مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
أحيانًا تفرض علينا الحياة صُدَفًا لم نختَرها، وكأنها ممرات خفية للهروب من ماضٍ أثقلته الذكريات، نهرب إليها ليس لأننا نريد الهروب، بل لأن الواقع لم يعد يحتمل أحلامنا، نلجأ لتلك الصدف كي نختبئ فيه من أحوال لم تناسب أرواحنا. لنجد أنفسنا داخل ظلام ليل محاق، لا نجم يضيء الطريق فيه ولا قمر يرشد الضالين.
تتلاطم الأمواج بشراسة على جانبي السفينة التي حملت باحشائها أناسًا لا يعرف كلًا منهم حكاية الاخر ، فقط أجساد مكدسة بجانب بعضها ، ووجوه مغمورة في ظلال القلق.
سارت قمر بين حشود العائدين من ليبيا إلى مصر باحثة عن مقعد لها لم يسعفها مُحاق القمر بالثلث الاخير من الليل في الوصول لمرادها.
جميع ما حولها يأتي بكحيل لون قلبها المكلوم الذي يخفي خلفه خيبات الأمل وأسرار الماضي.
تعلو انفاسها التي تتردد في صدرها كصدى مكسور ، لا زالت تسير بين هؤلاء الناس وكأنها شبح بعيون باهته غير قادرة على التركيز، وفكرها تائه في ذكريات جريمة قتل مروعة أجبرتها على الهروب بجلدها.
غمرت الرياح وجهها فأغمضت عينيها متمنيه لو ان هذه الرياح لها قدرة سحرية في تبديل ملامحها وتناسق لون بشرتها الغريب للناظرين.
ابتسمت لهفوة حين أنعشت الرياح خارجها دون ان تدوم ابتسامتها حين رفض القلب ان يشاركها مبدلًا صفوة الانتعاش بشعور المرار.
صرخ أحد الركاب في هذه اللحظة مُعَبِرًا عن خوفه من العاصفة التي تلوح في الأفق، فزعت الوجوه وكأنهم يشاهدون مشهد من الرعب والترقب. نظرت قمر إلى الماء الأسود تحتها والسماء قاحلة الظلام فوقها بقلق خوف.
شعرت للحظة بالتشابه الكبير بين حياتها الممزقة وتلك السفينة التي تبحر بلا وجهة واضحة، مهددة بالانهيار في أي لحظة، غير مؤمن وصولها إلى البر الآمان من بقائها عالقة في أعماق البحر بهذا الليل الحالك.
لا تتمنى الا أن تنصل إلى مصر لتبدأ حياتها ببداية جديدة تواجه بها أثقال ذكرياتها والآلام التي لا تُنسى.
دارت العاصفة فوقهم كالوحش الجائع، تصارعت الأمواج بشراسة مع جسم السفينة التي بدأت تتراقص في البحر العاتي.ازداد الوضع سوءًا بتساقط الأمطار بغزارة ممزوجة برعود وصواعق جعلت الأفق يختلط بالألوان المرعبة.
بدت السفينة كأداة صغيرة في بحر متوحش، والركاب يصرخون. ويتخبطون من ذعرهم وخوفهم ، علا صراخ السيدات وهن ممسكات بحقائبهن، بينما جاهد بضعة رجال لتهدئة الناس ومنعهم من الحركة المفرطة لحمايتهم وحماية القارب من السقوط في أعماق البحر.
رغم قلق قمر و الفوضى التي تحيط بها إلا أنها لم تبالي بقيت صامتة محصور تفكيرها في ما ينتظرها بعد أن تهدأ العاصفة وتصل لقبلتها ، أسئلة كثيرة تتردد فى ذهنها. بجانب ماضي من الحكايات المرعبة والصور المفزعة.
_"أين ستذهب وماذا ستفعل!"
هدأت العاصفة تدريجيًا حتى أصبح البحر أقل همجية، تحولت الأمواج الكبيرة إلى تموجات هادئة ، توقفت الأمطار وتحسن الهواء البارد النقي ، ومع أول خيوط الفجر ظهرت بقع من الضوء الخافت عبر الغيوم معلنة عن بداية يوم جديد .
قبيل سطوع اول شعاع للشمس حيث كان الشاطئ أشبه بظل هادئ لا هو بالمضئ ولا بالمعتم وصلت السفينة أخيرا للساحل الشمالى.
قفز الركاب على اليابسة بمجرد أن رست السفينة متجهين نحو السيارات التي كانت هناك تنتظر قدومهم لتأخذهم إلى أماكن عملهم..
أصر احد الرجال النبلاء ألا يتركها وحدها، وأراد مساعدتها في الوصول لوجهتها ولكنها بادلته الشكر رافضة الذهاب معه مردفة:
"سأذهب لوجهتي وحدى، شكرا لك"
قاطعها الرجل :
"ولكن الوقت غير مناسب للتحرك وحدك، وايضا هذه المنطقة سياحية لا تعلمين من ستقابلين"
التفتت خلفها لتسير غير مبالية لحديثه مرددة لنفسها في خفوت:
"سأقابل مصيرى وحدى كما كنت دوما."
بدأت السيارات تبتعد تناظرهم من مكانها تارة وترقب البحر تارة اخرى، عين على السيارات واخرى على السفينة التى ابتعدت بدورها هي الأخرى عائدة من حيث أتت.
وفي تلك اللحظة، شعرت بعزلة جديدة، هذه المرة ليست فقط من البحر، بل من كل أمل أو خطط كانت تربطها بالواقع، ببطء… بدأت تسير نحو المجهول، تاركة خلفها كل ما كانت تعرفه، متوجهة إلى أي وجهة ستقودها إليها خطى قدرها الغامضة، قلبها يملؤه الخوف من المجهول لكن في ذات الوقت يشتعل في أعماقها شعور متجدد بالأمل.
بقيت تسير وحيدة على الشاطئ صامتة. تسربت الدقائق ببطء و كأنها ساعات طويلة .
تاهت قمر في عالمها المعدوم من الإنسانية والشفقة والرحمة، لم يراودها خوفها من المجهول بل كان فراغ عاطفي يتغلغل في أعماقها ليزيد من ألمها الداخلي ، سارت بخطوات ثقيلة مترددة كظل يتنقل بلا هدف .
وفي خضم هذا العدم توقفت أمامها سيارة مرسيدس كلاسيكية نزل منها شاب يبدو في أواخر العشرينات من عمره، ملامحه هادئة بشعر غير مرتب وهيئة ثيابه عشوائية بعض الشئ كما يلائم موضة هذا العام.
لاحظت قمر نظراته الفضولية نحوها، لم تكن لديها الطاقة لتهتم بأمره. أكملت طريقها بصمتها ولكنه أسرع ليقترب منها بحذر ليسألها بصوت مرتفع:
"هل تحتاجين إلى مساعدة؟"
وصلها صدى صوته كأنه يأتيها من وادٍ عميق، تجاهلت عرضه فهي ليست في حال يسمح لها بالرد أو حتى التفكير ، ابتعدت عنه بخطواتها البطيئة الفارغة من الطاقة، لكنه ناداها مرة أخرى:
" الطريق فارغ من خدمة التوصيل ، كما أنه غير آمن لسيرك فيه وحدك "
حدثتها سيدة مسنة كانت جالسة في السيارة:
"تعالي يا بنتي لنوصلك إلى وجهتك يبدو أنكِ غريبة عن المكان "
التفتت ناظرة نحوها، كانت عجوز تبدو في اواخر عقدها الخامس. ذات وجه بشوش وعينين حادتين تَفَرَّسَت في تفاصيل وجه هذه الغريبة لعلها تفهم علتها ، آثار انتباهها وجود بقع البهاق على جلدها.
بهذا الوقت أردفت قمر وهي تنظر للمرأة:
"لا تشغلوا أنفسكم بي ، سأكمل طريقي وحدي"
أبصر الشاب وجه الفتاة بريبة من أن تكون البقع مرضًا معديًا، عاد بجانب باب سيارته حيث تجلس جدته منحنيا عليها طالبا منها أن يتركوا الفتاة ويكملوا في طريقهم خوفا من اصابتهم مكروها.
نزلت الجدة من السيارة بعد أن أثار حديثه غضبها مردفة له :
"إن أردت الذهاب فاذهب وحدك ، ولكنني لن ارحل من هنا واترك الفتاة وحدها بهذا المكان"
ثم توجهت نحو قمر مقتربة منها بحنان، وقالت:
"لا تزعجي نفسك، نعتذر عن تصرفه"
لمس صوتها الحنون قلب قمر التي ردت على الجدة بصوت حزين
"مجيئي لهنا لم يكن مخططًا بل حدث فجأة ، لا أعرف ما علي فعله ، وأين سأذهب"
نظرت الجدة لحفيدها ثم نظرت لقمر مردفة
" نمتلك فندقًا يبعد أمتارًا عن هنا ، سنسعد ان سمحتي لنا بمساعدتك، سنأخذك إلى هناك حيث يمكنك الاستراحة لتفكرى وتقرري اين ستذهبين."
استوقف الشاب جدته بنبرة خائفة محاولاً تحذيرها وابعادها عن الفتاة مردفًا:
"فلتحذرى يا جدتي فنحن لا نعلم ما علتها لربما يكون مرضًا معديًا ، صحتك لا تتحمل شيء كهذا"
هنا ردت قمر عليه بضيق :
"هذا ليس مرضًا معدي لا تخف، انه…"
لم يعطيها فرصة لاستكمال حديثها قاطعها باستخفاف:
"ان لم يكن كذلك فلما وجهك مبقع لهذا الحد ، ام أنه آثار حروق قديمة ؟"
صرخت في وجهه بغضب:
"ليست حروقًا ولا تشوهات أو عيوب خلقية، اذهب بجهلك بعيدًا عني، لا أريد مساعدة من أحد، اتركوني وشأني"
غيرت وجهتها لتكمل سيرها خطوات معدودة قبل أن تناديها الجدة:
"إلى أين ستذهبين بظلماتك يا قمر "
ألجمتها الصدمة وقُيدت قدميها عن استكمال خطواتها التالية ليست من رعبها فقط بل مما تعيشه من صراعًا داخليًا يعصف بها.
توقفت حركتها تمامًا كأنها أصبحت سجينة مخاوف غير مرئية، حين امتلكتها لحظات من الشلل النفسي قبل الجسدي، حيث عجز عقلها عن معالجة وفهم ما سمعت .
طالعتهم بريبة وكأنها شعرت بالخيانة ، تغيرت نظراتها لخوف و ارتياب عميق وكأنها في حالة تأهب قصوى، مندفعة بصوتها وهي تسألهم:
"هل جئتم لتعيدوني إلى أبى؟"
أجابت نفسها بصوت خافت قبل ان يجيبوها
"ولكنه لا يريدنى!" هزت رأسها نافية ما تقول مردفة بسؤال آخر وجهته لهم :
"هل حرضكم أبي على التخلص مني ؟ أجل فعلها فأمنيته الوحيدة أن يختفي أثري من الوجود"
تحول خوفها إلى رعب قوي تخلل كل حركة تقوم بها، ليتضح حجم الفزع الذي يعتريها، فهي لا ترى في والدها شخصية تحبها أو تحميها، بل تعتبره مصدرًا للخطر، عاشت قمر لحظات صعبة كالتي تقف على حافة الانهيار النفسي، متأرجحة بين الخوف والرعب والشعور العميق بعدم القيمة، وكأن وجودها ذاته أصبح موضع تهديد دائم.
وقف الشاب وجدته أمامها عاجزين عن استيعاب عمق الألم الذي يتملكها، يحدقَ فيها بعينين متسعتين، مندهشًا أمام تلك الانفعالات التي تفجرت بشكل غير متوقع.
بدا وكأنه يحاول فهم ما يجري أمامه، كلماتها الغريبة المتقطعة كانت تتخطى حدود إدراكه، راقبت الجدة الموقف بصمت. ازدادت ملامحها تيبسًا مع كل كلمة نطقت بها قمر؛ وكأن صدمة حديثها قد جمدت قدرتها على الرد أو الحركة. تطايرت التساؤلات في ذهنهما
"لماذا تقول هذا؟" ، " لماذا تعتقد أن والدها يرغب في التخلص منها؟"
كانت الحيرة تملأ وجهيهما، متعذرين عن التصديق بأن هذا الفزع العارم يمكن أن ينبع من موقف بسيط كهذا ، شعرت الجدة بأن الأمور أكبر مما تبدو عليها ، بينما الشاب ما زال يحاول الربط بين كلماتها وإيجاد معنى لها.
اقتربت الجدة من قمر لتربت على كتفها مردفة بنبرة حنونة:
"لا تخافي يا ابنتى، فنحن لا نعلم من هو والدك ولا نريد سوى مساعدتك فقط.."
وفجأة.. ودون سابق إنذار، انطلق جسد قمر كالريح، راكضة بكل ما أوتيت من قوة هربًا من مشاعرها، و خوفها، ولربما من الحقيقة التي تعتقد أنها تهدد وجودها.
وفي لحظة تحولت صدمت الشاب وجدته إلى حالة من الذهول الحاد، فلقد كانت سرعتها بالركض غير متوقعة، وكأنها تسعى للهرب من شيء لا يستطيعان رؤيته، ومع سقوطها المفاجئ في منتصف الطريق شهدا المشهد الأشد إيلامًا، انهار جسدها المرهق فجأة على الأرض لتسقط قمر مغشيًا عليها.
صدمة كبرى تملكت الشاب وجدته.
توقفت الدنيا حولهما وكأن الصمت قد غمر المكان بأكمله.
أسرعت الجدة بخطواتها البطيئة رغمًا عنها بسبب كبر سنها نحو الفتاة حين استوعبت سقوطها ، اقتربت منها بعد أن أنهكها ركضها المتباطئ جالسة على ركبتيها بجوار جسد قمر الملقى على الأرض تتفحص نبضها وتنفسها، بيدها المرتجفة التي تلامس عنق الفتاة برفق، محاولةً تحسس نبضها.
لحظات من القلق مرت وكأنها ساعات، شعرت الجدة بثقل الزمن وهي تنتظر استجابة من جسد الفتاة الهزيل، وعندما تأكدت أن النبض ما زال ينبض بضعف، تنفست الصعداء وارتاح قلبها ، لكنه ليس وقتا للراحة . وضعت الجدة أذنها بالقرب من فم الفتاة ، وعينيها تراقب حركة صدرها لتتأكد من تنفسها، كانت الأنفاس ضحلة ومتقطعة مما زاد من قلقها فرفعت رأسها ببطء ناظرة حولها بحثًا عن أي مساعدة محتملة، لكن لم يكن أحد في الجوار.
"علينا الإسراع، يا يونس"
صاحت الجدة منادية حفيدها بهذه الكلمات وهي تحاول رفع الفتاة مرة أخرى.
ولكنه لم يستجيب لطلب جدته و لم يحرك ساكنًا، جسدها العجوز يشعر بثقل المسؤولية أكثر من أي وقت مضى ، ألتفت مرة أخرى بحزم إلى حفيدها تطلب منه حملها..
شحب وجهه وارتبك، تراجع مترددًا بخوفه مشيرًا بيديه نحو الفتاة وهو يقول بارتباك:
"لا أستطيع، ربما تكن مصابة بمرض جلدي. لن أقترب منها"
عندها. اشتعل الغضب في عيني الجدة، دفعت نحوه بنظرة صارمة، ناهرة إياه بقوة غير متوقعة في صوتها:
"أي مرض جلدي هذا الذي تتحدث عنه؟ إنها في حالة حرجة! أهذا وقت الهروب؟ هل ستتركها هكذا؟ تحرك الآن! ساعدني يا يونس، وإلا سأقوم بالأمر وحدي، ولن أرحمك بعد ذلك!"
تحت وطأة غضبها ونظرتها الحادة، اضطر على مضض بالاقتراب ومساعدة جدته في حمل قمر، مسرعًا بها نحو السيارة متجنبًا ملامستها قدر المستطاع، تحركت الجدة خلفهم جالسة بجانب الفتاة ممسك بها بحذر و حزم ، تتمنى الوصول إلى الفندق بأسرع ما يمكن.
وصلا للفندق صعدوا إلى غرفة الجدة ليضعها يونس على السرير بعناية.
بدا الانزعاج والقلق على ملامحه بعد كل ما جرى، لينظر إلى جدته مردفًا:
"من كل عقلك يا جدتي تجلبين فتاة لا تعلمين أصلها ولا من أين أتت والواضح أنها هاربة من شئ جلل لربما جريمة أو… "
فكر قليلا ليكمل:
"بما انها خائفة من والدها قد تكون ارتكبت إثمًا بحق شرفها."
وبنظرة صارمة وحازمة، أشارت الجدة بيدها نحوه قائلة بلهجة آمرة لا تقبل الجدال فيها :
" لا نقاش معك الان ، بما أنك تعديت حدودك وقذفت المحصنات بغير علم، عد إلى غرفتك "
_"حسنًا سأذهب ولكن ألن تستدعي طبيبًا لها"
تنهدت الجدة بضيق:
"قلت عد إلى غرفتك يا يونس"
وبضيقه وتحفظه وإدراكه أن النقاش لن يجدي نفعًا مع جدته كالمعتاد، تراجع يونس ببطء وعيناه لا تزالان تحملان تساؤلاته وخوفه.
غادر الغرفة تاركًا الجدة وحدها مع الفتاة، متجها بسرعة نحو عيادة الفندق طالبًا من الطبيب فحصه ليتأكد انه لم يصاب بأى عدوى.
جلست الجدة بجوار الفتاة تتأمل قسماتها المرتبكة رغم رقتها والرعب المتملك أوصالها المتجمدة مرددة:
" اطوِ جناحك على جراحك وبميثالك عزز اختلافك أيها القمر و بضوء الشمس توج ملامحك وقبل أن تضئ ليلهم طمئن جوف فؤادك وأشعل قناديل الأمل في جوانبه،
أيا قمر، تناسي جراح ماضيك وانتظر الصباح لتسلب حق الضياء من بؤبؤ الشمس واجعلها لك ونيسًا وليس تضادًا "
شعرت الفتاة بالدفء بدأت تتململ مكانها باكية بخفوت دون ان تستفق، تحركت الجدة نحو خزانتها لتحضر صندوقًا صغيرًا خبئته بين اغراضها مخرجة منه بعض الأعشاب مسرعة لتحضير ذاك المشروب الخاص ، ناظرتها بابتسامة دامعة أثناء تحضيره مردفة :
"يبدو أن الرحيل بات قريبًا، هل ستتمكنين من تحمل هذه المسؤولية يا قمر؟ متى ستصلين ؟ وكيف ستتصرفين ؟ وهل ستكملي مهمتك ام ستختارى الاستسلام وتكتفي بإنجازات بسيطة؟ هل ستخلفي ميثال ام ستكون لمهمتك طابع مختلف؟ لا أستطيع أن أجزم بشئ ولكن بما انك ظهرتِ فالواضح أن رحيلي قد بات قريبًا."
***
بعد مرور ساعتين كانت ميثال تجلس بمكان غريب لا يشبه الأماكن الاعتيادية وكأنها في مدينة غريبة عالم آخر مختلف عن عالمنا، تجلس بجوار فتاة بملامح هادئة صافية ، هيئتها غريبة وما ترتديه أغرب ولكن الأعجب والأغرب هو ارتداء ميثال ثيابًا تشبه ثياب هذه الفتاة .
ابتسمت الفتاة مردفة:
"أى أنكِ وجدتي شريكتك يا ميثال؟"
أومأت ميثال بالإيجاب مجيبة:
"وجدتها يا إشراق ، ولكن أما زلت مصرة أنها شريكتى وليست خليفتى ؟"
حركت إشراق رأسها بالنفي واسرعت لتخرج البردية من الحزام المحيط بخصرها وأخذت تعيد قرائتها بصوت عال:
"اطوِ جناحك على جراحك وبميثالك عزز اختلافك أيها القمر وبضوء الشمس توج ملامحك وقبل أن تضئ ليلهم طمئن جوف فؤادك وأشعل قناديل الأمل في جوانبه.
أيا قمر، تناسي جراح ماضيك وانتظر الصباح لتسلب حق الضياء من بؤبؤ الشمس واجعلها لك ونيسًا وليس تضادًا.
أيا قمر أنار لميثال…"
قاطعتها الجدة ميثال مردفة :
"وما أدراكِ أن الجزء المفقود يخصني؟"
_"قطعًا يخصك فأنتِ مكتشفة هذا العالم البعيد وهي شريكتك التي ستأتي لتكمل الناقص في البردية"
هذا ما نطقت به الفتاة قبل أن تنهض ميثال من جوارها متحركة بعيدا، صاحت لتستوقفها متسائلة :
"متى سأراكِ مجددًا؟"
استدارت الجدة كي تطالعها وقد هزت الدموع بؤبؤ عينيها وارتجفت رموشها وكأنها تودعها:
"المرة القادمة مع قمر يا إشراق"
"سأنتظركم"
كلمة صاحت بها إشراق قبل أن تكمل ميثال ذهابها مودعة المكان بنظرات تحمل ثقل اللحظات الفارقة التى تسجل نهاية شيء عزيز وبدء آخر مجهول.
**
عادت الجدة ميثال إلى الفندق وهي تجر أقدامها بصعوبة، تشعر بثقل انفاسها وجسدها المنهك وضجيج رأسها الذي كاد ان يعصف بكيانها، صعدت ناحية غرفتها وحين اقتربت وجدت يونس. و والدته دلال. وشقيقته ليان . ومعهم ابنة خالته علا . ينتظرونها.
مضت بطريقها ناحية غرفتها محاولة تفادى أى حديث أو شجار معهم في هذا الوقت.
استوقفتها دلال قائلة بنبرة قاسية:
"ما معنى أن تحضري فتاة لا تعرفين أصلها وتستضيفيها هنا، ولم يكفي ما فعلتيه لتذهبي وتتركيها بغرفتك وحدها، ألا تخشين أن تسرق شيئا وتهرب، ألا تخشين من المصيبة التى تخفيها ورائها، وسمعت أيضا أنها مصابة بمرض جلدي. ما هذا التصرفات الغير مدروسة يا أمي "
ناظرتها ميثال بضيق مردفة:
"نحمد الله أنكِ لم تنسي أنني والدتك، ولكن لا تنسي أيضا ان هذا الفندق ملكي ولي الحرية الكاملة لأستضيف من ارغب واطرد من لا أرغب به "
استوقفها يونس قبل أن تتركهم وتدخل غرفتها قائلا:
" فلنجلس بغرفتي ونتحدث بهدوء ،فهذه ليست طريقة نقاش يا جدتي"
_"أريد أن أرتاح فلم أذق طعم النوم طوال الليل"
كان هذا ردها قبل أن تتعلق ليان بذراعها قائلة:
"نعلم انك مللتي منا ولكن على الأقل اسمعي ما نريد قوله واعتبري أن هذا اخر شئ نطلبه منك"
صمتت ميثال لبرهة، ثم أشارت بعينيها نحو غرفة يونس قبل أن تتحرك باتجاهها بخطى بطيئة يتبعها الباقون.
جلست ميثال على مقعد بالقرب من النافذة، تنظر إلى الجميع بصمت تراقب توترهم الواضح على وجههم ، فرك يونس كفيه ببعضهما وهو ينظر إلى الأرض ، بجانبه تجلست ليان التي تجنبت التواصل البصري مع جدتها ، أما دلال فكانت تحاول أن تبدو متماسكة ولكن يفضحها ارتجاف شفتيها كلما نوت التحدث، انتظرت علا التي كانت صامتة طيلة الوقت أن ينطق يونس ليفتح الحديث دون ان يفعلها، نظرت نحو الجدة ميثال مباشرة حين سئمت من توتر البقية قائلة بنبرة حازمة:
"في الحقيقة، يا جدتي، نحن هنا لنطلب منك شيئًا مهمًا. نريد منكِ أن تبيعي القصر"
بدت الصدمة والغضب العارم على وجه ميثال ، ولكنها أخفت مشاعرها خلف قناع من الهدوء، ناظرة إلى وجوههم وهي ترى الاضطراب في أعينهم، تروت سائلة بصوت هادئ يخفي وراءه عاصفة قوية :
"وهل تظن يا يونس أنني سأبيع القصر الذي عاش فيه أجدادكم واحتضن ذكريات وحياة جذور العائلة منذ سنوات طوال بهذه السهولة ؟"
شعر الجميع بالحرج من المواجهة المباشرة ، استكملت علا حديثها بشجاعة غير متوقعة :
"القصر يكلفنا الكثير من المال، ونحن نواجه مشاكل مالية. ليس لدينا خيار آخر. نحن بحاجة إلى بيعه"
مرت لحظات طويلة من الصمت تنهدت ميثال بعمق قبل أن ترد بنبرة لم تخلو من الحزن:
"المال! دائمًا المال هو المشكلة، ولكنكم ستتعلمون يومًا أن بعض الأشياء لا يمكن أن يُعوَّضها مال ، هذا القصر بالنسبة لي أثر نفيس لن أفرط فيه، أعلم ثمنه جيدًا وأعلم انكم احضرتم من يسعره واخبركم ان ثمنه يُقدر بملايين الدولارات، لذلك فوالدتك يا علا حجزت تذكرتها وستعود إلى مصر هذا الأسبوع، والدتك التى لم تكلف نفسها بالسؤال عني إلا مرتين منذ أن هاجرت الى أوروبا تريد أن تأتي الآن لتجبرني على الموافقة وقبول البيع"
نظرت الجدة إلى يونس نظرات عتاب قاسية، وعيناها تفيض بالخذلان، قبل أن تهتف بضيق واضح:
"أخبرتك أن كل ما أملكه سيكون تحت سيطرتك إذا رأيت فيك رجلًا يمكن الاعتماد عليه، ولكنك اخترت الطريق الأسهل مثلهم. لم يهبني ربي من الذكور من يرثني ويتولى أمر بناتي بعدي، اعتبرتك ابني وهبة من الله لي ، قلت لنفسي: سآامن يونس على أملاكي وبناتي وكل شيء من بعدي ، ولكنك أثبت أنك غير جدير بأي شيء، تعلمت الأنانية من أمك، والجحود من خالتك.
أخذتك تحت جناحي لتكن لي سندًا، الأحنّ عليّ منهم جميعًا لكن للأسف لم ينفع معك شيء، أصبحت مثلهم يسيرونك بطمعهم ، قبلت ونفذت ما يريدون ما دامت الفائدة ستطالك "
كانت كلماتها كالسهام التي تخترق قلب يونس، شعر بخيبة أملها العميقة وثقل عتابها على كاهله، لم يجرؤ على النطق ببنت كلمة، فماذا سيبرر؟ وكل ما قالته صحيح، لقد انقاد خلف طمعهم وغفل عن مشاعر جدته وتعلقها بالقصر، جدته التي أحاطته بالحب والثقة دون مقابل، ثبت في مكانه متجمدًا عاجزًا عن رفع عينيه لمقابلة نظرات ميثال المحطمة، كان يدرك أن أفعاله خانت الثقة التي بنتها فيه على مر السنين.
ساد الصمت المكان ، صوت أنفاس الجميع أصبح ثقيلاً، حيث كانوا ينتظرون ردة فعل يونس الذي ظل صامتًا غير قادر على مواجهة خيبته.
نظرت جدته إليه نظرة أخيرة مليئة بالحزن، ثم وقفت ببطء، وكأن كل كلمة قالتها استنزفت ما تبقى من قوتها، متحدثه بصوت هادئ جاف:
"كنت أظن أنني أرى فيك رجلاً... ولكنني كنت مخطئة"
استدارت متجهه نحو الباب لتخرج ببطء تاركة خلفها يونس والعائلة في صمت مشحون بندم يونس وغضب البقية.
عادت ميثال إلى غرفتها بخطوات متثاقلة، ما زال الغضب يعتل صدرها بسبب ما دار بينها وبين أحفادها، انفرجت أساريرها قليلًا بمجرد أن فتحت الباب ورأت قمر مستلقية على السرير تغط في نوم عميق، وكأن رؤيتها لها كانت ملاذًا من كل هذا التوتر، اقتربت منها محاولة أن توقظها بلطف حتى لا تفزعها.
تحركت قمر في نومها قبل أن تلمسها، كانت تتنفس بصعوبة، وجهها متقلص وكأنها تعيش كابوسًا مرعبًا، انتفضت قمر من نومها تلهث .عيناها مفتوحتان على اتساعهما، والعرق يتصبب من جبينها.
نظرت حولها وكأنها تحاول أن تستوعب مكانها، وقلبها ما زال ينبض بسرعة، تبحث بعينيها عن شيء مألوف، قبل أن يستقر نظرتها على الجدة ميثال، التي كانت تراقبها بهدوء.
جلست بجانبها على حافة السرير، لمست كتفها برفق وقالت:
"اهدئي يا ابنتي، كان مجرد حلم"
لا تزال قمر فزعة، بدأت الدموع تتجمع في عينيها، همست بصوت مكسور:
"رأيته . رأيت والدي، آخر مرة رأيته فيها. حين طردني من البيت، أقسم حينها ألا أعود أبدًا"
تنهدت ميثال بعمق وجذبتها إلى حضنها، شاعرة بثقل حزنها وكأنها تتلمس ندوب روحها، قالت بصوت منخفض مليء بالحنان:
"الأحلام لا تعيد الماضي يا قمر، ولا تحدد المستقبل، أنتِ هنا من بعد الآن، ولن يُضطرك أحد للعودة إلى مكان لا تشعرين فيه بالأمان"
بدأت تهدأ تدريجيًا، لم تستطع كبح دموعها، كل ذكرى كانت محفورة بعمق في قلبها، كجروح لم تلتئم بعد.
استمرت ميثال في مواساتها، تهمس بكلمات مطمئنة:
"أنتِ قوية يا قمر، بين يديك فرصة لتبدئي حياة جديدة. لا شيء يمكنه أن يسرق منك مستقبلك إلا إذا سمحتِ له بذلك"
استندت قمر إلى كتفها، وكأنها وجدت أخيرًا من يستمع إليها ويفهم ما تمر به، رفعت رأسها بعد دقائق من الصمت، وقالت بصوت هادئ:
" من انتِ ؟ كيف عرفتي اسمي؟ ولماذا تساعدينني؟ ولماذا أشعر أنني وجدت ملجأً هنا؟"
ابتسمت ميثال بحنان وربتت على يدها قائلة:
"الحياة تعطينا دائمًا فرصًا جديدة، وما حدث معك بالأمس لا يعني أن الغد سيحمل نفس الألم، فاعتبري انني الفرصة التي أرسلها الله لنجدتك"
وبدون تفكير أردفت قمر :
"تريدين مساعدتي ولا تعرفين مما هربت ولماذا جئت إلى هنا؟"
وبنظرة مليئة بالخبرة والحكمة، مسحت ميثال على شعر قمر وقالت بهدوء عميق:
"الماضي لا يتغير يا ابنتي، لكنكِ لستِ محكومة به، الإنسان لا يُعرف بما مر به، بل بما يفعله من بعده، ما حدث مع والدك كان مؤلمًا، ولكنه لا يجب أن يحدد مستقبلك، أنتِ من بعد الآن في مكان آمن ولستِ وحدك "
رفعت قمر رأسها لتنظر إليها بعينين دامعتين، قائلة بصوت مبحوح :
"أشعر بأنني ضعيفة، وكأنني لا أستطيع الخروج من هذا الظلام، لا أتمكن من الهروب بينما كل شيء يبدو وكأنه ينهار حولي"
تنهدت ميثال بعمق، ثم قالت:
"القوة الحقيقية ليست في الهروب من الألم، بل في مواجهته، الحياة لن تكن دومًا عادلة، ولن تكن سهلة، لكننا نتعلم و نكبر لنصبح أقوى مع كل جرح نحمله، وما مررتِ به هو جزء منك، أنتِ تستحقين فرصة جديدة، وها هي أمامك "
ابتسمت ميثال بحنان وأضافت:
"لا أحد يستطيع أن يسرق منكِ حياتك، إلا إذا سمحتِ لهم بذلك، خذي وقتكِ، و تذكري أنتِ لستِ سجينة لماضيكِ، ولستِ سجينة هنا، اريدك ان تعملي عندي وتكونين مساعدتي وتبدأين صفحة جديدة أمامكِ مستقبل بإمكانكِ تشكيله كيفما تشائين"
بدأت قمر تستعيد لقلبها شيئًا من الهدوء، همست بصوت متردد:
"ولكن كيف يمكنني المضي قدمًا؟ كيف أترك كل هذا خلفي؟"
أجابت ميثال بصوت عميق، مشوب بالخبرة:
"تبدئين بخطوة واحدة، مهما كانت صغيرة، تذكري أن كل يوم يحمل فرصة جديدة، الماضي قد يكن ثقيلًا لكنه ليس قدرًا، أنتِ من سيحدد مساركِ ولا تخافي فقلبكِ يعرف الطريق "
تشبثت قمر بكلمات ميثال وكأنها خيط أمل رفيع يربطها بواقع جديد بعيدًا عن الألم الذي حملته طويلًا.
كانت تلك الكلمات كضوء في عتمة قلبها، ليست الحل لكل آلامها و لكنها بداية لشعور جديد بالأمل، هذا الأمل أوشك أن يتلاشى حين استفاقت واستوعبت الحوار الذي دار بينهما، لوهلة ظنته جزءًا من حلمها فلطالما راودها هذا الصوت بأحلامها بل كان صوت هذه العجوز رفيق لياليلها لسنوات مرت. حين ادركت انه ليس حلمًا هذا المرة انتفضت لتقف بجوار السرير فزعة، مردفة بصوت مرتجف:
"من أنتِ؟ وماذا تريدين مني؟"
نظرت ميثال إليها بهدوء فهمت الحيرة والخوف الذين سيطرا عليها ، تقدمت نحوها ببطء متحدثه بصوت دافئ وحنون:
"اهدئي يا قمر. أنا ميثال. المرأة التي وفرت لكِ ملاذًا جديدًا . لا شيء يهددكِ من بعد الان أنتِ في أمان"
ما تزال تتنفس بسرعة، تحدق في وجه ميثال بعينين مرتجفتين، وكأنها تحاول استيعاب ما يجري هامسة بتردد:
"هل. هل هذا حقيقي؟ كنتُ أظن أنني أحلم... كنتُ أسمعكِ لكني لم أكن متأكدة" صمتت برهة لتكمل:
"صوتك مألوف ولكنك لست كذلك"
ابتسمت ميثال برفق أردفت به :
"كل ما تحدثنا عنه حقيقي، مشاعركِ و وجودك حقيقي ، أنا هنا لأطمئنكِ بأنك لن تواجهين اقدارك وحدكِ، سأخبرك بكل ما تريدين معرفته في الوقت المناسب، اريدك ان تثقي بي وتأكدي أنني لن ادع شيئا يؤذيك "
وبرغم أن عقلها كان يتأرجح بين الخوف واليقين، أراد قلبها أن يطمئن ومالت دواخلها للهدوء. رغم أنها لم تهتدى بعد لما وراء هذه المرأة واللغز الكبير في معرفتها بها كيف حدث ذلك لا تعلم ولكن قلبها المكلوم أراد ان يسكن ويطمئن للمرأة كي يرفع عن كاهله الالم الكبير.
شعرت الجدة بلين قمر وثقتها بصدق وعودها لها ، وهذا ما جعلها تقرر العودة إلى قصرها لتأخذها معها حتى لا يضايقها أحد في الفندق، كان القرار أكبر من مجرد الانتقال إلى مكان اخر ، فكانت تلك العودة عودة إلى ماضٍ ممتلئ بالذكريات التي ترسبت في جدران القصر الضخم، ولكنها عزمت على خوض التجربة في أن تسلك طريقًا جديدًا بحياتها برفقة قمر التى ستكمل مهمتها الناقصة.
*
وصلت السيارة إلى بوابة القصر الحديدية الضخمة المحاطة بأشجار السرو الطويلة المترامية على الجانبين، امتد الطريق المرسوم بالحجارة القديمة إلى الساحة الرئيسية، حيث وقف القصر العتيق شامخًا حارسًا للزمن الذي لم يتغير رغم مرور السنين.
شعرت ميثال بالحنين والسعادة بمجرد رؤيتها للقصر ذو الطراز الكلاسيكي والواجهة العالية والنوافذ المقوسة، تأملت بابتسامة خافته الطلاء الخارجي المتآكل بفعل الزمن والذي لم يخفِ عظمة البناء مضفي عليه سحرًا غامضًا وكأنه يروي حكاية كل من مرّ به.
لا صوت بالمكان سوى صوت خطى أقدام ميثال وقمر وهما تسيران نحو البوابة الرئيسية، فتح الحارس كبير السن الأبواب الكبيرة، كاشفًا عن بهو واسع مزخرف بأعمدة رخامية وثريات متدلية من السقف العالي، كانت أرضية القصر مغطاة بسجاد فارسي قديم ، كل قطعة فيه تحكي حكاية زمن مختلف، أما الجدران فكانت مغطاة بلوحات عائلية اشبهت بعيون تراقب الزائرين بنظرات صامتة شاهدة على كل لحظة ألم وفرح مر بها هذا المكان.
وقفت ميثال في منتصف البهو أخذه نفسًا طويلا بعمق ذكريات حياتها التي عادت إليها ، كل ضحكة وكل دمعة، نظرت حولها وهي تحاول استرجاع ما مضى، الحزن كان جاثمًا على صدرها، شعرت بوحدة شديدة رغم من عودتها إلى بيتها .
لم يعد المكان يعج بركض الأحفاد في الأروقة و يملأون الغرف بالضحكات. وهنا أردفت بحزن خفض من نبرة صوتها :
"هذا المكان كان يومًا ما ممتلئًا بالحياة التي أصبحت مجرد صدى ذكريات بعيدة "
شعرت قمر بتخبط عميق في داخلها، ترى عظمة القصر وجماله بعيناها التي تجولان في المكان بقلق كل زاوية وكل قطعة أثاث غريبة عليها، شعرت بالضياع وكأنها دخيلة على هذا العالم العتيق، كما شعرت بثقل مسؤولية لا تفهمها. لا تفهمها تمامًا، كيف يمكنها أن تكون مساعدة في هذا المكان؟ و كل شيء يبدو أكبر منها وأثقل مما تستطيع احتماله؟
تقدمت ميثال نحو الدرج الحلزوني الذي يقود إلى الطابق العلوي حيث الغرف التي تحمل عبق الذكريات، تسير بخطواتها البطيئة كل خطوة تعيد لها مشهدًا من حياتها الماضية.
عادت ميثال لواقعها متذكرة أمر قمر استدارت وهي في منتصف الدرج ناظرة نحو قمر بالاسفل مردفة :
"تعالي يا قمر، سيصبح بيتكِ أيضًا، ولكن عليكي ان تعلمي أنه ليس مجرد بناء فقط بل هو مغارة مليئة بالذكريات المؤرخة، تاريخًا طويلا سيكن صعبًا عليكِ فهمه في البداية ولكنك ستعتادين عليه. وسنعتاد على وجودنا بجانب بعض"
تابعت قمر ميثال بصمت ظاهري معاكس للعواصف والأفكار المتخبطة في داخلها شعرت بمزيج من الخوف والرهبة والحيرة، كان هذا القصر كبيرًا جدًا لدرجة أشبهت سجن لذكرياته الغامضة كل غرفة تخبئ شيئًا ينتظر اكتشافه.
تتبعت قمر خطوات ميثال وهي تتساءل داخلها
هل سأكون قادرة على تحمل كل ما سيأتي؟ هل يمكن لهذا المكان بما يحمله من عبق الماضي، أن يكون بداية جديدة لي ؟
سبحت ميثال بذهنها بعيدًا عن القصر متذكرة قرار عودتها إلى القصر لتبتعد عن أحفادها الذين خذلوها، لم يكن قلبها صلبًا كما أظهرت، فها هي تشتاق لهم و لاصوت ضحكاتهم ولحياتهم التي كانت تعج في هذا القصر يومًا ما، ولكنها في النهاية كانت تعرف أن الحب وحده لا يكفي حينما يقابله الجحود.
وقفت عند مدخل غرفة كانت يومًا ما غرفة لعب الأحفاد، دفعت الباب ببطء ونظرت إلى الداخل وكأنها ترى أرواحهم الصغيرة ما تزال تركض بين الجدران.
تحدثت بصوت خافت بالكاد سمعته قمر:
"رغم أنهم خانوني، إلا أنني لا أستطيع كرههم. لأنهم جزء مني مهما حاولوا الابتعاد"
شعرت قمر بالحزن العميق الذي ظهر في نبرة صوت وكلمات ميثال، لم تعرف عن ماذا تتحدث و ماذا تقول. بدت الكلمات عاجزة أمام حجم الألم الذي تعيشه الجدة، ولكنها أدركت شيئًا واحدًا وهو أن هذا القصر رغم عظمته وجماله إلا أنه كان سجنًا لذكريات ميثال، وعبئًا ثقيلًا على قلبها المنهك.
نظرت ميثال إلى قمر بابتسامة باهتة مردفة بهدوء:
"سنبدأ من هنا يا قمر. ستكونين مساعدتي، ليس مساعدة وحسب بل و ستصبحين أكثر من ذلك، هذا القصر يحتاج إلى روح جديدة. تمامًا كما نحتاج نحن"
أومأت قمر راسها بصمت، وهي تحاول أن تستوعب الكلمات، وهي تشعر أن هذه اللحظة بداية لفصل جديد في حياتها وان كان طريقها لا يزال غير واضح.
لحظات مرت على ميثال وهي تستدرك الذي مضى بزوايا تلك الغرفة و بين ثنايا تلك التجاعيد التي ملئت وجهها الهرم، في كل طية تجمع ذكريات عدة كانت في ما مضى سعيدة والآن هي محض أطلال فيا ليت الذي كان بقي كما كان.
كانت الغصة التي في حلق ميثال أقوى من أن تتلفظ بالكلمات الاضافية ، اكتفت بتنهيدة عميقة استجمعت بها بعض الشجاعة كي تتحرك إلى الخارج مردفة بصوتها الخافت:
" كان يا مكان.. أصبح كل شيء كان يا مكان فقط "
حركت قمر راسها باستفهام لتضيف ميثال :
_"تعالي يا ابنتي لأريك غرفتك علها توهجك بدلا من هذه التي تتربص بنا بذكرياتها"
تحركت قمر خلفها بهدوء حتى وصلتا إلى الغرفة دلفتاها معا، تمعنت قمر بالغرفة هنيهة ثم حملقت بميثال ولا تزال صامتة.
ناظرتها الجدة بتوجس مردفة :
"ما بكِ؟ ألم تعجبك الغرفة؟"
ومن بين حطامها نبتت زهرة بيضاء تجلت على شفتيها بابتسامة فتاة يافعة مردفة:
"لم تعجبني!! هذا ارقى مكان دلفته في كل حياتي البائسة.
أبصرتها ميثال بعيون فاضت بالحسرة على هذه الشابة التى لاقت من الدنيا مالا تستحق لتردف:
"لا تصفي حياتك بالبائسة يا فتاة احمدي ربك و رددي دائما 'إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب' ".
زفرت قمر براحة مردفة :
"ونعم بالله و لكن….
اقتربت ميثال وربتت على كتف قمر وهي تمرر يدها بين أطراف شعرها المنسدل مضيفة :
" من غير لكن يا ابنتي. هيا اجلسي وارتاحي في غرفتك قليلا . رتبي اغراضك ولنا حديث مطول لاحقا "
تحركت ميثال نحو الباب كي تخرج متفاجئة بيد قمر تمسكها بقوة.
استدارت ناظرة الى عيونها بتوجس ترقب ما
ستقول من خلال تلك الشفاه المنفتحة والعيون الدهشة.
تحدثت قمر بحنق مردفة :
"لمَ تفعلين معي كل هذا؟ في حين ان حفيدك حذرك من أن اكون مصابة بمرض معدي، أو مجرمة، قاتلة متسلسلة، فلما احتويتي ضعفي رغم قلة معرفتك بي؟"
صمتت قمر برهة مردفة بعدها :
" كنت فتاة منبوذة وئدت داخلها السعادة قبل الاوان"
ابتسمت ميثال وفكرت برهة قبل ان تجيب بحزم مردفة :
"يجب أن تتجردي من مخزن الشتاء وموجوداته التي بداخلك حتى يزورك الربيع، اما عن مرضك فأعلم كل العلم انه مجرد بهاق غير معدى بل سمة ميزك الله بها."
ابتسمت قمر على الحال الذي آلت له ساخرة من حالتها مردفة :
"البهاق لا شيء أمام الذي قابلته ، رجاء لا تحزني لأجلي ليس بمقدوري التأقلم فمن تعود الأسى خال الفرحة فخا "
_"هيا قمر لترتاحي قليلا ثم تعالي لنكمل جولتنا داخل القصر"
زفرت قمر بحنق ناظرة نحو الفراش ، تحدثت ميثال قبل ذهابها مردفة باهتمام :
"تذكرت شيء يا قمر."
حملقت قمر بها متوجسة مما ستقول فاردفت ميثال :
"قد يأتي يونس بين الفينة والفينة، لا تقلقي لن يقترب منك او يزعجك أبدا "
عبس وجه قمر وعاد توترها وهي التي بالكاد اطمأنت ، فركت يدها ببعضهما وشعور الألم والضياع يتمطى داخلها مردفة بضيق :
" سأبقى بالغرفة حين يأتي ولن أخرج منها حتى يذهب ، كي لا أزعجه أو أخيفه بمرضي فلا أريد أن يقع خلاف آخر بينكما بسببي"
أضافت ميثال كي تهدئ من روعها:
" لا تأخذي تلك الفكرة السيئة عن يونس فأنا من ربيته وأعرف باطنه من ظاهره قد يبدو قاسيا ومتغطرسا لكن جوهره طيب ، فلا تجزعي من الذي بدر منه وأنا متأكدة من أنه سيأتي يوم ويعتذر لك "
ردت قمر بيئس :
"لا أريده ان يعتذر مني ، ومن أنا كي يعتذر منها!؟"
لامست ميثال حينها خد قمر بكل حنان فأرسلتها حيث لا حزن ولا عتمة، شعورا لم تجربه قط إنها سكينة القلب، ثم تحدثت بصوتها الخافت قائلة:
" لا تصغرين من ذاتك يا ابنتى، كل انسان يستحق الاعتذار ولا يحق لأحد أن يتجاوز بحقك او بحق غيرك، قبل أن تثقي بي يجب أن تثقي بنفسك اولا وتعطيها حقها لتكونى بحال أفضل"
وأخيرا ابتسمت قمر وبين فرح وألم أخذت مشاعرها تروح وتجيء، لا تدري هل تندفع نحو احساسها بالامان وتثق بميثال وكلامها أم تفر بما بقي لديها من قوة وتذهب إلى حيث لا يعرفها بشر.
خرجت ميثال وتركت قمر في تلك الغرفة العادية بالنسبة للناس و الواسعة الشاسعة لفتاة منبوذة كقمر، تركتها تدور بعينيها في أرجاء الغرفة تبحث عن ماهيتها من بين كل الذي مرت ولا تزال تمر به.
مرّ الوقت وكأن الساعات تتباطأ تحت وطأة الأحاسيس المتناقضة التي اجتاحت قلب قمر.
كانت تراقب ميثال من بعيد تحاول التعرف على جانب جديد من حياتها، وكأنها تزيح طبقة شفافة عن عالم غامض أمامها ، لم تكن قمر على دراية كاملة لكيفية التعامل مع هذه السهولة التي أحاطتها بها هذه العجوز .
ذلك القبول التام الذي لم تذقه من قبل في حياتها، وكأنها تُرى للمرة الأولى على حقيقتها دون أن تُخفي شيئًا.
ورغم كل هذه المشاعر إلا أن لا زال هناك جدار رقيق من الشك لم تستطع قمر هدمه كليًا، فظهور الجدة المفاجئ في حياتها لم يكن مجرد لقاء عابر، بل كان حدثًا يضرب في جذور أعماقها، كأنما القدر أراد أن يعيد ترتيب أوراق حياتها بشكل غير مفهوم.
تساءلت قمر نفسها مرارًا :
"هل هي فرصة للنجاة أم اختبار آخر من اختبارات الحياة؟ "
ومع كل خطوة قضتها إلى جانب ميثال، كانت تشعر بالانجذاب نحوها، وكأن شيئًا خفيًا يقودها نحوها، لكن قلبها المتشكك ظل متيقظًا، يتفحص كل كلمة وكل نظرة، فقمر بهدوئها وسكونها كانت تقرأ ميثال كما تُقرأ القصائد، بحذر وبحبٍ دفين لم يُكشف عنه بعد.
***
وفي مكان بعيد يغرقه السكون، كانت إشراق جالسة على أريكتها أمام بيتها الصغير الذى يبدو كأنه جزء من ذاكرة عتيقة تسكنها الأيام، يسقط نور القمر على وجهها بنعومة يعانق ملامحها فيضفي اليها هالة من الشوق والترقب، عينيها مثبتين على القمر في السماء تحتضناه بنظرات مشبعة بالتأمل، هامسة له بحنان غريب وكأنها تبوح بسر قديم:
"متى سيحين اللقاء؟"
وبهذه اللحظة ترددت كلمات خافتة وكأنما الكون كان ينتظر الإشارة فجاء الرد كصدى تغلغل في أركان الصمت وهز أعماق السكون:
"ها قد حان!"
استدارت إشراق لتنظر ببطء وكأنها تخشى أن تكون رؤياها مجرد وهم، ظهرت قمر وميثال وهما واقفين أمامها يدا بيد، تتشابك أناملهم في تماسك هادئ وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد ، شعرت إشراق بأن الهواء أصبح أكثر ثقلاً على صدرها ، شيء غريب يحدث وكأن نقطة تقاطع بين زمنين مختلفين، إشراق بنورها البارد الذي يعكس رقة السماء، وقمر بتلك الحيرة العميقة في عينيها، تقفان وكأنهما تجسدان لقاءً طال انتظاره.
ابتسمت إشراق، وأدركت في أعماقها أن هذه اللحظة هي البداية لشيء لا يمكن تفسيره بالكلمات، بل بالإحساس الذي يتجاوز حدود الفهم.
إلى هنا انتهي الفصل الأول آمل ان ينل اعجابكم.
انتظروا الفصل الثاني يوم الخميس الساعة العاشرة بتوقيت السعودية.
واخيرًا …. استغفروا لعلها ساعة استجابة