recent
جديدنا

عروس بغداد الفصل الثالث والعشرون

رواية عروس بغداد

بقلم الكاتبة أمل محمد الكاشف 




 دفع القدر باب حصنها الوهن ليدفعه بقوة دون استئذان أو مراعاة لفؤادها المكلوم وقلبها المفتور ،  وكأن لا يكفيها ما مرت به من صعوبات وتعثرات حتى تأتيها ورقه تعلوها كلمة "وثيقة طلاق" رفض عقلها ان يصدق ما قرئه ، هزت راسها على جانبي اكتافها وهي تقول بصوت زاحمته انفاسها بخروجه ليصبح منخفضًا مهزوزًا ،  نزلت عينيها على السطور الأولى لتجد اسمها واسم خليل والشيخ الذي تولى طلاقهما.


لم تصدق محتوى الوثيقة همت باحثة عن هاتفها لتتصل به كي تسأله عن هذا الهراء.


احمر وجهها وعلت نبرة صوتها الرافض لما قرأ 

"هل يمزح معي . أي  طلاق هذا ؟"


لمحت عينيها ورقة أخرى بالظرف تمهلت باتصالها مخرجة الورقة لتجدها رسالة وداع من خليل نزلت الدموع من عينيها وهي تقرأ بدايتها

"لقد حققت لكِ حلمك. من الان وصاعدًا اصبحتي حرة يا فخر العراق"


خارت قواها لتخونها قدميها ساقطة ارضًا بجانب الفراش وهي تكمل قراءتها للرسالة

"اعلم ان طلاقنا ما هو إلا نقطة تغيير مسار وانطلاقة جديدة نحو الأفضل كعادتك. فأنتِ بكل مرة تبهيرينا بنجاحك وتميزك بالوقت الذي يظن به الجميع أنك انهرتي وتراجعتي . تمنيت لو وقع الطلاق قبل زيارتي الأخيرة لكِ. كي أكون قد وفيت بوعدي في المحافظة عليكِ دون جرحك. ولكني سأظل شاكرًا لله الذي كتب لي هذا القدر وساقني إليكِ كي أحظى بأجمل أيام وساعات عمري. لا اعرف ماذا أقول هل اعتذر ام ابارك لكِ مجددًا ام احزن على فراقنا بهذه الطريقة. رغم معرفتي بعدم مسامحتك لي ولكن بالأخير عليكِ ان تعلمي انني لم افعلها بمحض ارادتي لقد خيرتني رشيدة اما ان اطلقك وتبقى هي وطفلي بجانبي واما ان تعود للمغرب مع حضانة ابنها وتبتعد عني دون رجعة القانون معها بوضع المكان والزمان الذي أرغمنا على عيش حياة مختلفة عن حياتنا التي اعتدنا بها على *القوة *والسيطرة *والصحة فلم نعد كسابق عهدنا حتى بها، صدقيني كان الاختيار صعب وخاصة بعد زيارتي الأخيرة واستنشاق عبق الجنة بجانبك. ولكني مضطر للابتعاد والاكتفاء بالذكريات كي لا اظلم طفلي ، وكي لا *اظلمك *فمن *الظلم *الكبير ان لا اتركك بحريتك تختارين من يناسبك وتكونين اسرة وعائلة معه بجانب عملك في المشفى المحبب لكِ، لن اطيل عليكِ فكلانا يعلم اننا وصلنا لوقت لا قيمة للكلام به، تذكريني بالخير دومًا، اريد ان اخبرك بشيء  قبل الختام  لقد تبين نوع المولود سيكون مصطفى على اسم والدي هذه المرة ولكن اعدك ان رزقني الله بفتاة سأسميها سلمى وانا ادعو الله ان يجعلها تشبهك بكل شيء حتى عنادك المحبب لقلبي، اعتذر منك مرة أخرى انتبهي لنفسك جيدًا في امان الله وحفظه "


مسحت دموعها وهي تشهق *ببكائها *الذي خرج منها بشكل أشبه *بالانفجار.


مدت نظرها للأمام بعيون *مصدومة *وقلب اقترب على توقفه من شدة انفطار فؤاده، شهقت بأنفاسها بشكل متتالي كالغريق الذي يحاول التقاط أنفاسه بين أمواج البحر العالية. 

……….


في غرفة مكتبه كان ينظر نحو صورتها داخل هاتفه وهو يمرر اطراف أصابعه على ضحكتها بحضنه، قرب هاتفه لقلبه متألما بفراقهم. دمعت عيونه وهو يقول 

"رغم أنها كانت رغبتك وطلبك إلا أنها جاءتك بالوقت *الخطأ، *اعلم أنني صدمتك وخذلتك وخاصة بعد الأحلام التي بنيناها سويًا"


ظهر على وجهه الألم القوي من اعتصار قلبه وهو يكلم نفسه

 "حتى وان لم تحبيني كما احببتك فأنا متأكد أنكِ تعلقتي بي كما تعلقت بكِ، اشعر بحزنك و حالتك وصدمتك الان فمن المستحيل ان يكون عكس ذلك بعد الذي حدث بيننا"


دخلت أسماء عليه الغرفة قائلة

"الفطور جاهز يا سيد خليل"


حدثها دون النظر لها 

"لا اريد اهتمي بأمي واعطيها دوائها بمنتصف الطعام هذه المرة "


أجابت أسماء وهي تراقب حالته

"أمرك يا سيدي"


وأغلقت الباب ذاهبة بعدها للمطبخ ليعود هو لفتح هاتفه ليشاهد صور سلمى وهي تتناول الطعام بجانبه بفرحة كبيرة.


اغمض عينيه بقلبه المتألم وهو لا زال يتذكرها بحضنه . 


مرت الساعات بصعوبة كبيرة على الطرفين  اقترب حلول الليل ولا زالت سلمى على الأرض صامته بعيون حمراء جفت ينابيعها وأصبحت ثابتة تنظر للأمام فقط بقلب *مطعون *بسم *الخذلان *والقهر *الترك والوحدة واللوم على النفس.


يرن هاتفها بجانبها دون ان تستمع له وكأنها انفصلت عن عالمها و رحلت لعالم آخر لا احد به سواها.


تدمرت بشكل كامل لم تكن تعلم ان هناك جرح أعظم من تخلي عائلتها عنها قبل سنوات لتتفاجئ بطعم ألم وجرح جديد أكبر واعمق مما تعرضت له في مهد شبابها.


مضى يومين على الطلاق وثلاث على *حادث *انزلاقها من الدرج، عادت سلمى لعملها بوجهها الذي ادهش كل من رآها توجهت مباشرة لغرفة دكتور طارق لتتولى مسؤولية المرضى الخاصين بها من جديد.


طرقت الباب ودخلت لتجده بجانب خطيبته يشاركها الفطور ، ابتسم وجهه قائلا

 "وأخيرا جاءت المتمردة على عملها  "


 شكرته قائلة 

 "جئت لأخبرك أني سأتولى مهامي الخاصة  بي شكرا لك على تحمل عملي بجانب عملك"


تحدثت رانيا  مشيرة نحو الفطور 

"تفضلي شاركينا الفطور"


تحدث طارق قائلا بضحك

 "أرادت رانيا ان نفطر اليوم من المطبخ المصري، طلبت لنا الفلافل والفول، انصحك ان لا تفوتي العرض فالفلافل مصنوعة بحرفية واهتمام كبير سيذهلك عند تذوقك له كما أنها محشوة بالجبن من الداخل"


 غارت رانيا دون أن توضح لخطيبها غيرتها عليه. شكرتهم سلمى بوجه خالي من التعابير لتخرج بعدها من الغرفة وعيونهم معلقة من الخلف عليها. 


تحدثت رانيا بقلق قائلة 

"هي ليست بخير؟"


رد طارق بحزن

 "وما الجديد!، هي كذلك منذ أن اطفئ والدها وعشيرته مصباحها في ذلك اليوم "


أجابت رانيا عليه

 "ولكني لم أراها بهذه الحالة من قبل"


رد طارق بثقة كبيرة

"لأنها تخفي ما تشعر به عن الجميع. هذا فقط ما يظهر ولكني متأكد ان ما تحمله بداخلها أكثر منه"


فاجأته بقولها 

"ما رأيك أن تذهب وتطمئن عليها"


نظر إليها بنبرة تعجبية مصحوبة بابتسامة عريضة   

"هل سترسلين خطيبك لمن تغارين منها ليل نهار دون حق. ام انكِ تقولين لقد وثقت بك وأصبحت لا اغار"


اجابته لتدخل القلق لقلبه أكثر مما يشعر به

"ولكنها حقا ليست بخير. ألم تر حالة عينيها ولون وجهها . اشعر وكأني انظر لوجه أحد بغرفة حفظ الموتى"


قاطعها بخوفه "حفظها الله "


رق قلب رانيا الطيب الذي جعلها تشفق وتقلق على زميلتها التي ظلت عيونها محملة بالدموع الثابتة طوال اليوم.


  تدور بين المرضى لتهتم بحالتهم وهي في أمس الحاجة لمن يهتم بقلبها المفتور.

دخلت هند غرفة صديقتها المقربة لقلبها وهي تقول لها 

"ألن تأتي للصلاة معنا؟"


ردت سلمى معتذرة منها

 "ليس الان، سأنهي ما بيدي وأذهب بعدها للمسجد"


أدارت سلمى رأسها نحو منتصف غرفة مكتبها قائلة

 "أو اصليه هنا بالغرفة"


أومأت هند برأسها

 " في كل مرة تكررين لي الكلام نفسه، أم أنكِ تتهربين من الصلاة بهذه الحجج الفارغة؟"


ردت سلمى عليها باستنكار

 " اتهرب ! ولماذا اتهرب من صلاتي ! ان لم اصلي سأخبرك أنني لم اصلي ، انا لا أخاف من أحد سوى رب العالمين"


اومات هند براسها من جديد

 "نعم اعلم إنكِ قوية وعنيدة ولا تخافين من أحد ولكني أخشى ان يضحك الشيطان عليكِ بكثرة التسويف ، سوف اصلي بعد انتهاء معاينة المريض سوف اصلي بعد انتهاء كتابة التقرير، سوف اصلي بعد انتهاء عمل كذا وكذا وينتهي اليوم واليوم الذي يليه بل والشهور والسنوات دون أن تصلي"


ردت سلمى بدون اهتمام

 "اعلم إنكِ تقولين ذلك من خوفك وحبك لي، ولهذا سأقول لكِ لا تخافي وعدتك بالمرة الماضية ان اواظب على الصلاة وها أنا أفعل تفلت مني بعض الصلوات ولكني افعل كل ما بوسعي كي اقيم كل فروضي، احتاج لبعض الوقت فقط كي أُدبر عملي ومسؤولياتي الكثيرة التي لا تعطيني فرصة حتى لتناول الطعام، واواظب بعدها على الصلاة دون انقطاع"


ابتسمت هند وقالت لها

 "اسال الله ان يكتب لكِ الخير والراحة والسكينة والطمأنينة ويجعل ملاذك في صلاتك"


فرحت سلمى بالدعوة التي لمست قلبها كأم حنونة تحتضن طفلها وتحنو عليه، ارتاح داخلها بمجرد سماعها الدعوة وشعورها بالخير الذي سيصيبها من وراءها.


ذهبت هند للمسجد وهي حزينة على صديقتها ظلت تفكر بأمرها ليومين متتاليين كانت حالة سلمى تسوء وتذبل امام عينيها دون ان تعرف السبب بوصولها لهذا الوضع .


فكرت أكثر من مرة كيف تساعدها وتخرجها مما هي به دون ان تصل لشيء عندما رفضت سلمى البوح بما يضيق صدرها به مؤجلة أي حديث بينهم لوقت لاحق، اخذت هند وعدًا منها على ان يجلسا بأقرب وقت كي تحكي لها عن كل شيء .


تركتها لتعود إليها بصباح اليوم الثالث متحدثة بوجهها الفرح ويدها الملوحة بالأوراق قائلة

 "اسمعتي عن مسابقة الملك لأفضل طبيب عربي!"


ردت سلمى عليها وهي تتمعن تعابير الفرح على وجه صديقتها

"لا لم اسمع عن أي مسابقات "


أجابت هند

"سيختبر الملك كل الأطباء المشاركين في المسابقة أيا كانت جنسيتهم لا شرط لديه بذلك"


تساءلت سلمى باستغراب

 "وبماذا سيختبر الأطباء ؟"


ردت هند بحماس كبير 

"سيتم الاشتراك بالمسابقة واستلام الكتب والملازم المنصوص عليها من قبل مجموعة علماء ذو باع كبير في مجالات الطب، سيضعون منهج كبير سيكون الأول والأقوى ، كما انهم لن يقبلوا في المسابقة إلا المتفوقين والجادين بالمجال، سيتم الخضوع لتدريبات واختبارات متتالية من ينجح بها يتأهل بالمراتب حتى يصل لجائزة افضل طبيب عالمي"


لمعت عين سلمى وهي تستمع 

"الجائزة خرافية يقولون ان الملك سيتباهى بالجائزة المكونة من عدة جوائز مجمعة أمام العالم، هناك من يقول إدارة اكبر مشفى على مستوى الشرق الأوسط وهناك من يتحدث عن أموال طائلة ومرتب شهري يفوق حد الخيال وهناك من تحدث عن سيارة احدث موديل يتم تصنيعها خصيصا بإسم الفائز ولم يُصنع لها شبيه بعدها، بجانب الجنسية الإماراتية وجواز سفر دولي يمنحك الدخول والخروج من أي دولة بالعالم دون انتظار أي تأشيرات"


ردت سلمى بانبهار 

"ان حدث ستكون قنبلة العام، من المؤكد ان الحدث والصراع لن يمر بسهولة دون صعوبات وتمحيص "


ابتسمت هند قائلة لها 

"جاء الوقت لتحققي حلم أمكِ بكِ لن تصبحي طبيبة متفوقة وحسب بل ستصبحين أقوى طبيبة على مستوى العالم، لكِ ان تتخيلي حالك وفخر دولتك بكِ بل فخر العالم كله"


ردت سلمى بتخوف 

"وهل لي ان أواجه وانافس عمالقة الطب جميعنا يعلم ان هناك قامات طبية ان دخلت المسابقة تجتازها دون جهد"


اجابتها هند بقوة وثقة

 " لن ينجح احد بهذه المسابقة دون جهد كما ان الأوراق بينكم ألم تقولي دائما ما الذي يجعلك تخسرين او تفشلين ان كان كل شيء مكتوب ومحفوظ ومُثبت نتائجه، دائما ما تثقين بقدراتك وتميزك وقدرتك على الحفظ ومراجعة ما حفظتيه وقت الحاجة،  كنتي تقولين لي ان اردت شيء سأسعى حتى أحققه وانجح به وان كلفني هذا الكثير والكثير "


تحمست سلمى قائلة

 "يكفينا شرف المحاولة والانضمام لهذه القائمة التي من المؤكد انها ستكون جامعة لأكبر قامات المجالات الطبية، حتى وان لم اصل للنهائيات فيكفي ان يُكتب اسمي بمسابقة كبرى كهذه"


ردت هند لتشجعها 

"انا اثق بكِ ان عزمتي النجاح ستحرقين السفن حتى تصلي لما تريدين "


ابتسمت سلمى بحماس

 "نعم سأفعل أكثر من ذلك حتى وإن قطعت الاكل والشرب حتى اصل لما اريده" 


سألتها هند بوجه بدى عليه القلق

 "وماذا عن عملك ومسؤولياتك والمرضى المسؤولين منكِ كيف ستوفقين بينهم؟"


ردت سلمى بثقه 

"لا تقلقي سأتدبر أمرهم، بأول الأمر سأحاول تقليل ساعات النوم لأنهي أكبر قدر مما عليّ، كما يمكنني الاعتماد على المساعدين بشكل اكبر من ذلك، وأيضا سأرتب الامر بيني وبينك وبين الأطباء جميعكم ملزمون بمساعدتي ودعمي حتى أنجح وارفع اسم مشفانا بجانب اسمي لنجوب العالم بنجاح غير مسبوق"


ردت هند قائلة 

" كان هناك حديث أبي هريرة   قال: 

قال رسول الله ﷺ: 

من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".


ردت سمر باستغراب

 "وما دخل ذلك بحديثنا"


أكملت هند حديثها

"المقصود من قول رسول الله ﷺ  أن الإنسان ينبغي عليه أن يشمر ويجتهد في طاعة الله، ولا يتوانى ولا يتراخى من أجل أن يصل إلى مطلوبه و مأمنه بإذن الله، فإن الآخرة تُطوى مراحلها بالأعمال الصالحة، علينا ان نشد من التشمير والسعي لنيل الأماني"


ردت سلمى لتطمئنها بعزم على النهوض من تحت ركام اقدارها

 "الان فهمت عليكِ، لا تقلقي عليّ  ان قررت ان ادخل السباق فمن المؤكد أنني سأفعل ما يبهرك من سعي ومجاهدة لنيل ما أريد "


أجابتها هند بصوت حنون محب

 " ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، السلعة إذا كانت غالية وذات ثمن عند صاحبها  فمن المستحيل أن يبيعها بثمن زهيد، ينتظر من يدفع فيها الثمن الذي تستحقه ويصلح لقدرها ليبيعها ، و هكذا الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها ألوان النعيم المقيم، ما لا يُقادَر قدره ولا يخطر على بال، و لكي  نصل لنعيم الجنة نحتاج إلى ثمن وتضحية وجهاد وتشمير"


تحركت هند على مقعدها مكملة باندماج

" سأشرح لكِ أكثر نحن في هذه الحياة الدنيا حينما نطلب شيئًا من الطعام و الشراب فإننا نحتاج إلى جهد في صنعه وإعداده وتجهيزه أو الحصول على المال الذي يمكننا من شرائه ، وهكذا حين نرغب في الحصول على مكانة اجتماعية فريدة نقطع الاكل والشرب حتى وإن وصل بنا ان نقاطع الناس حتى نصل لهدفنا، فما بالكِ بالنعيم المقيم في الجنة من كل ما لذ وطاب، ولكننا مع الأسف رغم كل ذلك نفرط فيها غاية التفريط، نعطي الفروض والاعمال الصالحة فضلات أوقاتنا وربما لا نعطيهم هذه الفضلات لحاجة دنيوية زائلة، ولربما نؤجلها إلى آخر العمر حينما يضعف بنياننا عن العمل و تحمل أعباء العبادة وما فرضه الله علينا، سأقولها لكِ للمرة الاخيرة من عرف قدر السلعة وقبل ذلك عرف قدر المعبود، وعظم نعمه على عبيده فإنه يستطيع ان يبذل نفائس الأوقات فيما يقربه إليه، و يرفعه عنده، و يرضيه عنه ، و يخلص رقبته عنده يوم القيامة.


 اعتذر للإطالة ولكني أحببتك واحببت ان يجمعني الله بكِ في الجنة وأخشى ان يحول انقطاعك عن صلاتك بيني وبينك يوم القيامة فكل تقصير يعوض إلا التقصير بصلاة الفرائض"


تحركت هند لتخرج من الغرفة وهي تنظر لساعة الهاتف قائلة 

"علي أن أصلي فرضي ومن بعدها اعود لعملي"


تحدثت سلمى بصوت منخفض منهك

"وماذا عن المسابقة؟"


تعجبت هند من سؤالها قائلة 

"استخدمي عقلك يا سلمى أنتِ لستِ غبيه او بسيطه لدرجة ان لا تفهمي الرابط بين سلعة ملك من ملوك الأرض وسلعة مالك السماوات والأرض وما بينهم ، إلا أن سلعة الله غالية يا سلمى أليس الجنة تستحق السعي وتوقف الاعمال والاكل والشرب وبذل قصار الجهد للفوز بها، بالاخير الدنيا فانية ولا أحد يعلم متى سيتوقف قطار مسيرته فاعملي يا اختي لهذا اليوم حين نقف باخر محطة ونضطر ان نقف بين يد ملك الملوك كي يحاسبنا عن عمرنا ومالنا وعملنا، ذهب حماسك واحلامك اعتذر منكِ ولكني فعلتها كي نجتمع بجنة الخلد"


أنهت هند كلامها ثم تركتها وخرجت.


 مر يومين آخرين لا يقلون ثقلًا و وطًأ مما سبقوهم . لم تعد سلمى بهم لمنزلها قط مكتفية بالأريكة المفضلة لها في غرفة مكتبها.


أصبحت تجمع فروضها محاولة اداء صلاتها بقدر المستطاع وان فاتها الوقت.


حتى أتت هذه الليلة الذي قررت بها أن تصعد على سطح المستشفى كي تستنشق الهواء الطلق لعله يحسن من حالتها.


جلست ارضًا مستندة بظهرها على جدار السور العريض وهي تتنفس بضيق واختناق شديد تشعر  به ، اخفضت نظرها على موضع يديها اسفل بطنها مردفه بنبرة عتاب مغلف *بالحزن *والكسر *

" حلمت  بتلك اللحظة الحماسية التي سأقف بها أمامك لأخبرك اني استطعت تحقيق حلمي وحلمك بالأبوة ، تخيل معي كم كنا سنسعد ونفرح بهذا الخبر "


 جرفت بكفيها دموع عينيها التي أصبحت متمركزه تعيق الرؤية دون أن تتساقط مكملة 

"أتساءل الآن ماذا ان جاءنا هذا الخبر قبل سفرك. كيف ستكون فرحتنا حين ذاك. كم كنا سنفرح  ونحلم ونحلم ، تساءلت هل كنت ستتركني وتتخلى عني بهذه الطريقة الرخيصة دون النظر وراءك ،هل كنت ستخذلني بهذا الشكل المهين؟"


خرج من صدرها صوت تفوه *النيران *المشتعلة *به ، ارتفع صدرها وانخفض من شدة زفرها لتلك الانفاس الحارة محاولة التخلص من هذا الإحساس الذي لم تعد تتحمل احتجازها داخله.


 دمعت عيونها من جديد وهي تقول بصوت مسموع 

 "هل كنت رخيصة لهذه الدرجة، ؟هل قدري بقلبك وثيقة وخطاب وداع تتمنى فيه سعادتي مع غيرك!، هل كنت عمياء القلب والبصيرة لهذه الدرجة ام أصبت بالغباء لدرجة جعلتني…" صمتت صمت طويل لتنظر بعيون مرهقة و وجه ذبل من الحزن والقهر والخذلان.


اشرقت الشمس بنورها لتضيء السماء والأرض دون ان تستطيع اضاءة القلوب التي إنطفأ  نورها وأصبحت مكلومة، وقفت سلمى وهي تزحف بباطن كفيها على الحائط التي تستند عليه بظهرها كي تستقيم بوقوفها دون سقوط.


كان من المفترض ان تبدأ سيرها تجاه الباب ولكنها بلحظة ضعف ويأس صعدت أعلى السور وهي *تصرخ*بصوتها المبحوح من بكائه وقهرة قلبها 

" لماذا تركتيني لهم، لماذا ذهبتي وتركتيني لهم، لم اعد اتحمل يا امي لم اعد أتحمل"


اختل توازنها واسودت الدنيا بعينيها لتنجبر على الجلوس مكانها وهي تضع يدها على قلبها 

"أشعر أنني سأموت ، قلبي يؤلمني يا أمي ، هنا هنا " 


حركت يدها المرتجفة بطاقتها المفرغة على صدرها وقلبها 

"لم اعد اتحمل يا امي "


اطلقت نظرها للأسفل ثم عادت لتنظر للسماء 

"لم اعد اتحمل يارب ، اقسم لك انني لم اعد اتحمل "


وبلحظة جنونية وسوس لها شيطانها ان* تلقي *بنفسها من الأعلى كي تذهب لأمها وترتاح من هذه الدنيا *الغدارة *، نظرت للاسفل بعيون حادة ثابتة من يراها يجزم أنها ستفعل ما يوسوس لها. ولكنها *خافت *من نفسها على نفسها متراجعة لتنزل من على السور متجهة نحو المدخل بخطوات متثاقلة مرتجفة ، تنظر نحو الجدار البعيد وكل امنياتها ان لا تسقط قبل وصولها له، وضعت يدها على الجدار والأخرى على قلبها أثناء سيرها تتوقف لثواني ثم تعاود السير ، تنزل بخطواتها المتثاقلة  الدرج بصعوبة اضطراب ضربات قلبها وتشوش الرؤية أمامها ، بحذر كبير *خوفًا *من ان يراها احد دخلت المشفى من جديد مغلقة خلفها باب الطوارئ ناظرة حولها كي تتأكد من خلو المكان.


قررت أن تجلس على المقاعد الجانبية رغم استصعابها الوصول لها ، مترين ليست بمسافة كبيرة أمام شابة ولكنها كقدر الكيلو مترات أمام من أثقلها حملها .


رآها دكتور تيّم اثناء سيره بالممر متعجبًا من حالتها ، لم يتعرف عليها بأول الأمر ولكنه تأكد من شخصها حين اقترب ليقدم المساعدة أيًا كانت تلك الفتاة ، ليجدها هي اقترب مسرعًا بخوفه

"دكتورة سلمى! هل عاد انخفاض ضغطك"


وضعت يدها منتصف ذراعه القريب منها بكل ما أوتيت من قوة كي لا تسقط.


امسكها وتحرك بها ليجلسها على المقاعد الحديدية وأخرج زجاجة عصير صغيرة من جيب البالطو الأبيض . فتحها واعطاها لها لتبدأ بشربها دون اعتراض او رفض فقد كانت بحالة لا تسمح لها بخيار آخر إما أن تشرب أو تسقط مغشيًا عليها. 


راقب حالة التقاطها لأنفاسها وصدرها الذي يرتفع وينخفض بشكل ملحوظ ليجلس بجوارها وهو ينظر للسانها الي يخرج بشكل متتالي ليمسح شفائفها الجافة قائلا

"يجب أن نجري لكِ فحص سريع لنسب السكر وضغط الدم"


اغمضت عينيها وهي تحرك السبابة *رافضة *لما يقول، تعجب من وضع وجهها الشاحب كلوح ثلج دون ملامح او أدنى دموية، كررت سلمى مسح شفتيها بلسانها وضع يده على معصمها ليقلق من نبضها الضعيف مصرًا على نقلها لقسم الطوارئ كي تتلقى فحص سريع.


فتح هاتفه ليتصل بالطوارئ

 "دكتور تيّم يحدثك اريد ناقلة بالطابق العلوي بشكل عاجل ، دكتورة سلمى الأكرم ليست بخير"


اغلق هاتفه وهو يطمئنها

 "ستصبحين بخير لا تقلقي" 

لم تجبه ولم تفتح عينيها كانت تحاول فقط التنفس بهدوء كي تحافظ على وعيها دون فقده.


اسرع اثنان من المسعفين نحو المصعد الكهربائي ملبين النداء ليتم نقلها للأسفل ، وفور نزولهم للطابق الأول نادى تيّم بصوت عالي 

"من الطبيب المداوم ؟"


أشاروا إليه نحو الغرفة التي اسرع المسعفين قبلتها. وقف دكتور فارس مذعور فور دخولهم قائلا 

"دكتورة سلمى! ماذا حدث لها"


 اقترب ليحدثها

 "دكتورة سلمى هل تسمعيني؟"


كشف على عينيها ثم نبض قلبها ومن ثم وضع قياس الضغط بيدها وهو يحاول ان يفهم ما جرى معها عن لسان تيّم بعد أن عجزت هي على التحدث.


انصدم فارس وهو يقول لتيّم مقياس الضغط

"خمسين على أربعين"


أخذ المحلول الطبي واقترب بسرعة ليضعه بوريد كف يدها بعد ان تفاجؤوا من انخفاض ضغطها لهذه الدرجة.


وضع فارس السماعة الطبية على قلب سلمى ليحرك رأسه بأسف ، اقترب تيّم منه 

"ما الخطب ؟"


_" لا زال نبض القلب سريع  وغير منتظم علينا ان نضع لها جهاز ضبط نبض القلب "


تحرك تيّم  وهو يقول 

"وصلنا نوع جديد اكبر في الحجم وافضل بالأداء انتظرني حتى اعود لا تضع لها من القديم "


أسرع تيّم نحو مخازن الأدوية ليأتي بالجهاز وهو عبارة عن لاصق متطور يتم وضعه على القلب كي يحسن من حالة الهلع و الأمراض التي ينتج عنها انخفاض أو ارتفاع في النبضات .


حدثه زميله بالعمل

 "اين اختفيت انتهت المناوبة الليلية ولا زلنا هنا"


_" لا ترتبط بي سلم مهامك وعد لأهل بيتك"


فتح الأدراج الكبيرة وأخذ ظرف مغلف من داخل علبه،  ليسرع الطبيب بسؤاله

 " أين تأخذه لم يكتمل الجرد….."


_" لا تقلق سأحل الأمر"


ترك صاحبه وعاد بنفس السرعة لغرفة الطوارئ ليجد لفيف من الأطباء بجانب زميلتهم ، نظرت دكتورة هند لتيّم متسائلة

 "هل احضرته؟"


مد يده ليعطيه لها مستمع لسؤال دكتور طارق 

 "اين وجدتها ! أكانت بهذه الحالة أم طرأت عليها فجأة"


روى تيّم تفاصيل ما حدث عليهم وجميع الأعين تراقب حالة سلمى النائمة اثر المهدئ الذي حقنها دكتور طارق به فور وصوله فهو يعلم ما مر وتحمل هذا القلب المكلوم . 


استقر وضعها باستقرار نبضات قلبها ليطمئن الأطباء خفضوا الإضاءة كي تكمل نومها بهدوء لعلها تستيقظ بحالة افضل مما كانت عليها.


ذهب الجميع كلًا يسعى في مداره الخاص به، إلا دكتور تيّم الذي لم يطمئن بتركها وحدها ظل يتردد على الغرفة ناظرًا لوجهها و هو متعجب من تعابير الحزن على وجهها وامتضاض الشفاه وكأنه يرى وجه طفل نام بعد وصلة بكاء وضرب وعقاب من أمه. 


اقترب منها منحني عليها ليتأكد من سلامة تنفسها بعد ان شك في فقدانها لوعيها أثناء نومها، قلق لعدم سماعه او شعوره بنفسها اقترب بوجهه  من انفها و عينه على صدرها الثابت دون حركة .


وبينما كان هو قلق يحاول الاطمئنان عليها ، كانت هي تفتح عيونها متعجبة من الشعر القريب منها ،رفع نظره نحوها حين شعر بحركتها منصدم ببريق عينيها الذي كان يلمع ويضيء هذه المرة بأمواج بحورها الحزينة البائسة .


.......

رابط الفصول المجمعة


يتبع ..


إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا. 


منها "رواية حياتي" 


رواية جديدة قيد النشر من ضمن سلسلة روايات الكاتبة أمل محمد الكاشف ..

google-playkhamsatmostaqltradent