من رواية عروس بغداد
بقلم الكاتبة : أمل محمد الكاشف
لما *الحرب؟ *
هل نحن مضطرون إليها من أجل العيش بكرامة، تهتز ذعرا *وخوفا *من اصوات *البنادق *، *يتمزق *قلبك على *فقدان *الحبيب والسند والرفيق ،تهرول من مكان إلى آخر بحثًا عن جدار يحميك من *وطأ رشقات الصواريخ *دون ان تجده، تضطر لترك *جثامين *واشلاء *احبابك وفلذات كبدك كي تنجو بروحك وانت *تصرخ
الله يا الله احفظنا يا الله.....
يا الله ما أبهظ ثمن الكرامة!!!!
هل الجميع يحب الحياة!؟
سألت أحدهم في يوم من أيام *الحروب *كيف تحب ان تعيش حياتك..
لتأتي أجوبته المحفوفة باحلامه الصغيرة كمسح *الحزن*والدموع *عن وجوه كل من حوله، توزيع الورود الملونة لإدخال السعادة على القلوب المكلومة بمرارة الأقدار، يتمنى كل منهم لو عاد منزله و والديه وإخوته من جديد ليرتب وينظم ويتحمل *الصراخ *والطلبات دون *تذمر *او رفض *راضيًا بقدح حساء ساخن يشربه وهو يستمتع مع عائلته بدفئ الحطب المشتعل في مدفئة الشتاء القارص، يستيقظ بالصباح متعقب الفراشات الملونة بأقدامه الحافية وسط الربيع المخضر بالورود والزهور الملونة، ينتظر عودة ابيه ليجفف عن جبينه عرق *معاناته *من أجل شراء رغيف خبزٍ يسد جوعهم المستميت، يتمنى ان يعود بهم الزمان الذي كان اقصى همومهم ان يهربوا لبعضهم البعض كي يتقاسموا الأيام والرغيف والضحك.
من المُضحك المُبكي ان يسألوا اصحاب الحاضر البائس عن نظرتهم للمستقبل المجهول كيف يريدونه ان يكون؟
وكيف ستكون الاجابة وسط الظلام الدامس؟
بأي صوت وصورة سيجسد نظرته المستقبلية بعد ان اصبح الناجي الوحيد من تحت ركام منزل العائلة؟
لما *الحرب!! *
وما اصعب السؤال والأجوبة والأحلام والأساطير *المحطمة *بين اسوار حروفها .
أصوات المدافع *وطلقات *الرصاص الحي *تتعالى بكل مكان، ابيض الهواء بتراب المنازل المنهارة حالة من *الصراخ *والبكاء *والاهااات *تجوب الشوارع ، دوي *سقوط *الصواريخ يتبعه إنفجار *وانهيار *المباني يعقبه ارتجاج الارض، تسمع وتقرا عن اهوال القيامة دون ان تتوقع عيش ما يشبهها وانت على قيد الحياة، الجميع ينادي على بعضه البعض دون استجابة، *انهار *الجدار الموازي لباب غرفة سلمى على اثر *سقوط *صاروخ *كبير على المنزل المجاور، *صرخت *مختبئة اسفل الفراش منتظرة ما هو أسوأ ، انتظرت حتى تهدأ الأصوات *المرعبة *لتسرع بعدها في سحب عبائتها وحجابها من على المقعد المهشم صاعدة اعلى تل الحجارة كي تخرج باحثة عن البقية، اتسعت عينيها حين رأت غرفة الأم فاطمة والطابق العلوي مطبقين على بعضهما البعض، ادارت رأسها لتنظر جهة غرفة خليل مسرعة نحوها لتجد رشيدة *تنزف من جبهتها ويدها تجلس بجانب زوجها تحاول سحبه من أسفل ركام الدولاب *المدمر *من *الحطام *الاسمنتي *وهي تبكي *بانهيار *كبير. اسرعت بمساعدتها وسحب خليل *بصعوبة *كبيرة وهما تبكيان على *صراخ *تألمه، حررا قدميه بعد جهد مستميت ليسحباه بعدها من كتفيه لخارج الغرفة، نظرت سلمى لوضع قدمه قائلة بسرعة *وخوف *مما هم به "لا تخف لا يوجد *بتر *او *نزف *هيا لنذهب للمشفى "، تحدث خليل *بألم *كبير
"الخارج *خطر *لا يمكننا الخروج ساعدوني لننقذ امي، هيا لننقذها"
رفع رأسه ليديرها جهة غرفة امه *منصدما *بالوضع بكى الجميع وهم ينادون على فاطمة و وداد وسناء متسائلين "هل تسمعوننا؟ هل انتم على قيد الحياة؟، اعطونا اي اشارة، اطرقوا على اي شيء بجانبكم، اصدروا اي صوت" ولكن دون استجابة
كانت دقائق عصيبة *مرت وكأنها سنوات ثقال، سمعوا صوت طائرة تقترب من المنطقة ليصدر بعدها صوت *قصف *اقوى مما سبقه *سقط على *أثره قطعة كبيرة من الجدار الذي يعلوهم هربت رشيدة جهة الشمال بينما *سقطت *سلمى جهة اليمين من شدة قوة الهواء المنبثق من *الانفجار.
ليكون القدر من نصيب خليل الذي *صرخ *متألما *من قوة *ارتطام *اللوح الاسمنتي على منتصف قامته السفلى.
عادت سلمى ورشيدة بجانبه محاولين سحبه وانقاذه وهما يبكيان
تحدث لهم بصعوبة ما يشعر به
"اهربا من الجهة الخلفية بسرعه هيا اذهبا واختبأا بكراج المنزل المهجور "
رفضا ان يخرجا بدونه حاولتا سحبه حتى انقذاه بالفعل، ولكنه أصبح عاجز عن الحركة يتحدث بصوت منخفض يذهب عن الوعي ويعود من جديد بحالة أسوأ من الأول.قامتا بسحبه متجهين نحو المطبخ ليخرجوا من الجهة الخلفية كما قال لهم
من حسن حظهم رؤيتهم للمقعد المتحرك بجانب باب الحمام فسبحان من أغفل عين وداد عنه فجر هذا اليوم.
وضعوه على المقعد بصعوبة حجمه و وزنه الكبير ليخرجوا به بسرعة كبيرة.
كان القصف قد هدأ نسبيا ولم يعد يسمع صوت للطائرات
تحدثت سلمى لرشيدة متسائلة عن هاتفها او هاتف خليل لتيجيبها بهلع
"لا اعرف كان بغرفتي لا اعرف"
_"حسنا اذهبي انتِ للخارج وانا سآتي بالهاتف واعود"
*رفضت *رشيدة *بخوف *كبير
"لا لا تتركيني وحدي"
*صرخت *بها بقوة
"لا وقت لدينا علي ان اتواصل مع الفرق الطبية علينا أن نستعين بمنقذ"
عادت سلمى بخوف *ورعب *ليس من اجل الهاتف فقط بل من اجل ان تجلب امانة زوجها، فعندما هدأ القصف واصبح الوضع هادئ نسبيا تذكرت امرهم فارادت ان تاخذهم معهم كي يعينوهم على مستقبلهم *المظلم.
دخلت بسرعة للمكتب دون غلق بابه سحبت الستارة الملقية ارضا واضعه بها جميع ما في الخزينة من ذهب وأموال وأوراق تظهر عليها أهميتها من الأختام التي تعلوها وضعتهم بعرض الستار لتبرم عليهم الأطراف رافعه ملابسها لتتحزم بهم على وسطها بأحكام كبير، نظرت نحو دفاترها نظرة وداع لم تطل فهي بحال لا يسمح لها *بالحزن *على الذكريات فقد خسروا الأرواح والاغلى من هذه الأوراق.
عادت لتهرب من جهة المطبخ مستمعه لنداء رشيدة المذعورة *بخوفها
"مات خليل، مات خليل"
ارتجفت يديها وهي تاخذ الهاتف من جانب باب الغرفة بعد ان دفعه القدر لهذا المكان القريب منها. اسرعت بخروجها المرتجف *بخوف *اصطدامها *بحقيقة موت خليل، ولكنها سرعان ما تأكدت من نبض قلبه.
تحركت به نحو الباب ليخرجوا من الحديقة باحثين عن منقذ يأخذهم لأقرب مستشفى، فتحت الهاتف قائلة
"لا يوجد شبكة"
تحدثت رشيدة
"ماذا ان لم يسمحوا بدخول سيارات الإسعاف كعادتهم "
ردت سلمى بقوة خاوية فهي ترتجف من شدة ما هم به
"علينا ان نخرج نحن إذا"
بكت رشيدة ممسكة ببطنها
" لا يمكنني السير بهذه الحالة وايضا كيف سنذهب دون ان يساعدنا احد"
اجابتها سلمى بنفس ثباتها وقوتها
"علينا ان ننقذه، اخبريني اين يضع مفاتيح سيارته"
أجابت رشيدة بصوت متقطع بسبب *ارتجافها
"ليس لها مكان ثابت لعلها بجانب الباب او بالغرفة او يتركها بالسيارة"
تحركت سلمى مبتعدة لتسألها رشيدة *بخوف *اين ستذهبين
_"سأذهب لارى السيارة أولا"
ركضت سلمى اعلى الحطام الاسمنتي كي تذهب للجهة الامامية من جهة الحديقة وعيونها على اسوار المنزل المتساقطة أرضا، كانت تبحث عن جيران او اشخاص يساعدونها ولكن الكل *يحترق *على حاله. بعد ان *سقطت *جميع المباني من حولهم بشكل سيء.
حمدت ربها على نجاة سيارتهم من الحطام فتحت باب السيارة لتجد المفتاح بداخلها تحركت بسرعه وهي تنادي على رشيدة ممسكة " هيا بسرعة لا وقت لدينا".
سمعت بطريق عودتها صوت يناديها
"يا دكتورة"
علا صوت بكاء رشيدة وهي تقول
"وداد انه صوت وداد"
صعدت سلمى بركضها أعلى الركام منادية على وداد لتجدها ملقيه على الفراش بجانب سناء لا يستطيعان الخروج من اسفل الجدار العازل بينهم وبين المخرج.
*صرخت *سلمى تستنجد بربها محاولة ان ترى اي شخص يهرع لإنقاذهم دون نتيجة نظرت لرشيدة بالاسفل لتجدها تقول
"هيا لننقذ خليل ثم نعود لانقاذهم"
بكت سلمى قلة حيلتها وعدم استطاعتها ترك وداد وسناء وخاصة وهم يتوسلون لها كي تنقذهم.
وصل لهم المدد بهيئة عدة شباب كانوا ينتظرون استقرار الوضع ومغادرة العدو للمكان كي يدخلوا وينقذوا من به، تم إخراج سناء و وداد والمفاجأة اخراج فاطمة بسلامة كاملة دون ان تصاب بشيء.
عادت شبكة الاتصالات للمنطقة لتسرع سلمى بكتابة رقم الطبيب طارق نصار طالبة منه العون، *فزع *حين سمع صوت *بكائها *وقولها
"خليل بحالة *سيئة *نحتاج لتدخل سريع"
تحدث طارق مع احد الشباب طالبا منهم نقل خليل للمشفى العام مؤكد على سلمى ذهابه إليهم ليساعدهم. ولكنهم اخبروه بانتظارهم سيارات الإسعاف كي يتم نقل جميع الجرحى.
طلبت سلمى من الرجل ان يساعدوها لوضع الام فاطمة بالمقعد الامامي وزوجها بطول المقعد الخلفي، نصحها أحد الشباب بأن تنتظر مجيء سيارات الإسعاف ولكنها رفضت
"لا وقت لدينا سنفقده ان انتظرنا"
صعدت السيارة لتصعد رشيده معها دون اعتراض جالسة أرضا بجانب المقاعد الخلفية ممسكة بيد زوجها المستلقي امامها وهي تترجاه بدموعها ان لا يتركها.
اسرعت سلمى بقيادة السيارة بسرعة كبيرة محاولة تفادي الركام *والطرق *المهدمة.
من يرى انطلاقها وقوتها وجرأتها وسرعتها باتخاذ القرارات وتنفيذها، بل من يرى عيونها التي أشبهت الصقر وهي تنظر بجميع الاتجاهات محاولة اختيار المسار الافضل والاقرب لا يقول إلا رحمة الله على امها تلك المدرسة العظيمة التي اخرجت فتاة بعدل عشيرة كاملة.
استطاعت سلمى إنقاذ زوجها بالوصول للمشفى في الوقت المطلوب تاركة رشيدة بجانب فاطمة لتسرع بجانب الأطباء وهي تشرح لهم حالته.
لم تتحمل رشيدة ابتعادهم عنها سلمت فاطمة للمسعفين واسرعت خلفهم وهي تتوسل الى الله كي ينقذ زوجها.
تم الاهتمام برشيدة وفاطمة من قبل المسعفين، أما سلمى فكانت بالداخل تتجهز لتدخل غرفة العمليات بجانب الأطباء فمن يستطيع أن يرد او *يرفض *مساعدة نابغة العراق خاصة بهذا الوقت العصيب الذي يحتاج الأطباء لأسطول طبي كي يلاحق على المرضى.
لم تتعدى على عمل الطبيب المسؤول عن اجراء العملية بل كانت له خير عون.
تم الانتهاء من العملية الخطرة متحفظين على خليل بغرفة العناية المشددة تحت عناية ورقابة واجهزة كثيرة متصلة بجسده، خرجت سلمى بعد عدة ساعات باحثة عن رشيدة منصدمة بخبر خسارتها للحمل وتدخل الأطباء لتنظيف الرحم كي لا يحدث لها مضاعفات سلبية تؤثر على صحتها بظل أجواء الحرب.
كانت المشفى أشبه بساحة *حرب *حقيقة الجميع يركض الأطباء والمسعفين واهالي الضحايا،تراكمت أعداد الجرحى بالطرق كما امتلأت الثلاجات بالموتى .
كان يومًا عصيبًا على أهل بغداد تم به استهداف أكثر من موقع في نفس الوقت ليتساقط *الجرحى *والشهداء *الأكثر على أثره.
لم تجلس سلمى بمكانها ساكنة ظلت تتنقل من مريض لآخر حتى وصل طارق للمشفى مهرولا في بحثه عنها حتى وجدها بجانب الأطباء في قسم الطوارئ.
اقترب منها قائلا بعيون حزينة على ما هم به "الحمدلله على سلامتكم"
لم يكن هناك وقت لفتح الأحاديث وكثرة الاسئلة فالوضع سيء بدرجة لم تشهدها البلاد من قبل.
فأرواح الجراحى كانت أولى بكل دقيقة بل بكل ثانية.
*حزنت *رشيدة *حزنًا *كبيرًا على فقدانها طفلها كما دخلت فاطمة تحت تأثير *صدمة عصبية *جديدة أثرت على لسانها وحركتها مجددًا.
تم السيطرة على الوضع مع مرور الساعات الأولى، حل الليل رغم ما عايشوه من صعوبة بالغة تحرك طارق ليبحث عن مكان بعيد عن قسم الطوارئ كي يريح جسده قليلًا قبل العودة لمهمته.
تقابل مع سلمى في ممر المشفى اوقفها ليطمئن على وضع عائلتها الجديدة، رفعت كتفها بحزن
"الحمدلله الذي اخرجنا من القصف بهذا القدر"
هز رأسه ليعيد عليها ما طلبه منها
" أقول لنفسي ماذا سيحدث ان تواصلنا مع والدك كي نطمئنه عليكِ، لا داعي لكل هذا الرفض"
وضع طارق يده على *جرحها *النازف *دمعت عيونها وهي تتمسك *برفضها، *أصر طارق عليها كي تخبره سبب *رفضها *لتخرج عن صمتها قائلة
"وماذا ستضيف له باتصالك، هل ستقول اهلا يا عمي اود ان اطمئنك على سلمى ان كنت تتذكر أن لديك ابنة اسمها سلمى"
نظرت نحو الممرضة التي تسير بالجوار منتظرة ابتعادها لتكمل " ام تتصل لتقول أصيب منزل دكتور خليل اليوم *بأنفجار *كبير نجت ابنتك منه بصعوبة، لا انتظر كان عليك أن تُذكره باسم المنطقة التي تسكن بها ابنته ليعلم هول ما تعرضت له فمن المؤكد أن القنوات الإذاعية تبث الحدث دون انقطاع، ااااوووو ام انه لم يجهد نفسه في معرفة مكان مسكني!! لا كيف لا يعرف يا صديق ؟؟ من المؤكد أنه يعلم فأنا ابنته الوحيدة مدللته التي لا يتحمل ان يصيبها مكروه، انتظر انتظر أم أنه…"
اقترب منها وهو يقاطع حديثها بعيونه الحزينة التي تنظر نحو عيون المارة التي علقت عليهم
"اهدئي يا سلمى انا لم ارد *احزانك، *حسنا كان مجرد اقتراح"
أكملت بدموعها وحزنها
"لم اعد مهمة بالنسبة له لقد *توفيت *وسقطت *من سجله العائلي يوم وفاة أمي "
ولأجل *حزنها *وبكائها *ولمسه لجرحها النازف أصر طارق على التواصل مع والدها كي ترى بنفسها مدى *حزنه *عليها فمن المستحيل ان لا يكون *حزينا *متأثرا بما حدث دون ان يتجرأ على التواصل معها مبررًا بقوله
"هذا الاتصال مهم ليس لاجله كما كنت اتوقع بل أصبح لاجلك أنتِ كي تتاكدي انه لا زال يفكر بكِ ويهتم لامرك"
قالها طارق وهو يفتح هاتفه بثقة كبيرة متصلًا بالعم حسين جاعلًا المكالمة على وضع المكبر متحدثًا
" السلام عليكم يا عم حسين كيف حالك اليوم"
أجابه حسين بصوت قوي
"وكيف ستكون اخباري بعد ما حدث بالبلد"
تحدث طارق *والخوف *والتراجع بدا على وجهه "كنت اتسائل عن اخبار دكتورة سلمى اعتقد ان *الانفجار *بمحيط منزلها أليس كذلك، اتصلت للاطمئنان على سلامتها فقط"
رد حسين ونبرة *الحزن *تغيم على صوته
"هل سلمى من جديد؟ ألم أقل لك ابتعد عنها ولا تتدخل بشأنها؟ وايضا ماذا تريد ان تسمع نعم كان منزلها من ضمن المنازل التي قُصفت *صباح اليوم تدمرت المنطقة بالكامل في المرة الاولى من القصف وعادوا ليدمروا المكان بالكامل في *القصف الثاني لتنهي كل من نجى قبل ان تصل لهم سيارات الإسعاف، هل هذا ما أردت سماعه"
اخذ عمها الهاتف من أخيه قبل ان ينهار حسين من بكائه على ابنته متحدثا بقوة وصلابة
"كان من الافضل ان لا تضغط على الجرح. توفت سلمى صباح اليوم مع زوجها وعائلته إثر القصف هذا ما نعلمه حتى الآن أطلب منك ان تبقى ساكنًا دون أن تصيح هنا وهناك وتسيء للمرأة بعد وفاتها ، لتذهب لربها بصحيفة نقية بيضاء غير ملوثة"
تحدث طارق بضيق كبير
"كيف تستسلمون لتنبأ وفاتها دون التأكد من صحتها"
غضب عمها عليه
"هل اتصلت لتسوء سمعتها بعد وفاتها، نقول لك المرأة توفت مع زوجها صباح اليوم من الان وصاعد لا اريد سماع اسمها على لسانك سنترحم جميعا عليها هذا كل شيء"
اغلق عمها الهاتف قائلا بصوت مسموع وهو ينظر نحو بكاء والدها
"أسأل الله ان تسامحنا بحقها ، لقد رحمها الله من ظلم البشر، ذهبت لربها لتجتمع مع أمها فهي احن عليها منا جميعا"
…..
نظرت سلمى نحو طارق وهي تهز رأسها *بحرقة *النار *المشتعلة *بصدرها
"أرأيت؟ ما رأيك؟ ألم أخبرك بهذا؟ لماذا لم تستمع لي ؟ بل ولماذا لم تستمع لهم باول الامر واصريت على تعرض حياتك للخطر كي تنقذني؟ لا يمكنك انقاذ من قُطعت جذورها من أرضها وأُلقي بها في مكان بعيد دون التفكير كيف ستحيا هناك، لا يمكنك إعادة الزمان واعادة قلبي وروحي وعمري لي، اخبرني هل تستطيع اعادة امي لي، هل يمكنك اعادة روحي *المحترقة *لسابق عهدها،أجبني ماذا تنتظر منهم؟ لقد تخلوا عني و وضعوني بقائمة الموتى حين وقفوا جميعا يشهدون على *صراخي *وبكائي *وتوسلي إليهم كي لا يتركوني ضحية للأحكام والأعراف ، الجميع مسؤول لا أحد بريء ، لا تحزن ساحاسبهم جميعًا على ما فعلوه بي"
اسرعت بابتعادها عنه لتدخل ممر الحمامات مختبئة باحدى وحداته تبكي *قهرًا *وظلمًا *ومرارة *قسوة *قلب والدها وعشيرتها عليها .
ورغم معرفتها بخطورة البكاء في الحمام ونهي رسولنا الكريم عنه كما سمعت من والدتها إلا أنها لم تجد مخبئ سواه، جلست على المرحاض بعد أن أغلقت غطائه واضعه يدها على فمها وهي تنادي امها *بنار *لا يعلم بها الا من *أظلمت *عليه دنياه.
لم يتحمل طارق رؤيتها بهذا الانهيار *والحزن *الذي خيم على عيونها ووجها العتر بهذا اليوم فما كان يكفيها ما حدث لهم بالصباح حتى يأتي والدها وعمومتها لينهوا ما بقي منها بهذا الشكل.
فتح هاتفه ليتصل بالعم حسين مرة اخرى وهنا فتحت محاسن الهاتف *لتصرخ *بوجه طارق وهي تتوعد باخذ روحه وإنهاء أمره ، تحدث طارق *بحزن *كبير
" لا داعي لذلك فلقد فعلتموها من قبل معي ومعها حين كتبتم علينا الموت ونحن على قيد الحياة ، اتصلت لاخبركم بنجاة ابنتكم من القصف هذا ما اردت قوله لكم بالاتصال الأول، اردت ان اشعرها *بخوفكم واهتمامكم بأمرها ولكن مع الأسف خيبتم ظني *واحرقتم * قلبها من جديد"
جلست محاسن بجانب حسين بقوة *صدمتها *وعيونها الباكية قائلة
" كيف حدث ذلك أخبرنا أحد كبار عشيرتهم بوفاتها هي وزوجها ام ان زوجها فقط من توفى"
أجاب طارق بحزن كبير
"لا لم يتوفى احد منهم فلقد أنقذت سلمى حياة زوجها ومن في المنزل حين خرجت من المنطقة قبل دقائق من القصف الثاني"
أخذ حسين الهاتف من محاسن قائلا
"بني هل أنت متأكد مما تقول"
اخبرهم طارق انها ستخرج ببث مباشر بعد دقائق من الان مع قناة تلفزيونية حكومية يمكنهم مشاهدتها من خلاله ان لم يثقوا بحديثه، اسرعوا بفتح التلفاز منتظرين رؤيتها حتى جاء الوقت وتحدثت المذيعة قائلة
"نتواصل الان مع مراسلتنا في مستشفى بغداد المركزي، صفاء اهلا بكِ نود ان تخبرينا بأخر الأخبار لديكم"
توقف توافد *المصابين *على المشفى كما تم التعامل مع الحالات كلا على حسب حالته.
_"من الجيد سماع ذلك ، اريد ان اسالك عن الطبيبة التي أنقذت بشجاعتها زوجها وعائلتها من القصف الثاني الذي أودى بحياة المئات صباح اليوم"
_"ليس هذا وحسب يا عماد فلقد تناقلت وسائل الاعلام القصة بشكل ناقص لذلك اريد ان اخبر الجميع بالملحمة الكبيرة التي أجرتها الطبيبة على أرض المعركة الانسانية "
تحدث الإعلامي عماد "اراجعك بهذا يا صفاء لم تتناقل وسائل الإعلام أمر الطبيبة بشكل ناقص بدليل أننا نبث الان فيديوهات قصيرة متفرقة التقطت للطبيبة وهي تتنقل بين الجرحى لانقاذهم باحترافية كبيرة جعلت كل الكاميرات تتصوب نحوها"
_"نعم هي كذلك كانت اليوم محط أنظار الجميع وخاصة اهالي المرضى الذين راوا بها طوق نجاة لاولادهم "
تحدث الإعلامي عماد "هل يمكننا التحدث معها"
_"بالطبع هي الآن بجواري تنتظر التحدث معك"
_"دكتورة سلمى اهلا بكِ وحمدًا لله على سلامتكم ونجاتكم من هذا المصير المحتوم".
أظهرت الكاميرات وجه سلمى لتنصدم عمتها وعائلتها بحالة وجهها العتر وعيونها الباهته للحظة كادوا ان ينفوا معرفتهم بها فكيف ذبلت وجفت وانعدمت الروح بها كيف وصلت لهذا الجسد النحيف.
نزل حسين أرضا ساجدا لربه شكرا بعد أن تأكد من سلامة ابنته.
تحدثت سلمى وكأنها توجه رسالة لوالدها وعشيرتها
"شكرا لك نعم اليوم احيانا الله وكتب بأجلنا عمر جديد لنكمل السير بأقدارنا التي كنا نعتقد انها ذنب نكفر عنه في حياتنا، ولكن بعد ان يلمس العبد لطف الله عليه يعود ويستغفر ربه بل ويحمده على قدره الجميل الذي كان يتوقع أنه *أسوأ *شيء حدث له"
هزت المذيعة صفاء برأسها محاولة فهم ما تقوله سلمى مجيبه
"نعم من الجميل أن يكتب الله لكم السلامة كي تكملوا حياتكم من حيث بدأتم"
تحدث الإعلامي عماد "بالمناسبة نريد ان نطمئن على وضع زوجك "
_"الوضع مستقر قمنا اليوم باجراء عملية دقيقة بالعمود الفقري تمت بسلام، ننتظر يومين اخرين لنتدخل مرة اخرى لنجري عملية أدق مما سبقها لا يوجد خطر على حياته بفضل الله ولكن مع الاسف الإصابة بمكان حساس وخطير واي خطأ او تباطئ بالعلاج سيكون عواقبه غير محمودة، بالطبع انا لا اتحدث عن وضع زوجي كحالة وحيدة فمع الاسف اغلب الحالات التي قمنا بالتدخل السريع لها كانت بنفس الوضع الحساس بل وهناك أخطر بكثير"
تحدثت المذيعة
"نسال الله السلامه لزوجك وجميع الجرحى"
شكرتها سلمى وهي تستمع لسؤال الاعلامي عماد عن وضع الجرحى والحالات الخطرة لتسترسل سلمى بشرح وافي وكافي عن الوضع المأساوي وكيفية تعاملهم معه.
أنهت المذيعة حديثها معها وهي تدعو للجرحى والبلد بالسلامه مما هي به.
فرحت عائلة الأكرم بنجاة ابنتهم كان يتوجب على حسين الذهاب للمشفى لرؤية ابنته بعد هذا الحدث الجلل ولكن المفاجئ *والصادم *لمحاسن أنه *رفض *الذهاب ومنعهم هم أيضا من ذلك *خوفا *من تمسكها بهم وعودة *بكائها *وتوسلها ليأخذوها معهم.
أيد رأيه باقي الاخوة وهذا ما جعل جميلة تبكي على الفتاة
"كيف تحرمونا من ضمها والاطمئنان عليها، لنتخذ من الحدث حجة للتحدث معها ومعرفة أحوالها"
ردت زوجة حسين
"انها بخير تحمد الله على قدرها الذي جمعها بزوجها، انا ايضا اخشى ان تعود لبكائها وتتمسك بكم دون ترككم، انتظروا لنرى ما سيحدث لزوجها لربما يسترجع الله أمانته وتعود هي لتتربع باحضانكم"
تغيرت ملامح وجهي جميلة ومحاسن لما يسمعونه فهم لا زالوا يتذكرون ما فعل بابنة أخيهم من *ظلم *ومكائد*مما جعلهم يحملون بقلوبهم الكره لها، تحدثت محاسن بعيون دامعة
"سأذهب لأراها من بعيد لن اقترب منها "
تحدث اخاهم الاكبر
"ألم تروها على شاشات التلفاز يكفي بهذا القدر كما أنها تعمل على مداواة الجرحى حتى أنها لا تخرج من غرفة العمليات من كثرة عملها"
لم تستطع العمات الحصول على الموافقة بذهابهم للمشفى كما لم يستطيعوا الذهاب من وراء رجالهم لخطورة الوضع بالخارج.
صمتوا وارتضوا بالأمر الواقع من جديد لتتعذب سلمى بألم الترك والجفاء والوحدة، تعلقت عيونها على مداخل المشفى والنوافذ، تتلفت حولها لربما يناديها أحدهم ليخبرها بأن هناك من يريد رؤيتها ولكن دون جدوى فلقد تم تركها وخذلانها والتخلي عنها للمرة الثانية.
وفي نهاية اليوم العصيب ذهبت سلمى الى الغرفة المحتجز بها رشيدة وفاطمة لتطمئن عليهما، من يرى خطواتها يعتقد أنها ترتدي بقدميها اثقال اسمنتية تعيق وتبطئ من سيرها .
دخلت عليهم بوجهها العتر مقتربة من الام فاطمة لتطمئن على قياسات الأجهزة الطبية جلست بجانبها عاجزة عن الحركة والذهاب بجانب رشيدة لتطمئن عن حالها.
رفعت يدها لتضعها على رأسها متألمه بالصداع الذي تحول لمس كهربائى يصعقها كلما حركت عينيها وليس رأسها وحسب.
قربت المقعد من فراش فاطمة مستنده براسها وذراعيها عليه كي تستجيب لحاجة الجسم للراحة والنوم.
ولكن هل سينام القلب ويرتاح ام سيظل يتألم *بنزيفجرحه *الدامي.
أتى الطبيب طارق للغرفة دخل ينظر للداخل باحثًا عنها ليجدها مستندة بذراعيها ورأسها على الفراش، اقترب لينظر لوجهها المعاكس له ليجدها تبكي بدموع صامته تتساقط من عيونها المغمضة.
تحدث بصوت منخفض *خوفا *من إيقاظ البقية "سلمى. سلمى"
لم تجيبه كرر منادته قائلا
"هيا لناكل سويا اشتريت لكِ شطائر الجبن المحببة لكِ"
ظلت على حالتها الثابتة دون ان تجيبه ، حزن قلبه عليها مقترب منها اكثر
"اعلم انك مستيقظة عيونك تفضحك، هيا امسحي دموعك وتعالي معي او تناولي طعامك هنا لا فرق لدي، عليكِ ان تتناولي طعامك كي تتمكني من الوقوف على قدميكِ"
دخلت ممرضة الغرفة متفاجئة بوجود دكتور طارق تحدث بسرعة
"اتيت للاطمئنان على المرضى"
حدثها بصوت منخفض
"ارى انهم بخير. اذهبي واهتمي بغرفة ستمائة أربعة وعشرون لا تغفلي عن متابعتهم طوال الليل"
خرجت الممرضة ليعود طارق للنظر لها بقلب *يحترق *على *ظلمها *و وحدتها فقد تأكد من بكائها الغير إرادي بعد ان استسلمت لنومها تاركة قلبها *ينزف *دموع *القهر *والوحدة *والخذلان *دون منعه.
وضع الفطائر بجانبها وخرج من الغرفة جالسًا بتحطيمه الداخلي على المقاعد المجاورة للباب وعينيه محتقنة بحزنه يهمهم *بنار *قلبه
"ذبحوها *من جديد، اي بشر هؤلاء، كيف لم أرى وجوههم الحقيقية من قبل"
لم يتحمل سماع كلمات الخالة فوزية وهي تدوي بأذنيه من جديد، نزلت دموعه وهو يشعر بيد فوزية تلامس كف يده وهي تؤمنه على ابنتها الوحيدة باكيه عليها بقولها
"كيف سأتركها وحدها! كيف وانا اعلم حجم الصعوبات التي تحيط بها! ماذا أن اُجبرت على ترك دراستها والارتضاء بأي شهادة صغيرة! ماذا أن تم تزويجها قبل إنهائها لدراستها! ابنتي لا زالت صغيرة ليس لديها من الخبرة ما يكفيها لإدارة منزل وتحمل مسؤولية، انا اكثر من يعلم بهم أن اجتمعوا على شيء لن يعودوا عنه "
اصبح يمسح عينيه كي لا يُفضح امام المارة من المرضى والأهالي والعاملين في المجال الطبي.
استيقظت سلمى قبل شروق الشمس مستقيمة بجلستها وهي تتألم من نومها الغير مريح.
نظرت نحو فاطمة منتبهة لوجود فطيرة الجبن بجانبها، علمت على الفور بمجيء طارق للغرفة شردت لثواني مستمعة لصوت والدتها
"حضرت لك الفطائر الساخنة بالجبن انظري لجمالها"
أغلقت عينيها لتفر دموعها *الحارقة *متساقطة *على وجهها *لتحرق *فؤادها المكلوم.
تحدثت رشيدة وهي شاهدة على *حزنها *الكبير
"انه ذنبك، ما حدث بي كان عقاب الله لي، منعت خليل من الذهاب لغرفتك كي لا يحدث ما خشيته طوال الثمانية أشهر ، وضعت له من منوم امه كي لا يذهب لغرفتك، عاقبني الله على ما فعلته بك، *حرمني *الله من طفلي"
تفاجأت سلمى مما تقول
"ماذا!! هل اعطيتيه من دواء امه!! ألم تفكري بما سيحدث به بعد أخذه للدواء"
*وبخوف *وذعر *تحركت سلمى لخارج الغرفة بسرعة كبيرة ...
لتنهار رشيدة من بعدها *خوفًا *على زوجها.
......