اسم الرواية : عروس بغداد
دراما اجتماعية من محض واقعنا العربي
بقلم أمل الكاشف
انطوى
النهار وتجلى الليل ليحل محله ليلة قمرية منعمة بعذوبة نسيم الرياح الباردة، اطل البدر وتلألأت النجوم المضيئة لتنير سماء
العراق باضواء المحبة و الألفة والسكون والروعة بتأمل خلق المبدع بالكون.
تزينت
الانهار الساكنة بانعكاس صورة البدر المضيء اللامع بلمعة تداعب الرياح الهادئة
بمياه الأنهار العذبة.
ازداد ألم المخاض معلنًا عن بدأ احتفالية مولد قُرة عين والدتها.
صرخت فوزية صرخة قطعت صوتها بعدها وهي تدفع أنفاسها داخلها كما أوصتها المُولدة، وصل حسين للمنزل ومن خلفه الطبيبة مستمعًا لصوت بكاء الطفلة وصوت فرحة طارق الصغير وهو يصفق بقول كلماته الغير كاملة: "عوس بداد".
خرجت عايدة وهي تحمل بيدها الصغيرة هاتفة بسعادة بالغة:
-"أتت
عروس بغداد، حمدًا لله على سلامتها".
قالتها
مقتربة من حسين لتضعها بين يديه مسميَ الله عليها، اسرعت الطبيبة لغرفة فوزية كي
تطمئن على وضعها.
حزن حسين
كونها أنثى نظر لوجهها المنير ثم نظر للولد الصغير بجانبه محاولًا التظاهر بالفرح:
-"هل
كنت تقول عروس بغداد ؟".
اقترب
طارق ذو الثلاث سنوات إلا قليل وهو يشب على اطراف قدميه للأعلى كي ينظر للمولودة
بفرحة كبيرة.
نزل حسين على قدميه ليكون بمستوى الصغير مُبعد الغطاء من على وجه ابنته قائلًا:
-"انظر
وتأمل جمالها وكأنها عروس حقًا".
تدفق
الدم بقلب والدها فجأة. لينير وجهه بفرحة كبيرة امتلكته بمجرد إمساكه ليد مولودته
وتقبيله لجبهتها الصغيرة بحذر كبير من أن يضر حجمها الصغير بين يديه.
خرجت
عايدة بجانب المولدة لتودعها بعد أن أعطتها حقها. ثم عادت لتُطمئن حسين على وضع
صديقتها وجارتها لتجده يقول:
-"ما
هذا الجمال! وكأنها حورية من حور الجنة".
تحمست عايدة بقولها:
"لنسميها حورية إذن".
فرح حسين
وتحرك ليدخل غرفة زوجته كي يطمئن عليها ويشاركها حديثهم قائلًا:
-"حمدًا لله على السلامة يا أم حورية".
ابتسمت
فوزية بوجه متعب قائلة لزوجها:
ضحكت
الطبيبة عليهما قائلة لهما:
-"حورية البحر أو هبة الله. كلاهما جميل والاجمل منهما اسم سلمى فهو جميل بالإضافة لأنه يليق بمن دعى الجميع لسلامة مجيئها للدنيا".
صمتا دون جواب لتكمل الطبيبة حديثها:
-"سيأتي
أسمها ويُكتب كما يريد الله. الأم والطفلة بخير وصحة جيدة وهذا هو المهم. ولكن كما
قلت لفوزية قبل قليل عليكم أن تذهبوا للمشفى بالصباح كي يراها طبيب الأطفال ويطمئن
على سلامتها الكاملة. كما أن هناك بعض التحاليل الطبية عليكم القيام بها من اجل ان
ننهي مخاوفنا حول تأثر الطفلة بمرض أمها أثناء الحمل. رغم أنني أرى أنها بخير ولا
يظهر عليها أي أعراض مما كنا ننتظرها الحمدلله"
أومأ
حسين برأسه:
-"ومع ذلك سأفعل كل شيء كي يرتاح قلبي.
سأذهب غدًا للمشفى ولن أعود منها حتى اطمئن بشكل كامل".
نظرت
الطبيبة لفوزية برضا:
"واخيرًا
تحقق الحلم وأتت قُرة عين أمها للدنيا دون مشاكل. لتري الخير والسعادة والفخر
والعزة من تحت اقدامها. بارك الله لكِ فيها ورزقتِ برها وبلغت أشدها".
انهت
كلماتها ومن ثم تحركت لتخرج، ترك حسين ابنته بجانب زوجته واسرع خلف الطبيبة
ليعيدها لمنزلها كما أتى بها.
اقترب طارق الصغير من الفراش رافعًا نفسه على أطراف قدميه لينظر للمولودة قائلة:
"عوس بداد عوستي أنا".
ضحكت
فوزية لتبادلها عايدة الضحك وهي تقول:
-"ماشاءالله أرى أن توافد العرسان بدأ من
الان".
اجابتها
فوزية:
-"اريد ان اسميها هبة الله ولكني أخشى أن
*يحزن*حسين مني كونه يريد تسميتها حورية".
فكرت
عايدة لثواني قائلة بعدها:
-"جاء
لخاطره بلحظة حماس وفرح. لا تفكري بالاسم اشكري الله على سلامتها. أما الاسم فهو
مكتوب اعلى سبع سماوات سيأتي إليها لتتزين به دون خلاف".
ابتسمت فوزية بوجهها المجهد:
"هل اعجبك اسم سلمى؟".
أومأت
عايدة برأسها:
-"اشعر انه لائق فعلًا ولكن عليكِ ان تسرعي
قبل أن يسميها فاطمة او محاسن او جميلة على أسماء أمه واخواته. تعلمين العرف
السائد لدى الرجال يحبون إرضاء أهلهم بتسمية أطفالهم على أسمائهم وكأنه ينسب طفله
لهم بهذه الطريقة"
اغمضت
فوزية عينيها لوهلة متحدثة بعدها بإرهاق كبير:
-"ألا
زلتِ تتذكرين ما فعله زوجك بيوم ولادتك".
جمعت
عايدة الاطباق والاقمشة المتسخه بدم الولادة وهي تقول:
-"نعم
وهل هذا يوم ينسى. *تعصب *وتذمر كي يكتبه على اسم جده طارق أو على اسم أبيه حيدر.
لا اعرف ما به اسم باسل".
بدى على
وجه فوزية التعب والإرهاق الكبير وهي تقول:
-"طارق
اسم جميل حتى أنه لائق على اسم والده نصار. طارق نصار ارايتِ كم هو جميل. تخيلي
معي لو كان اسمه باسل نصار".
ضحكت
عايدة دون رضا:
-"هذا
يعني أن المشكلة تكمن في نصار. هل كان علي ان اغير أباه من البداية لأستريح".
علت ضحكت
فوزية التي تحولت لألم كبير بالبطن. هدأتها عايدة و طمأنتها انه ألم طبيعي بعد
الولادة كي يعود الرحم لوضعه الأول.
مرت
الساعات والأيام والسنوات بعد هذه الليلة الجميلة لتكبر قُرة عين أمها ومميزة
عشيرتها بذكائها وتفوقها الدراسي. حفظت
القرآن الكريم وهي بعمرها العاشر ليقيم لها أباها حفل كبير ذبح على أثره المواشي و
الأغنام ليفرقها على الاهل والجيران والفقراء بتفاخر وبهجة كبيرة.
ورغم
محبة أهل حسين لابنته سلمى إلا أنهم لم يملوا او ييأسوا من تكرار مطالبته بالزواج
من أخرى كي يرزق بالولد.
بعد أن
باءت كل محاولات فوزية لتحقيق حلم عائلة زوجها بإنجابها الولد بالفشل. فكلما حلمت
بذكر يتغلب مرضها عليها لتجهض أو يتوفى الطفل بعد الولادة بعدة ساعات.
ظلت
حاملة *حزنها *بقلبها وهي تسمع وترى رغبة أهل زوجها برؤية حفيد ذكر من صلب ابنهم
الكبير. حتى قادتها الصدفة أن تكون شاهدة على وصية الحاجة فاطمة والدة زوجها وهي
تؤمن ابنتها محاسن قبل أن تتوفى بعدة أيام
أن تزوج اخيها ممن تأتيه بالولد كي لا يصبح وحيدًا عند كبره.
يومها بكت فوزية طوال الليل وهي تصلي لله وتشكو همها وحزنها الكبير.
مرت
سنوات أخرى جاهدت وحاربت فوزية بهم على استمرار تميز ابنتها وجعلها اقوى وافضل من
شباب العشيرة اجمع كي يتفاخر والدها بها.
نجحت في
تحقيق حلمها وجهادها على مدار الخمس عشر عاما، حيث كانت تفتخر العائلة بنتيجة
ابنتهم الدراسية في منتصف شهر يوليو من كل عام.
كان
يوافق هذا التاريخ تجمع عائلة الجد أحمد الفارسي في المنزل الكبير. فرغم تفرق
الستة اخوة بمدن مختلفة إلا أنهم لا زالوا حريصين على التجمع السنوي ليستمر الود
والمحبة والألفة بين الاخوات والابناء.
وبليلة من ليالي هذا التجمع حبست الأنفاس وتوقفت عقارب الساعة ليتباطآ القلب عن نبضه بلحظات أشبهت خروج الروح من الجسد، ها هي تقف على سفح سطح بناية كبيرة تنظر للأسفل بعيون حمراء ممزقة من كثرة البكاء، لوهلة شَعرت بالخوف والعودة عن ما أقدمت عليه. نظرت لرضيعها الباكي بين ذراعيها بحزن وأسف كبير قائلة:
"لنرحل سويًا من هذا العالم القاسي".
تجمع المارة بالأسفل وهم يصرخون بأعلى صوت كي تعود عن ما تريد فعله، اغمضت عينيها مستمعه لصوت لزوجها بأذنها:
بكت من جديد قائلة بعيونها التي تنظر لطفلها:
"لا
يمكنني التخلي عنك. لا ذنب لك بذلك، سنرحل سويًا كي نرتاح من هذا العالم الظالم لن اتركك وحدك لن اتخلى عنك".
وصلت
الشرطة للأعلى متفاجئين بمد الشابة يدها بالهواء الطلق تاركة طفلها يبكي بخوف سقوطه وحده ناظرة إليه بعيون متسعة لا تتحرك، صرخت سلمى ودارين مغلقين أعينهم
*خوفًا*من مصير الطفل المعلوم، تحلت الشرطة بالصبر والهدوء محاولين إعادت تلك
الشابة عن قرارها، تقرب منها أحد أفراد الشرطة شيء فشيء وهو يحثها عن التراجع
ولكنه لم يلحق بها فقد أصبحت بحاله تشبه فقدان العقل والجنون وكأنها لا تسمعهم أو
تراهم. ثابتة بعيون جحظت من وطأ ما هي به، ألقت بنفسها كي لا ينجح احد بالاقتراب
وانقاذها. فتحت يديها واغمضت عينيها دون محاوله لإنقاذ نفسها وهي بالهواء الطلق
مستسلمة لقدرها السيئ بشكل اذهل جميع من شاهدوا المشهد.
انقطع
الفيلم بفاصل إعلاني ترويجي لمستحضرات تجميلية.
التقطت سلمى أنفاسها وهي تنظر لاستمتاع الصبايا من حولها باستنكار كبير كيف يحللون ويستمتعون بتلك المشاهد *المحزنة*، شعرت بريبة غريبة تدق بقلبها نظرت حولها بعيون منذعرة محدثة نفسها داخلها:
"إنه مجرد تمثيل. لم يمت أحد. كل ما رأيته تمثيل".
تحدثت
بدور ابنة عمتها محاسن:
-''ألم
أقل لكم انه من اقوى أفلام الموسم للاكشن والإثارة".
ردت
عليها نسرين ابنة عمتهم جميلة :
"نعم
انتِ محقة ولكني ارغب بمشاهدة تكملة الفيلم، ينتابني الفضول الشديد لمعرفة اإذا
ماتت الأم وابنها ام تم انقاذهم"
اجابتها
دارين أصغرهم سنًا:
-"وانا أيضا اريد مشاهدة باقي الفيلم، لنخفض صوت التلفاز ونغلق الإضاءة كي لا تستيقظ أمي وتحرمنا من تكملته".
*رفضت
*سلمى *بخوف*مقترحة عليهم أن يناموا قائلة:
-" لنترك تكملته للغد كي لا تغضب امهاتنا
علينا إن علموا بسهرنا لهذه الساعة المتأخرة، وأيضا لا يمكنني مشاهدة هذا الفيلم
بإضاءة خافتة، سأموت من *خوفي*والانارة مضيئة فما بالكم ان أُغلقت لا يمكنني تحمل
هذا".
سخرن
منها ضاحكين على خوفها وتصديقها لما رأته، تحركت من وسطهم بتذمرها:
-"سأذهب
لأشرب الماء وانام بجانب أمي لا يمكنني تحمل قلوبكم الميتة أكثر من ذلك".
زادت
نبرة سخريتهم منها وهم يحثونها أن تذهب لجهة الرجال و تنام بحضن والدها ورجال
عمومتها.
خرجت من
الغرفة التي تجمعها بصبايا العائلة في منزل جدهم الأكبر ذاهبة للمطبخ بالجهة
الشمالية لتشرب الماء بعد أن تحجر ريقها مما رأته، فتحت نور المطبخ واقتربت من
البراد مخرجة زجاجة بلاستيكية مغلقة بابه بعدها ، انتفضت رعبًا من رؤية ابن
عمتها يقف أمامها، لهثت أنفاسها من شدة تسارع ضربات قلبها وخوفها، اعتذر أبو بكر
منها وحثها على شرب الماء لتهدأ من رهبتها وخوفها*.
ردت سلمى بخجلها:
-"أتيت
لأشرب الماء ولم أكن أعلم أنك بالداخل".
ابتسم
مجيبًا بعيون مبتسمة:
-"لنقل
شاءت الأقدار أن تجمعنا على شربة ماء، وانا أيضا أتيت لأشرب الماء".
همست بصوتها الرقيق: "لأضع لك الماء".
هربت من
أمامه لتخرج كوب من خزانة المطبخ كي تسكب به الماء ولكنه فاجأها وزاد خجلها حين مد
يده ليعيق سيرها بأخذه الزجاجة منها كي يشرب من مكان ما شربت منه.
خفضت
عينيها بصمت مستمعة لسؤاله:
-"يا
ترى ما *سر *هروب النوم من جفون عينيكِ الليلة، أم اعجبتك النجوم وقررتي السهر
بجانبها مثلما قررت أنا".
تململت
من خجلها قائلة:
-"لا
ليس كذلك كل ما في الأمر قررنا ان نحضر فيلم جديد اذهب عقلي من رأسي وليس النوم من
عيناي".
ابتسم
مقترب قليلًا محافظًا على المسافة الواجبة بينهم قائلا:
-"انصحك ان تتركِ الفيلم وتنظري للنجوم وهي تزين سماء منزلنا بالحب الذي يشع منها".
تحركت من مكانها بخجل وارتباك:
"علي ان أعود قبل ان يأتوا خلفي".
لم يتحرك
من أمامها ظل شارد بوجهها وهو يكمل:
-"فليأتوا
ليستمتعوا برؤية البدر المكتمل معي، حتى أنني سأجد من يجيب على حيرتي".
هزت رأسها
مستفسرة عن ما يعنيه بحديثه. ليجيبها بصوت لم تعهده عليه:
-"أتعجب هل حقا أرى البدر المضيء امام
عيني أم أنه يُشبه لي في صورة إنسانه غاية بالجمال".
ارتبكت حتى ارتجف جسمها من خجلها وخوفها ان يدخل احد عليهم وهم بهذه الحالة، تحدثت بسرعة:
"علي ان أعود لغرفتنا".
ابتعدت عنه هاربة منه وهي تستمع لصوته المنخفض:
"لا تنسي مشاهدة النجوم ".
اسرعت بهروبها دون أن تنتظر تكملة حديثه عائدة بالخطأ لغرفة الصبايا لتجدهم أغلقوا الإضاءة بشكل كامل كي يشاهدون الفيلم دون أن يُمسك بهم.
نامت على
فرشتها بالأرض متلحفه بغطائها غامسه رأسها داخله مختبئة به من خجلها واضطراب ضربات
قلبها التي جعلتها ترتجف من شدة سرعتها.
لم تستطع
النوم وخاصة مما تسمعه من أصوات حولها تحركت من جديد لتقف بنافذة الغرفة من وراء
ساتر خشبي به أشكال هندسية قريبة من بعضها لا يظهر سوى ظلها للمارة. نظرت للسماء
باحثة عن النجوم وهي ترى وجهه المبتسم
امام عينيها، تورد وجهها بخجلها وزاد القلب من تدفق الحيوية به، تذكرت انبهاره
برؤيته لها وهي مرتدية الفستان الأحمر بحفل زفاف ابن عشيرتهم قبل عدة أيام، حاولت
إخفاء تبسم وجهها وهي تستمع لحديث عمتها وامها يرن بأذنها.
"اريد
وحيدتك عروس لابني أبو بكر".
ورغم
انها تذكرت رفض أمها وقولها:
-"هل
سلمى! اتمزحين معي يا محاسن أم ان جمالها بالفستان الأحمر والكعب الأطول منها
بالأمس جعلكِ تفكرين بهذا النحو، الفتاة لم تكمل عامها الخامس عشر حتى انها لم
تنهي صفها الثالث بالمرحلة المتوسطة بعد".
ضحكت
العمة محاسن قائلة:
-"وابو
بكر لم ينهي دراسته لا زال أمامه سنتين سنوات لينهي معهد الحرف المهنية وحينها
سيكون خراط البنات خرط ابنتنا وجعلها
عروسة تليق بنا لترفع شأننا وسط عشيرتنا، أعدك انه سيكون زفاف يليق بقدر
زوجي وأخي".
فرحت سلمى وأضاء قلبها لإعجاب زين شباب عشيرتهم بها، نظرت نحو اخته دارين خلفها ثم عادت لتنظر للنجوم بالسماء وهي تتذكر كلمات بدور ابنة عمتها:
"وهل يوجد مثل اخي هيبة ورجولة جاه ومال واصل، بجانب جمال شعره الأسود الغزير ولونه الذي يشبه لون تراب الوطن بصفائها ونضارتها".
ارتبكت
وخجلت حين سمعت صوت خطوات أقدامه وهو يسير بجانب النافذة يحرك المفاتيح بيده وكأنه
علم بوجودها بالقرب منه.
هربت
للداخل مختبئة بغطائها غارقة بأحلامها الجميلة متحررة من حالة الخوف والذعر التي اصابتها جراء مشاهدتها الفيلم الحزين المخيف.
باليوم
الثاني وخلال تجمع الآباء وأولاد العم بمنزل الجد الأكبر للعشيرة، اعتزم أبو بكر
على لفت انتباه سلمى له بالنظرات والابتسامة الساحرة لوجهها كلما تشابكت عيونهم.
والأكثر
من ذلك أصبح يقف ويتسمر في مكانه كلما رأها حتى تمر هي أولا من أمامه ثم يعود
ويجلس دون أن ينتبه أحد من العائلة عليه، كانت حركات واشارات بسيطة ولكنها كبيرة
بالنسبة لفتاة صغيرة بمقتبل عمرها يتعرف قلبها على هذه المشاعر لأول مرة، ازدادت
فرحًا وتبهج بسعادتها كلما اقترب منها ليلقي عليها السلام، أو كلما تولى مهامها
التي تتكلف بها بجانب فتيات العشيرة متحجج
بصغر حجم كفيها وعدم تحملها ما تفعله باقي الفتيات من حمل الدلو المملوء بالماء
وتحريك الطاولات الكبيرة وتعبئة المياه الصالحة للشرب ونقلها من مكان لأخر داخل المنزل،
حتى انه كان يختلس الفرص للاقتراب منها ليهمس لها:
-''اجلسي
واتركيهم يفعلوا وحدهم ما يفعلوه. أنتِ كالأميرات لا يحق للأميرة ان تجهد نفسها
بعمل الخدم".
تهربت منه عدة مرات ليزداد هو فرحًا واستمتاعًا
بخجلها واحمرار وجهها.
وبعد
تناول الجميع طعام الغداء تجمعت العشيرة لشرب الشاي بوسط عائلي مليء بالحب والود،
وصل حديثهم عن الزواج والمسؤوليات التي توضع على العروسين بعده، استغل أبو بكر
الفرصة وبدأ يتحدث بين الأهل أن زوجته ستكون اميرة الأمراء وسيكلف لها من يقوم
بخدمتها دائما.
ظل الحال على هذا النحو طوال الأجازة
السنوية دون أن يصرح أحد من الأهل كونها
هي تلك الأميرة. ولكنهم كانوا يكتفون بالهمس والنظرات نحو سلمى لتخجل وتزداد ضربات
قلبها حتى يكاد أن يتوقف وتفقدها وعيها من خجلها.
وبوسط
الأجواء العائلية الجميلة خرجت نتيجة سلمى للصف الثالث من المرحلة الإعدادية
المتوسطة، وهنا فاجأتهم بحصولها على نتيجة جعلتها الأولى على مدينتها والثانية
مكرر على بلدها.
وقفت
عمتها محاسن تتفاخر بمميزات عروستهم المستقبلية وتفوقها ليكون هذا أول تصريح رسمي
وسط نساء وصبايا العشيرة.
ترقب أبو
بكر حركة سلمى بين الغرف حتى تمكن بالانفراد بها داخل المطبخ لتكن أول كلماته لها:
"الأولى إذا ".
ألتفت
خلفها بخجلها من رؤيتها له، ابتسم بحب:
-
"مبروك تفوقك".
أومأت برأسها دون النظر له:
"شكرا لك".
تحركت لتخرج من المطبخ هاربة ولكنه لم يسمح لها، تحدثت بصوت منخفض:
"إن راتنا أمي بهذا الوضع".
اجابها بصوت يشبه صوتها الناعم:
"وما
به وضعنا! عروستي لا يحق لأحد أن يتدخل بنا".
خجلت اكثر متحدثة وعيونها تتنقل على أبواب الغرف:
"رجاءً
اسمح لي ان اخرج، غير لائق ان رآنا أحدهم ونحن…".
ابتسم بعينيه قائلا بصوت تنغم بموسيقى الحب:
"ونحن.. ن ح ن ".
تحدثت
بجدية بنبرة تحذيرية:
-"أبو بكر لا تفقد عقلك من العيب ان يرانا
أحد ونحن بهذه الحال رجاءً افتح لي الطريق لأخرج".
اجابها
بهيام دون ان يهتم بحالتها:
-"كرري كلمة نحن عشرة مرات وبعدها سأفتح لكِ طريق قلبي تهربي إليه وقتما شئتي".
اتسعت
عينيها لسماع قرب أمها وعمتها جميلة من المطبخ، أصبحا بمأزق حقيقي تحرك أبو بكر
ودخل ليتخفى راء الخزانة الطويلة بجانب الباب بدلا من أن يخرج مسرعًا.
اقتربت فوزية من باب المطبخ متعجبة من حالة ابنتها اسرعت بخطواتها قائلة:
"ما بكِ ..".
لم تكمل
كلماتها حتى سقطت سلمى مغشي عليها، صرخت أمها باسمها منادية على زوجها كي يأتي
ويرى ابنته.
دخلت
جميلة المطبخ كي تأخذ الماء لتسكبه على وجه سلمى منصدمة من وجود أبو بكر خلف الباب
بالداخل.
نظرت
للباب ثم نظرت له لتجده يرفع اكتافه لا يعرف ما عليه فعله.
أسرعت
بخروجها وتحدثها مع أخيها الذي أتى يهرول بخوفه هو وإخوته:
"الحمدلله
انها لم تتأخر باستعادة وعيها أحملها يا اخي
لنضعها على الأريكة الخارجية لتشم الهواء النقي".
حملها
اباها وتحرك بها جهة الهواء الطلق لتتحدث جميلة لأختها محاسن بصوت منخفض:
-"اذهبي انتِ للمطبخ هناك من ينتظرك".
وبينما
كانت سلمى تبكي دون أن تفسر لأحد سبب سقوطها وبكائها كانت محاسن قد أخرجت ابنها من
المطبخ وهي توبخه على ما فعله:
-"الفتاة
صغيرة لا حمل لها بهذه الحركات الطائشة أم ظننت انها كفتياتك الناقصات اخلاق
ودين".
دافع عن
نفسه:
-"وما
دخلي انا بسقوطها، كنت اتحدث معها وفجأة تغير وجهها لاقتراب أمها، وماذا يحدث ان
اقتربت الخالة فوزية وراتني بالمطبخ ولكنها كبرت القصة وادخلتني لأختبئ خلف
الباب".
تحدثت
امه بضيق :
-"الفتاة خام لا خبرة لها بهذه الأمور وأيضا لا زالت صغيرة ، عليك ان تتحلى بالذكاء والحكمة والعقلانية وانت تتحدث وتتعامل معها، كان عليك أن تسرع بالتصرف والخروج من الموقف دون احراجها".
تحدث أبو
بكر:
-"أعلم
أنني سأخرج المخطئ بالأخير، حتى وانا انفذ وعدي لكِ، أفعلها لأجل ارضاءك عني
وبالأخير كما ترين".
وضعت
يدها على كتفه لتحنو عليه وهي تقول:
-"اعلم انك تريد ان ترضيني ، ولكنك لن تندم بالمستقبل ستعلم أنني كنت اريد الخير الكثير لك، سلمى فتاة جميلة ذو اخلاق وأصول وعلم هي من ستحلي ايامك وتحافظ على بيتك واولادك في غيابك".
حرك رأسه:
هزت
رأسها وهي تضع يدها داخل عبائتها لتخرج مبلغ مالي كبير قائلة:
-"خذ هذا دبر نفسك به حتى اخذ من ابيك المزيد، تعلم من بعد علمه بشربك لهذا السم وهو يركز بكل دينار أخذه منه".
وضعهم بجيب بنطلونه الجينز واضعا طرف قميصه الأبيض عليهم قائلا:
"حسنا
سأحاول ان أدبر نفسي بهم".
امسكته
من ذراعه:
-"أبو
بكر انت وعدتني لم تعد لهذا السم مرة أخرى، اسهر وتجول وافعل كل ما تريد مع اصحابك
دون الخوض بطرق لا رجعة منها".
قبل
يدها :
ربت على
كتفه وهي تقول:
-"رضي
الله عنك، هيا اخرج انت وانا سأذهب لأرى ابنة خالك، بالمناسبة لم أظهر أمامها أنني
أعلم شيء حتى سأنبه على جميلة أن تصمت وكأن الأمر مر دون معرفة أحد بكم".
حرك رأسه دون اهتمام :
"افعلي ما تريدين".
تركها مسرعًا ليخرج وهو يحدث أصدقائه بصوت منخفض:
"اجمع
الشباب وتعال للمطعم اليمني ستجدني انا وباسل هناك، ولا تنسى أن تأتي بالمعلوم
راسي يؤلمني ولن اتحمل رؤيتكم بدونه".
اغلق
الهاتف وصعد سيارته ليلقي به على المقعد الجانبي فاتحًا الازرار الأولى من قميصه
حتى اقترب لنهاية صدرة قائلا:
-"متى
سننهي هذا الهراء سئمت منكم، الجميع يمثل على بعضه الحب ومن وراء الظهور الله وحده
يعلم ما يقال من غل وكره".
فتح صوت
الأغاني عاليًا مدندن معها بانسجام كبير.
ظلت سلمى
تدافع عن كونها بخير ولا شيء بها فقط انخفاض ضغط الدم قليلا بسبب عدم تناولها
للطعام وحين ذهبت لتأكل حدث ما حدث.
اهتمت
فوزية بإطعامها والضغط عليها حتى أنهت كوب العصير الكبير ومن ثم طلبت من حسين ان
تذهب لمخبر تحليل كي تطمئن عليها هناك.
تحدث زوجها قائلا:
"يوجد
مخبر تحليل كبير تم افتتاحه منذ يومين".
رد كامل زوج جميلة:
"نعم
سمعت عنه تابع للدكتور خليل العوايلي ".
ذهبا
إليه لتنبهر فوزية بالمستوى العالي والاهتمام الكبير بكل التفاصيل في المعامل،
تحدثت لابنتها:
-"من الواضح انه ثري انظري حتى طقم
الموظفين لم يسلموا من اهتمامه بتفاصيل ملابسهم".
نوديَ
على اسم سلمى لتتحرك أمها كي تساندها وتدخل بها للطبيب اولا كما رغبت وطلبت فور
وصولها.
استقبلهم
الدكتور خليل بمكتبة قائلا:
-"تفضلي استمع لك هل هناك مشكلة ما".
حكت له فوزية ما حدث مع ابنتها ليسأل خليل سلمى عن بعض الأعراض التي نفتهم جميعا ليعود ويتحدث مع أمها:
-"لا
تقلقي الأمر بسيط من الممكن أن يكون سوء تغذيه كما أرى حجمها الصغير لا يناسب
سنها، لنقم بالتحليل أولا كي يطمئن قلبنا ومن ثم نرى هل يتوجب التوجه لطبيب مختص
أم سنكتفي ببعض الفيتامينات".
حدثته فوزية وقالت:
"بكل
الحالات اريد ان تكتب لها فيتامينات تقويها على دراستها كي لا تتحجج بصداع رأسها
وألم عينيها".
ابتسم
خليل ناظرًا لسلمى وهو يقول:
-"من الواضح انكِ تجهدين الوالدة في
الدراسة".
عاد لينظر للأم مكملًا:
"لا تحزني جميع الشباب يفعلون ما تفعله، شيء فشيء ستنتبه لدروسها أكثر كي لا
تحزنك".
أنهى حديثه الذي وجهه لسلمى:
"أليس كذلك؟".
اسرعت أمها بتحدثها ودفاعها عن ابنتها بفخر وتباهي:
"لقد
فهمت كلامي على نحو خاطئ أيها الطبيب، نعم هي تتهرب من الدراسة ولكن هذا لا يعني
إنها لا تجيد بها، ابنتي الأولى على مدينة البصرة والثانية مكرر على العراق".
رفع
دكتور خليل حاجبيه بأعجاب شديد:
"ماشاء الله نحن إذا أمام زميلة لنا بالمستقبل".
ابتسمت سلمى قائلة بخجلها الذي يخفض نبرة صوتها بالعادة:
"انا
لا اريد ان اصبح طبيبة".
تغيرت نظرات
الأم لها ليقول خليل:
-"لا
أحد منا يعلم ما تخبئه الأيام له".
أومأت برأسها ليكمل دكتور خليل:
"لنفعل
كل ما يتوجب علينا ونُسلم أمرنا لاقدار الله ومشيئته".
رن هاتفه نظر لاسم زوجته على الهاتف ثم نظر لهم قائلا:
"لنكمل حديثنا بعد خروج نتيجة التحليل،
يمكنكم الخروج وانتظار الدور لإجراء التحاليل اللازمة".
شكرته فوزية لسعة صدره وتحدثه معهم وخرجت مع ابنتها تاركه اذنها خلفها لتستمع أولى كلماته:
"كيف
لي أن أنسى موعدي مع السعادة سأتي إليك بعد قليل لا تقلقي''.
عادا لمكانهم وهي تحدث ابنتها:
"ماشاءالله
يبدو أنه انسان طيب الخصال فليبارك الله له في رزقه وعائلته".
لم ترد سلمى على أمها مما جعلها تنظر لشرودها بقلق كبير:
"ما
بكِ صامته هل تشعرين بشيء؟ هل تتألمين؟، نعم تتألمين ولكنك تخافين على حزني وقلقي".
وبينما
كانت سلمى جالسة بمعمل التحاليل شاردة بكلماته وابتسامته التي أصبحت قادرة على
إرباك قلبها وارتجاف جسدها كان أبو بكر يجلس على الرمال هو ومجموعة من الشباب
يشربون السجائر الملفوفة بعناية خاصة، رن هاتفه ليضحك وجهه قائلا لأصحابه:
ضحك نجم قائلا:
"ليرزقنا
الله بخلاص مثل خلاصك".
ضحك أسعد:
"رزقك
ولكنك لا تصون النعمة ".
شاركهم أبو بكر الضحك:
"اعطيه
الحق لا داعي ان نصون ونحافظ كي لا نمل، يومين على الأكثر ونبحث لنا على نعمة
أخرى".
تركهم
مبتعدًا عنهم محاولا إنهاء السيجار بيده قبل ان يصل لفتاته الجميلة ذات العود
الممشوق والشعر الأسود، غمز لها مشيرًا بعينيه نحو سيارته كي تصعد بها، فرحت ملبية
أمر سحر عيونه.
وبمجرد صعوده السيارة تفاجأ بتقبيلها له من وجنته بقوة قائلة:
"اعتذر
ان تأخرت عليك بصعوبة كبيرة حتى استطعت الخروج من قبضة اخي وابي".
قبل يدها وهو يغازلها بعذب الكلمات المعسولة ثم بدأ قيادة السيارة بيد واحدة دون تركها، تحدثت بصوتها المنعم بدلاله:
"إلى أين سنذهب".
ضحك مقبل يدها مرة أخرى:
"حيث لا يجدنا أحد".
رفضت ان يذهبا بعيدا كي لا تتأخر على العودة ليجيبها:
ظهرت نتائج التحاليل في المعمل الطبي تحدث لهم دكتور خليل وهو على باب المعمل الخارجي:
"لا
شيء يستدعي القلق اهتمي بطعامها فقط".
ثم نظر لسلمى مكمل حديثه بصوت لطيف:
"اتمنى لو تغيرين رأيك في أمر الطب فالمرضى بحاجة لدعم كبير من النابغة والمتميزون مثلك".
تركهم وأكمل سيره نحو سيارته لتتحدث فوزية قائلة:
"كم
تعطيه من عمر اعتقد انه في منتصف الثلاثين، طبيعة جسمه الكبير و وجهه يعطون أكبر
من ذلك ولكنه صغير هذا ما توضحه شهادات التقدير الخاصة به جميعهم بسنوات قريبة حتى
أكاد أن أجزم أنه لم يتعدى السابعة والثلاثون".
ردت على أمها: "وما دخلنا بعمره".
أجابتها
فوزية:
صمتت
سلمى دون ان تجيب امها وكأنها راضية عن وضعها وانسياقها لعمتها محاسن وبناتها دون
ان تسمع صوت أمها.
وضعت
فوزية يدها على قلبها وهي تتألم بصمت، فكلما رأت حالة ابنتها وتذكرت حلمها غص
قلبها وألمها.
جاء حسين
بسيارته ليأخذهم من أمام المعمل وهو غاضب على خسارتهم الكبيرة بصفقة الحبوب
الغذائية، كان يتنقل بحديثه في الهاتف من شخص لآخر دون ان يسأل عن الوضع الصحي
لابنته.
وفور
وصولهم للمنزل دخلت سلمى غرفتها لتخرج الهاتف من حقيبتها متوقعة كثرة اتصالات
ورسائل عمتها لتطمئن عليها ومن ثم تطمئن ابنها ولكنها لم تجد شيء، أعطتهم الحق بانشغالهم في *الخسارة *الكبيرة
التي وقعت على رأس شركتهم.
ولكنها
لا تعلم حاله بالعالم الاخر وهو غارق بحضن فتاته في سيارته بمكان مظلم، لم يدوم
الوضع كثيرا حين داهمتهم قوات أمن السواحل فاتحين كشافات الإضاءة عليهم بقوة
ملتقطين عدة صور لإثبات الواقعة، لم ينتبه أبو بكر بأول الأمر لتكون الصدمة
الأولى من نصيب الفتاة حين فتحت عينيها الغارقة بالأحلام المعسولة منذعرة من عدد
أفراد الأمن والكاميرات التي لا زالت توثق الحادثة.
اتسعت
أعين أبو بكر وهو يتذكر حديث والده له وتحذيره من تربص أعدائهم بهم.
انتظرونا
بحلقة جديدة
منتظرة
تفاعلكم وتعليقاتكم
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.
منها "رواية حياتي" رابط فصول حياتي
رواية جديدة قيد النشر من ضمن سلسلة روايات الكاتبة أمل محمد الكاشف ..