجرى مائي قريب، كانت مياهه نقية كالبلور، تعكس صورتهما كأنهما ينظران في مرآة طبيعية. انحنيا ليغسلا الثمار، وارتويا من الماء العذب، ثم جلسا بجوار المجرى، يأكلان بشهية ويتبادلان الأحاديث، وكأن كل قضمة من الثمار تجدد طاقتهما وتعيد إليهما الأمل.
بعد أن شبعا وأشبعا روح المغامرة في قلبيهما، جمعا ما تبقى من الفاكهة في قطعة القماش، ليأخذاه معهما حتى الصباح.
تبادلا نظرة ممتنة لبعضهما و للحظات السلام التي جمعتهما، حيث شعرا ولو للحظات أنهما مجرد روحين هادئتين يعيشان في حضن الطبيعة، بعيدًا عن كل تعقيدات مهمتهما وأسرار مقرينوس.
جلسا بجوار المجرى وقد بدا الجو هادئًا تمامًا، وكأن مقرينوس تمنحهما لحظة سلام لا تشبه ما اعتاداه في حياتهما المزدحمة.
أخذ يونس نفسًا عميقًا ثم نظر إلى قمر وهو يردف لها بنبرة دافئة وعينين تحنّان إلى البعيد: "أشتاق لجدتي كثيرًا كانت هي الوحيدة التي أشعر معها بالأمان الحقيقي".
ابتسمت قمر بتعاطف وسألته:
"وألا تشتاق لوالدتك؟"
تنهّد ثم أجاب بنبرة مزيج من الحزن والتأمل: "طبعًا أشتاق، لكن الأمر مختلف. لطالما كنت معتادًا على بُعدها عنا. كانت تتركنا أنا وأختي، لعام أو اثنين أحيانًا لتسافر مع والدي. وكنا في هذه الأوقات نكتفي بما ترسله لنا من مكالمات أو رسائل الأمور، كانت جيدة طالما أن علاقتهما بخير. لكن حين يتشاجران تأتي لتبقى معنا، مهددة والدي بأنها ستأخذنا بعيدًا عنه إذا لم ينفذ ما تطلبه".
انحنى قليلاً كأن الذكريات تثقل صدره، وأكمل:
"استمر هذا الوضع حتى ضجر والدي ذات مرة ورفض الاستجابة لمطالبها. تركنا لها ومضى تزوج وأنجب غيرنا، ويعيش الآن حياته بطريقته الخاصة. جدتي كانت الوحيدة التي لم تتخلَّ عني أبدًا، لم تفارقني يومًا واحدًا".
نظر إلى قمر نظرة حائرة وأكمل بمرارة:
"لكن في الفترة الأخيرة، أنا من ابتعدت عنها بإرادتي. كانت النتيجة أنني خسرت نفسي، خسرت مستقبلي، وخسرتها هي أيضًا".
قاطعته بنبرة مواساة:
"ستجدها وستعتذر منها و تصلحان كل ما فسد بينكما. لا تنسَ أن هذه غاية وجودنا هنا، أليس كذلك؟".
تأمل يونس كلامها بعمق، ثم سألها مترددًا:
"قمر… هل تكملين هنا فقط لأجل أن نجد ميثال؟".
نظرت إليه للحظة تحاول تجنب ما يخبئه سؤاله من مشاعر، مردفة بحذر:
"أكيد، هذا هو الهدف".
نظر إليها مستغربًا، مردفًا بنبرة متهكمة:
"يعني قررتِ خوض هذه المغامرة لأجل إنسانة استقبلتك ببيتها أيامًا قليلة، وها هي بناتها الآن يدبرن قضية حجر ضدها؟".
شعرت ببعض الارتباك حين أدركت أنها يجب أن تخرج من هذا الحديث، فأسرعت بتغيير الموضوع مردفة:
"لنترك هذا الآن… قُل لي، في أي مجال كنت تدرس او المجال الذي كانت ميثال تريدك أن تدرسه؟".
أجابها يونس بابتسامة خفيفة:
"الهندسة".
ضحكت قمر ضحكة سريعة وردّت بتلقائية دون تفكير: "الحمد لله أنك لم تكمل بها!".
توقفت للحظة تدرك ما قالت، ونظرت إليه بعينين متفاجئتين وهي تراه ينظر إليها نظرة مطولة يحملق فيها وكأنه يطالبها بتفسير لما قالته.
ضحكت محاولة تبرير موقفها، مردفة بخجل:
"آسفة، لم أقصد الإساءة… فقط لديّ عقدة من المهندسين. خطيبي السابق كان مهندسًا، وهو أحد الأسباب التي دفعتني للهرب من بلدي والقدوم إلى مصر. لهذا أكرهه، وأكره جميع المهندسين".
نظر يونس إليها بصمت، وكأن كلماتها جعلته يرى مشهدًا أعمق من مجرد اعتراف بمشاعر تجاه مهنة معينة.
حدّق فيها للحظة أطول من المعتاد، وكأن ملامحها تحوّلت إلى رمز لأشياء كثيرة عجز عن البوح بها.
شعر بشيء في داخله يتحرك، شيء حاول أن يُخفيه خلف أسوار من الإنكار والتجاهل، لكنه رغما عنه يطل برأسه دون استئذان.
ضحك فجأة ولكن ضحكته كانت ممزوجة بنبرة غامضة، مردفًا:
"وأنا… أكرهه، وأكره جميع المهندسين".
قالها وكأنه يقصد شيئًا آخر تمامًا، وكأن كلماته كانت رسالة مبطنة لا يفهمها حتى هو. تلاقت أعينهما لوهلة، وفي تلك اللحظة شعر بثقل ماضيه يختفي وكأن قمر بوجودها وكلماتها قد سحبت شيئًا من وجعه.
ضحكا معا ضحكات خفيفة لكنها مليئة بالدفء، لم يكن يونس يعرف هل كانت الضحكة تخفي مشاعر لم يكتشفها بعد أم تكشف عنه، أم أنها محاولة للهروب من فكرة ربما يخشى مواجهتها.
أصوات ضحكاتهما تعلو فوق أمواج ذكرياته، تلك الذكريات التي كانت في السابق تزعجه وتثقل عليه، لكنها الآن تبدو كأنها تذوب تحت سماء مقرينوس الصافية التي منحتهما لحظة نقية لا تخضع لأي تفسير، لحظة من الوضوح الغامض الذي يحمل بين طياته أكثر مما يُقال.
هدأ الضحك تدريجيًا ووجد يونس نفسه يتساءل في داخله لأول مرة:
"ما الذي يعنيه وجود قمر بجانبه؟".
يتبع…
ترقبوا الفصل القادم يوم الإثنين عند الساعة الثامنة مساءً حيث سنستكمل أحداث الرواية وتأخذنا في مغامرات جديدة! لا تفوّتوا الفرصة لمصاحبة مع يونس وقمر في رحلتهم المثيرة في عالم مقرينوس.
كما ندعوكم للتجول في المدونة وستجدوا مجموعة متنوعة من الروايات الحصرية التي ننشرها أولاً بأول، إلى جانب روايات أخرى مكتملة.