رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
مخطط من زمان فات.
عم الصمت المحفوف بالتوتر أرجاء الغرفة، لا زالا على وضعهما أمام أمام اللوحة، حاول يونس استجماع أفكاره.
فجأة، اجتاح جسد يونس ألم شديد كطوفان جامح. لم يكن احساسه عابرًا وكأن شيئًا خارج إدراكه يعصر جرح ذراعه بوحشية غير مبررة.
وضع يده على جرحه كي يحميه مما يفتك به صارخًا تلك الصرخة التي ارتد صداها عبر جدران الغرفة.
كانت صرخة حاملة مزيجًا من الرعب والاستغراب. كل شيء بدا كأنّه يتآمر عليه، يحيط بهِ طوق خفي من الألم الخالص.
لم يكن لقمر لحظتها وقت للتفكير، أمسكت يده بحركة غريزية وأبعدتها عن ذراعه المصاب، ثم بدأت تفحصه بنظرات مشوبة بالقلق الشديد، شقت ذراع قميصه تفتش عن دليل ملموس يفسر هذا الألم المفاجئ.
ألجمتها الصدمة حين لم تبصر أثرًا لذلك الجرح. كانت تتوقع رؤية علامات الالتهاب أو لربما عدوى بدأت تتسلل إلى الجرح، لكن ما رأته أو ما لم تراه كان غريبًا.
ذراعه نقيّا كأن لم يمسسه سوء من قبل، لا ندبة ولا خدش ولا أثر لأي جرح، الجلد أملس حتى أنها لم تجد أية علامة تدل على وجود الجرح الذي كانت متأكدة منه.
_"مستحيل!"
تمتمت بها بخفوت وهي تتراجع خطوتين إلى الخلف، يداها ترتعشان وملامح وجهها محاطة بهالة من الذهول المطلق.
فقدت توازنها وسقطت جالسة على الأرض بعد أن تملكتها قوة لا تفهمها.
لحظة صمت سادت المكان كأن الزمن وكل شيء توقف عن الحركة، عدا دقات قلب قمر المتسارعة وهي تحاول استيعاب المشهد.
بدأ الألم في جسد يونس يتلاشى تدريجيًا، وكأنّ ما كان يقبض على روحه قد رفع، رفع رأسه ببطء لتلتقي عيناه بنظرة قمر المذهولة وهي جاثمة أمامه.
أخذ يتفحص ذراعه حيث كانت تنظر، ليتسلل الذعر إلى قلبه حين رأى ذراعه خاليًا تمامًا من الجرح الذي كان يعذبه، لم يستوعب ما يحدث تردد في عقله ألف سؤال ولم يجد لها إجابة.
اقترب ببطء من قمر مردفًا بصوت مليء بالاضطراب:
"قمر هل ما أراه حقيقي؟، كيف. كيف اختفى الجرح؟، لقد كان موجودًا وبيدك ضمدته، أليس كذلك؟"
لم تجبه بلسانها ظلّت تنظر إلى ذراعه بثبات مفاجأتها، ثم همست بصوت يكاد لا يُسمع وكأنها تخشى أن تنطق بالكلمات:
"هذا ليس طبيعيًا، هناك شيء، شيء يتلاعب بنا، هل يمكن أن يكون هذا… بسبب الغرفة؟ أو ربما بسبب اللوحة أو البردية؟"
نظر إليها وعيناه تحملان خوفًا تجاوز الألم الذي كان يشعر به قبل لحظات. لم يصبح الألم الجسدي هو المشكلة الآن بل ظهور هذا اللغز الجديد أضاف مزيدًا من الغموض على ما يعيشانه.
تردد في ذهن يونس صوت مألوف أتاه من بعدٍ آخر يهمس بأذنه
•"أثر مقرينوس لن يزول إلا عندما تعود إلى زمنك الحقيقي".
* "الغرفة الموجودة في القصر، التي نادتك وجلبتك إلى هنا، ستخبرك".
* "انتظر حتى تعود إلى القصر. هناك حيث ستقف في منتصف الغرفة ليحدث شيء غريب بالنسبة لك سيرشدك إلى ماهية الوريث".
اهتز كيانه وهو يتذكر تلك الكلمات التى أخبرته إشراق بها، تعلقت عيناه بذراعه وكأن شيئًا ما ينتظر أن يتجلى، شعر بظل من الحيرة والخوف، وكأن اللغز يزداد تعقيدًا مع كل لحظة.
نهضت قمر من مكانها تحمل في نظراتها مزيجًا من القلق والفضول، مردفة بصوت ثابت:
"يجب أن تخبرني بالتفصيل بكل ما مررت به حين كنت وحدك هنا".
رفع يونس رأسه مردفًا بنبرة مليئة بالغموض:
"لم أكن بالغرفة".
ازدادت علامات الاستفهام التي اجتاحت ملامح قمر، ليضيف هو بابتسامة مترددة:
"أخاف أن أخبرك بما حدث معي فتقولين إني مجنون".
ابتسمت قمر برفق، مردفة:
"منذ أن انفتحت هذه الغرفة وكل شيء يدعو للجنون، ولكني سأحاول استيعابه، أخبرني ماذا حدث معك".
تردد للحظة قبل أن يلتفت نحو النافذة، وبدون أن يرفع صوته، أردف:
"هذه ليست نافذة عادية. إنها ممر لعالم آخر".
تعمقت الدهشة في نظرات قمر، لكنها لم تقاطعه انتظرت ليكمل ما يقوله بنبرة متوجسة:
"رأيتُ أشياء لوهلةٍ شعرتُ وكأنني في مكانٍ وزمنٍ مختلف. سمعت أصواتًا، شعرت بوجود أشخاصٍ أو أرواحٍ لا أستطيع أن أصفها".
نظرت إليه قمر بتركيز، وعيناها مليئتان بالأسئلة التي خرجت بعضها منها:
"ولهذا سألتني عن السفر عبر الزمن؟"
ضحك يونس بخفة سخرية ما هو واقع به ثم أردف:
"هل تؤمنين بالسفر عبر الزمن؟".
ترددت للحظة أجابته بعدها بنبرة هادئة:
"أنا لا أؤمن به بالمعنى التقليدي، ولكن لديَّ معلومات عنه قرأت كثيرًا عن نظريات العلماء حوله، يُقال إن الزمن ليس خطًا مستقيمًا بل سلسلة من الطبقات التي يمكن أن تتداخل في ظروف خاصة، بعضها يتحدث عن فجوات زمنية، وأخرى تشير إلى بوابات تصل إلى أزمنة أخرى".
تقدم يونس خطوة نحوها بعينين تلمعان بالفضول:
"وهل تعتقدين أن هذه النافذة يمكن أن تكون بوابة؟".
تجولت بنظراتها بين النافذة ويونس، وكأنها تحاول استيعاب فكرته الغريبة مردفه:
"لديّ الكثير من التساؤلات، ولكن… نعم من الممكن نظريًا فهناك بعض العلماء الذين يعتقدون أن الأماكن المشبعة بالطاقة الغريبة قد تكون بوابات طبيعية".
هتف وهو يحدق في النافذة:
"أذكر أني شعرت بجذب غريب كلما اقتربت منها. وكأنني أُسحب نحوها".
ارتفع حاجبا قمر وهي تسمعه، ثم سألت بصوت منخفض:
"هل تعتقد أن هذه النافذة قادتك إلى الماضي، أو لربما إلى زمن تلك المملكة؟".
هز يونس رأسه ببطء وكأن عيناه متعلقتان بمكانٍ ما بعيد مردفًا:
"هذا ما أخشاه… أو ما آمل. ربما هناك إجابة تنتظرنا في زمن آخر، وعلينا أن نكتشف طريقة للوصول إليها"
رفعت قمر يدها بحركة تأمل وكأنها تحاول تجميع شتات أفكارها قبل أن تقول:
"العلماء يتحدثون عن نظريات تتعلق بالموجات الزمنية، ويُقال إن بعضها قد يستجيب لأشخاص معينين، قد يكون هناك شيء فيك أنت أو ربما فيّ أنا، يجعل هذه النافذة تتفاعل معنا".
ابتسم وهو يتطلع إليها مردفًا:
"إذا كانت لدينا القدرة على العودة في الزمن، هل تعتقدين أننا سنجد أجوبة؟".
نظرت إليه وكأنها ترى فيه عالمًا جديدًا مليئًا بالأسرار:
"ربما نجد أجوبة… أو ربما نجد أسئلة جديدة. لنكتشف ذلك معًا حتى نصل إلى ما يدلنا على مكان ميثال، لأننا الآن لسنا مجرد باحثين عن إجابة، نحن وهي جزء من هذا اللغز".
استدارت تحدق في الغرفة كأنها تبحث بين زواياها عن إجابات، وبدأت تقول بتأنٍ:
"إذًا… تقول إن البردية تعود لمملكة تُدعى مقرينوس، واللوحة هنا تشير إلى أن مقرينوس هي 'قمر يونس'، إذًا لست وحدك المعنيّ بالأمر نحن الاثنان".
قاطعهها بسرعة، مردفًا:
"لقد أخبرتني فتاة تُدعى إشراق أن جدتي لديها وريث… أو بالأحرى خليفة سيخلفها بمهمتها هناك، لكنه ليس أنا".
توقف الزمن للحظة وأخذت قمر تكرر الاسم بصوت منخفض، كأنها تبحث عنه في بقايا ذاكرة قديمة:
"إشراق… إشراق… هذا الاسم… أعرفه. لطالما تردد همسه في أذني… في كل ليلة قضيتها هنا".
تحرك يونس نحو اللوحة، حيث كانت الأسماء محفورة بجانب بعضها، هامسًا لها وهو ينظر إليها بجدية:
"يبدو أن لقاءنا الأول لم يكن صدفة، وهناك تفسير منطقي لمعرفة جدتي باسمك. لم يكن الأمر عشوائيًا".
تنهدت قمر بعمق وهي تحاول كبح الارتباك الذي بدأ يظهر في ملامحها، قبل أن يسألها يونس بشيء من التردد:
"هل تشعرين بالخوف؟".
أجابت بنبرة هادئة، تنفي ذلك:
"الخوف. لا، ليس تمامًا، إنه شعور عابر بالنسبة لي، لكن لا أستوعب. هل يُعقل أن كل ما مررت به، والظلم الذي تعرضت له، حتى هروبي إلى مصر، كله مخطط من زمن فات؟".
طالعها يونس بدهشة، ليسألها بهدوء:
"هاربة؟"
صمتت للحظة حين أدركت ما قالته، حين لاحظ القلق الذي بدأ يرسم ملامحها، ابتسم مردفًا بصوت مطمئن:
"يبدو أننا أمام رحلة طويلة معًا. إشراق أخبرتني أنني موجود لأساعدك أثناء وجودك في مقرينوس، لذا إذا شعرتِ بالحاجة إلى الحديث، فلا تترددي. سركِ في مأمن… ووعدي لكِ أنني سأساعدك هنا وهناك. أنا موجود!".
ظلّت تنظر إليه بصمت، تتأمل كلماته التي تحمل في طياتها طمأنينة غريبة عليها:
"أنا موجود".
عبارة بسيطة لكنها حملت ثقلًا عاطفيًا غير مألوف، أثار في قلبها مشاعر لم تعتد عليها.
وبعد لحظات من الصمت تجاوزت قمر تلك المشاعر المتشابكة، واتجهت إلى الصناديق الخشبية الموجودة في الغرفة، مردفة بحزم:
"علينا أن نعرف الكثير قبل أن نذهب إلى تلك المملكة، يجب أن نجد ميثال بأسرع وقت، وربما تحتوي هذه الصناديق على أسرار أو إشارات تفسر لنا كيفية التعامل مع ذاك الزمن وتكشف لنا ثغراته".
تحرك ليقف بجانبها أمام الصناديق الخشبية الكبيرة، التى تتصاعد منهما رائحة الزمن وكأنها تحمل معها أنفاس مئات السنوات الماضية.
مدّ يونس يده بحذر ورفع الغطاء عن أول صندوق، بينما كانت قمر تقف بجانبه، تشعر بمزيج من الترقب والقلق.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم همست:
"لنبدأ"
أومأ يونس ومن ثم أخرج مجموعة من الأوراق القديمة من الصندوق، بعضها كان بحالة جيدة، وبعضها بالكاد يمكن قراءة ما كُتب عليه.
تفحصا الأوراق معًا، وقد شعرا أن هذه الأوراق قد تكون مفتاح فهم مقرينوس وأسرارها، لكن اللغة كانت معقدة وبدت كأنها مزيج من رموز وصور، كما لو أنها تتطلب فهمًا خاصًا. تمكنوا من فهم البعض وجهلوا الكثير.
استجمعت قمر شجاعتها مردفة وهي تشير إلى أحد الرموز:
"يبدو هذا كرمز ملكي، ربما هو ختم الملك أو توقيع قديم".
ردّ يونس وهو يعاين الرمز بعناية:
"أو ربما هو رمز للسلالة الملكية ذاتها، لم أكن أعرف أن مقرينوس تمتلك هذا التراث الثقافي العميق".
انتقلت قمر إلى صندوق آخر، رفعت الغطاء ببطء وكأنها تفتح بابًا على عالم آخر، وبينما هي تتصفح محتوياته وجدت دفترًا قديمًا مصنوعًا من جلدٍ باهت ومزين بعبارات منقوشة، فتحته بحذر وبدأت تقرأ بينما كان يونس يستمع باهتمام.
_"يبدو أنه دفتر احتفالاتٍ وأحداثٍ ملكية…"
هتفت قمر وعيناها تلمعان بترقب.
أخذت تتصفح الصفحات ببطء، حتى وصلت إلى صفحة تتحدث عن حدثٍ قريب وقد كانت الأحداث مدونة باللغة العربية مردفة له:
"اسمع هذا يا يونس…"
أخذت تقرأ بصوت عالٍ:
"غدًا هو يومٌ مُهِم في مقرينوس. الليلة ستكون هادئة بأمرٍ من الملك، إذ ستنام المملكة بأكملها باكرًا لتستعد ليوم العمل والتجهيز لحفل زفاف الأميرة منيفة".
حدّق يونس بها بصمت، كانت عينيه تلمعان بالدهشة:
"إذن هناك مناسبة ملكية، وزفاف؟ منيفة… هذه الأميرة التى رأيتها بغرفة جدتي هناك".
تابعت قمر ببطء:
"إذا كان غدًا يومًا مُهِمًّا في مقرينوس، فربما علينا الاستعداد، قد تكون هذه فرصتنا لنتسلل دون أن يشعر بنا أحد … ونعرف ما الذي يحدث في هذا الزمن".
بدأ كلاهما يبحث في بقية الصناديق، كل صندوق يحمل داخله شيئًا جديدًا، في أحد الصناديق وجد يونس قطعة قماش مطرزة بألوان وأشكال دقيقة، تشبه خريطة أو مخططًا للقلعة أو المملكة، أخذ يتأملها بتفحص شديد، محاولاً فهم شكل النقوش.
همست قمر وهي تقرأ النقوش:
"أعتقد أن هذا نوع من الخرائط. ربما هي تشير إلى مواقع معينة، وربما مخارج سرية أو غرف محظورة".
شعر يونس بالحماس، ليردف:
"قد تساعدنا هذه الخريطة في التنقل بشكل أكثر أمانًا في مقرينوس، وربما نكتشف ممرات أو أماكن لا يعرفها أحد".
استمرت رحلتهما عبر الصناديق، لتجد قمر رسالة مكتوبة بلغة قديمة ولكن معها ورقة وكأنها مترجمة بخط حديث للغة العربية، كانت الرسالة تتحدث عن أشخاص محددين يمتلكون قدرات غريبة أو قوة اتصال مع الأزمنة، قرأتها بتمعن ثم تساءلت بصوتٍ خافت:
"يونس… يبدو أن هذه الرسالة تشير إلى أن مقرينوس قد اختارت أشخاصًا مميزين ليكونوا حراسًا للأسرار".
_"ماذا تعنين؟"
قالها يونس بفضول عميق.
أوضحت قمر:
"ربما تكون مقرينوس هي من اختارتنا لنكون هنا، ربما كل هذا كان معدًّا منذ زمن، أنت وأنا. ربما لهذا السبب وصلتنا كل هذه الرسائل".
صمتا للحظة وكأنهما استوعبا ثقل الموقف، ثم عادا إلى البحث في الصناديق المتبقية.
كانت هناك لفافة صغيرة ملفوفة بعناية، فتحتها قمر لتجد داخلها عقدًا ذهبيًا يبدو قديمًا، ومكتوب عليه نقوش تقول:
"ارفع هذا العقد عند المدخل الأخير لتعرف الحقيقة".
تنهد يونس وأخذ العقد بيده، مردفًا:
"يبدو أننا أمام لغز جديد، ومع كل إجابة نجدها، تتكشف أمامنا أسرار جديدة".
تبادلا نظرة مملوءة بالإصرار هذه هي اللحظة التي تأكدا فيها أنهما شريكان في هذا الطريق، وأن تعاونهما هو المفتاح للوصول إلى ميثال وفهم مقرينوس.
ظلت قمر تنظر إلى العقد النحاسي بتمعن، وكأنها تراه بوابة لأسرار لا حصر لها.
بعد قراءتها للنقش المكتوب عليه، التفتت نحو النافذة بلمعة تحدٍ في عينيها، ثم قالت ليونس بحماس:
"يجب أن نعبر من النافذة ونخوض الطريق، ربما يكون المدخل الأخير هو المخرج في الجانب الآخر".
أخذ يونس نفسًا عميقًا، وقد بدا عليه التردد:
"أنتِ تتسرعين في اتخاذ القرار، لا يمكننا المخاطرة دون أن نفهم ما نحن مقبلان عليه. أشياء كثيرة هنا قد تكون خطرة…"
قاطعت حديثه بشغف لم تستطع كبحه، مردفة: "ولكنها الوسيلة الوحيدة للعثور على جدتك وفهم حقيقة هذه المملكة. كل خطوة هنا مرتبطة بلغز أكبر… وأنا واثقة أن الطريق يقودنا لمكان يحمل الإجابة".
حدّق فيها يونس للحظة، يقيس جديتها، ثم قال محذرًا:
"سأوافق… بشرط واحد، أن تلتزمي تمامًا بالهدوء وألا تستسلمي لفضولك. يجب أن تبقي خلفي طوال الوقت، فلا أريد أن تصيبك أي مخاطر قد تواجهنا هناك".
أومأت قمر برأسها مردفة:
"أعدك، سأبقى خلفك ولن أتسرع".
شعر يونس أن وعدها كان غير صادق بالكامل، لكنه في تلك اللحظة أدرك أن كل ما قالته إشراق هو الحقيقة، وأن مصيرهما قد ارتبط بالفعل، وأنه لا خيار أمامه سوى خوض هذا الطريق معها.
اقتربا من النافذة بخطوات حذرة، تقدم يونس أولاً يتفحص المكان، ثم تسللت قمر من خلفه تتبعه في صمت انزلقا بهدوء إلى السرداب.
وفي مشهد غامض ومثير دخلا السرداب القديم وهما يسيران بحذر، السكون يخيّم على المكان حتى أنهما استطاعا سماع خفقان قلبهما حين بدأ السرداب يُضيء بوميض خافت ينبعث من المصابيح القديمة على طول الجدران، كأنها وُجدت خصيصًا لتدلّهم على الطريق ، ظلالاً متحركة على الجدران من حولهم، في لحظات مليئة بالغموض والسحر الذي يخفي وراءه أسرارًا من العصور الغابرة.
بينما كانا يسيران في الممر الضيق، كان كل منهما يشعر بوقع خطوات الآخر، ومن حين لآخر ينظر يونس خلفه ليتأكد أنها لا تزال ملتزمة بالبقاء خلفه.
سارا عبر الممر بصمت مُبهم، وبينما يتقدمان لم يستطع يونس كتم دهشته، فقد كان المكان مختلفًا عمّا رآه في المرة السابقة.
الجدران التي كانت حينها متشققة، داكنة، كأنما ترفض وجوده بدت الآن منيرة بألوان دافئة، تزينها نقوش بديعة من رموز ورموز قديمة، وكأن السرداب بأكمله ينحني مرحّبًا بضيف طال انتظاره.
توقّف يونس في منتصف الطريق، يتأمل النقوش حوله وعيناه تلمعان بذعر تملأهما الحيرة.
همس لقمر وهو يشير للجدران:
"هذا السرداب لم يكن هكذا من قبل. إنه… يرحب بكِ، وكأنكِ…".
أجابته قمر بابتسامة غامضة:
"كأنني الوريثة التي كانوا ينتظرونها؟ يبدو أن مقرينوس ليست مجرد مملكة ضائعة… بل كيان يشعر ويتفاعل".
ساد الصمت بينهما للحظة، صمتاً يحمله تساؤل عميق من يونس. لم يكن يتصور أن مجرد وجود قمر يمكنه أن يغير أجواء المكان بهذا الشكل، الجدران التي كانت شاهدة على قدم الزمن أخذت تتوهج وكأنها تعرفها، حتى أنه شعر بنسيم خفيف يلامس وجنتيه، مثل نفسٍ قديم ينبعث من الأعماق احتفاءً بوجودها.
استمرّا في السير ليشعر يونس كأن السرداب يقودهما بخطى هادئة ومهتدية إلى مدخل كان مختفيًا لم يظهر له في المرة السابقة، وكأن السر العميق لمقرينوس لم يكشف إلا لأجل قمر وحدها.
رأى مدخلٌ ضخم تزيّن بوابته نقوشٌ من الخطوط النحاسية التي تتدفق بنعومة، أشبه بشرايين تنتظر نبض الحياة.
قال يونس وهو يحدّق في هذا المدخل:
"هل تعلمين يا قمر… في تلك المرة كنت أشعر وكأنني متسلل غير مرحب به، المكان كان مظلمًا كئيبًا… لكن الآن… انظري حولكِ وكأن هذا المكان كله حيٌّ ويرحب بوجودك".
ابتسمت وهي تتقدم نحو المدخل ببطء تتأمل التجويف الواضح بالحائط وكأنها تُنصت لصوتٍ خفي يقول لها:
"أهلاً بقدومك أيتها الوريثة"
ثم نظرت إلى يونس وهمست بثقة:
"يبدو أن الأمر أكبر مما تخيلنا، وربما أنا هنا لسبب… لم نكتشفه بعد".
تقدّم بحذر ووضع يده على العقد الذهبي الذي كان يشع دفئًا غريبًا بين أصابعه، شعر بقبضة من الترقب، لكنه تقدّم ببطء، أمسك بالعقد بحذر، ونظر نحو قمر ليتأكد أنها لا تتخطى مكانها.
وعندما تأكد من ثباتها أدخل العقد في التجويف ورفعه بلطف، لتبدأ الأرض بالاهتزاز الخفيف، ثم انفتحت فجوة أمامهما، لتكشف عن ممر مظلم يمتدّ إلى أعماق لم يتمكنا من رؤية نهايتها.
نظر إليها بحزم:
"هذا هو المدخل الأخير… لا تنسي وعدك يا قمر!".
ابتسمت بإصرار مردفة:
"وعدي ما زال قائمًا".
كان هذا المدخل مختلفًا عمّا توقّعا بدا كأنه جزءٌ من عالم آخر، أو ربما زقاقًا سحريًا محفورًا في أعماق الزمن.
السكون يخيّم على المكان، لكنه لم يكن سكونًا عاديًا بل كأنه همس هادئ، صوت ينبع من قلب مقرينوس نفسها، يمنحهما الثقة بأنهما على الطريق الصحيح.
بقيت قمر خلفه رغم شدة الفضول الذي كان يتملّكها، أردفت بصوت منخفض:
"هل تراني أهلًا لهذا؟ أم أن القدر وضعني هنا بالصدفة؟"
التفت إليها وقد لاحت على وجهه لمحة من الثقة:
"إن لم تكوني أهلًا، لما فتح لكِ المكان أبوابه. أنتِ هنا لسبب… وقد يكون السبب هو أن نجد ميثال ونفك لغز مقرينوس معًا".
هزت رأسها واتسعت ابتسامتها اقتناعًا بحديثه. ثم بدأت الخطوات الجديدة تتوالى في الممر، خطوة تلو الأخرى، وكل منهما يدرك أن هذه الخطوة هي بداية رحلة ستكشف لهما عن أسرار الماضي المخبأة في ظلال مقرينوس.
يتبع….
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.
موعد نشر الفصل العاشر يوم الجمعة الثامنة مساءً.