عروس بغداد
بقلم الكاتبة أمل محمد الكاشف
فرح خليل بالخبر وشعر بقرب عودته لوطنه فلا يوجد بالعالم ما يغني المرء عن تراب بلده ، تفاجأت رشيدة بحديثه مع امه
"سنعود قريبا يا امي ، سنعود قريبا لبلادنا"
دخلت الغرفة وهي تنظر للأم فاطمة
"كيف سنعود قريبا ، لا يمكننا العودة ألم تسمع عن الوضع المزري للبلد ، لقد قضوا على الأخضر واليابس وتركوها جرداء لا خير بها، انا لا أقبل العودة …"
قاطعها بقوة " ومن طلب منكِ الأذن بذلك "
تفاجأت برده الحاد ابتلعت ريقها وهي تضع يدها على بطنها المرتفعة
"لأجل مصطفى ، علينا ان نبقى لأجل مستقبله"
_" لا مستقبل لابني بعيدا عن عشيرته وبلده"
علا رنين جرس الباب تساءل خليل عن الطارق لتتحدث رشيدة
"ربما تكون الخالة عايدة أتت لتجلس مع أمي فاطمة"
تحرك ليرى من القادم ، فتحت أسماء الباب لتجدها عبير صديقة رشيدة .
رحب خليل بها مشيرا نحو الصالون "تفضلي "
أتت رشيدة وهي تتعجب من زيارة صديقتها المفاجئة وخاصة انها تهربت بالصباح ومن التصاقها بها.
تبادلا السلام لتجلس بعدها بجانبها وهي تستمع لحديثها
"لم اتي هذه المرة لأجلك، لقد اتيت لأجل دكتور خليل"
غار قلب رشيدة لرؤيتها عيون عبير عالقة على زوجها وهي تسترسل بحديثها معه عن العرض المغري للشراكة بينه وبين مجموعة عيادات خاصة يتبادلون الدعاية والمرضى بينهم .
تحمس خليل للفكرة فهي شيء ليس بجديد عليه فكان يفعلها من قبل ، تحركت عبير مكانها من شدة فرحتها قائلة
" ان اردت يمكننا الذهاب للعيادات بأي وقت يناسبك حتى يمكننا الان ان لم يكن هناك مشكلة"
_" ولما التأجيل فلنذهب ونتم المسألة قبل ان يبادر غيرنا بكسبها"
وقف خليل "سأبدل ملابسي واعود إليكِ"
وقفت رشيدة هي أيضا "كما تريد لأبدل انا أيضا ملابسي"
صدمها خليل برفضه وطلبه جلوسها مع امه حتى عودته ، صمتت مستأذنه من عبير لتذهب خلف زوجها لتحدثه بلطف ودلال "اختنقت من الجلوس بالمنزل اريد انا وطفلي استنشاق الهواء بجانبك "
أكمل ارتداء ملابسه دون رد ، وقفت امام باب الغرفة لتمنع خروجه
"لا تفعل بنا ذلك اقول لك صدري يضيق اريد استنشاق الهواء "
رفض دون النظر لها لتجد الفرصة لتدخل بحضنه متدللة عليه لتحرك قلبه الحزين .
أبى خليل أن ينساق لقربها وتدللها تحرك بوجهه الحاد
"ارتدي بسرعة والحقي بنا "
فرحت رشيده رافعه وجهها للأعلى كي تقبل وجهه ، تركها مبتعد عنها
"لأجل طفلك وإلا لا تفكري بشيء اخر"
اسرعت لارتداء ملابسها وهي راضية على هذا القدر.
………
اقترب طارق من سلمى وهو فاتح لذراعيه بسعادة كبيرة
" بدأت شمس بلادي بالشروق مجددًا"
ابتسمت سلمى بفرحتها
"مبارك علينا ، أتمنى ان تشرق شمس بلادي مجددا رغم أننا نعلم ما أصابها وما وصل بها من حال "
_" اعلم حاجتنا لسنوات طويلة كي نعيد ما هدم ولكننا سنحلم لعلنا نصل بيوم من الايام لحلمنا"
ردت سلمى عليه "طمئني على رانيا كيف حالها"
_"بخير كثيرا اتيت لأنهي بعض الأعمال المهمة واعود لإجازتي الطويلة"
استغربت متسائلة
"كيف طويلة ؟"
_"حجزت تذاكر سفرنا إلى تركيا سنمكث بها خمسة عشر يوما ومن بعدها سنذهب لمصر خمسة عشر يوما ونعود بعدها إليكم "
ابدت سعادتها لما سمعت منه
"هل يمكنني ان أرسل بعض الهدايا الى الخالة عايدة ونسرين ام ان الوزن اكتمل"
_" حتى وإن اكتمل سأتصرف لا تقلقي"
ابتسمت بشكرها له
"من الجيد وجودك بجانبي حتى الان، أتعجب كثيرا من اين تستمد القوة بالبقاء على صلة مع شخص …"
صمتت بعد أن فقدت القدرة على اختيار تعبير يليق بأقدارها المزرية.
تلجم بكلماته المبعثرة فإن كان بالماضي لكان استطاع ان يخبرها بمكانتها الكبيرة التي جعلته يتمنى ان يبقى بجانبها بكل الظروف، تحرك بمكانه ناظرا حوله وهو يبدأ حديثه دون النظر لعينيها الدامعة
" ستظلين أمانة خالتي فوزية حتى ألتقي بها واخبرها انني فعلت ما بوسعي للمحافظة على ابنتها … "
صمت رافعا عينيه بعينيها الدامعة قائلا بسره
"قرة عين.. أمها "
………
ورغم تحفظ رشيدة على عدم اظهار الخلاف الذي بينها وبين زوجها لمن حولها الا ان عبير لاحظت ذلك وتأكدت منه في عدة ملاحظات آخرها رفض خليل تشبيك زوجته يدها في ذراعه .
فرحت وشعرت بقرب تحقيق حلمها بالزواج من كبير العوايلة صاحب الجاه والمال والقلب الطيب.
انتهى عملهم وتم الاتفاق على التعاقد مع العيادات الأخرى متفرقين بعدها كلا على وجهته، سمعت عبير خليل وهو يقول لزوجته
"ليس لدي وقت لذلك علي ان اعود لأدير بعض الأعمال المتأخرة بالمعمل"
استأذنت منهم وهي تمكر لصديقتها قائلة لنفسها
"يكفيكِ بهذا القدر ، لقد ملل الرجل منك كما مللنا جميعا من تباهيكِ الزائد وكأنك وحدك من خلقك الله بهذا الجمال"
………..
دخلت سلمى غرفة تهاني الهاشمي لمتابعة حالتها ، تحدث تيّم لها
"قبل قليل…."
أومأت برأسها وهي تقطع حديثه بوجهها الخالي من المشاعر
"حسنًا أخبروني بما حدث، لا تقلق تم إجراء التحاليل اللازمة ننتظر خروجها حتى نتأكد من السبب "
رد عليها بقلق
" هل عندك شك بشيء معين؟"
نظرت سلمى للأم ثم نظرت له قائلة بتحفظ كبير
"لا شيء مجرد الاطمئنان على نسب السكر والغدد"
اقتربت لتبدأ فحص المريضة وهي تتحدث مع تسنيم بلطف تسايرها وتمزح معها لتطلف قلقها على الوالدة.
لم تسمع سلمى صوت الباب وهو يُفتح حين تفاجأت •بصراخ •تسنيم وقفز تيم قفزة قوية سريعة جعلته ينتقل من الجهة اليمنى إلى اليسرى متخذ الفراش جسرًا له ، ادارت وجهها للخلف متنقلة بنظرها بين الممرضة التي أتت إليهم وتسنيم باستغراب.
تحدث تيّم لأخته
"ما بكِ…! "
ثم نظر للممرضة متسائلًا
"ماذا فعلتي بها؟"
تعجبت الممرضة متسمرة في مكانها وهي تهز رأسها باستغراب، ضمها تيّم وهو يحن على ظهرها محدثها بصوت حنون كي يطمئنها
"لا تخافي منها إنها ذات قلب طيب وجميل لا تؤذي ولا تضر أحد"
نظرت تهاني الهاشمي للدكتورة سلمى متحدثه بصوت منخفض
"تصيبها نوبة هلع وفزع يليها نوبة صرع إن لم نستطع السيطرة على خوفها"
علقت عينيها على دكتور تيّم وهو يصطحب اخته خارج الغرفة كي يذهبا لشراء الحلوى لها وللممرضة الطيبة كما كان يصفها ومن بعدها يذهبا للجلوس بالحديقة في الأسفل.
انهت الفحص سريعًا ثم خرجت من الغرفة وهي متأثرة بحنانه على اخته ورؤيتها له وهو يحتضن داخله كي يحافظ عليها من العالم القاسي. رغرغت عينيها واحتقن حلقها بمرارة ما حرمت منه منذ وفاة والدتها.
استكملت عملها وهي تنظر للجميع بعيون خاوية من ألوان الحيوية والنشاط. ترى كل ما يأتي أمامها يشبه بعضه .
جاء اليها تيّم بمنتصف اليوم كي يعتذر عن ما حدث ، هزت راسها بضيق كبير ملأ صدرها
"لا عليك نحن معتادون على العمل بهذه الأجواء، ولكني تعجبت من ردة فعلك وقفزك من فوق فراش والدتك بصراحه الأمر مفاجئ بالنسبة لي ، شخص مثلك وبعمرك يتصرف بهذه الطريقة الغير مسؤولة
حكى لها عن خوفه على أخته وتأثرها الجسدي بعد نوبة الصرع بكل مرة جعله لا يفكر بتلك اللحظة إلا باحتضانها وتأمينها من خوفها .
_"أتساءل عن طفولتك ، إن أصبحت بهذه الحالة في الكبر فماذا كنت بالصغر !"
ابتسم وجهه البشوش وهو يقول لها
"لا يمكنني فضح نفسي لأجل الإجابة على سؤالك ، ولكن صدقيني •خوفي •عليها يجعلني افعل ما لا يخطر على بالك، انها وحيدتي أشعر وكأني والدها و ببعض الأحيان اشعر وكأنها طفلتي الحقيقية"
حدثته سلمى بخجل
" رأيت هذا بعيني انت فعلًا شخص حنون ومحب لأختك. كنت أتمنى لو ان كان لدي اخ أن يكون مثلك ذو قلب كبير وصدر حنون استند إليه وقت تضيق عليّ دنياي"
رد عليها بحماس كبير
"وكأني اخاكِ . يعني اعتبريني مثل اخاكِ ان احتجتي يوما لشيء أو سند ستجديني بجانبك بكل قوتي"
شكرته ناظرة لغرفة مريض بجانبها
"شكرا لك. والان علي ان اذهب لعملي عليها العافية ان شاء الله. ان حدث أي تطورات على الوالدة أصبحت تعلم كيف ستجدني"
أومأ برأسه بوجهه المبتسم
"حسنا لا تقلقي"
كان يتمنى ان يطلب رقم هاتفها بهذه اللحظة ولكنه خجل من صدها له.
تحركت مبتعدة عنه وهي خاوية الوفاض لا خطط ولا أقارب ولا شيء إلا العمل. العمل فقط.
……..
نجحت عبير بالانفراد بخليل في المعمل بحجة العمل الجديد ، و وسط الحديث وبلحظة غير منتظرة منها قالت
"حزنت لأجلكم ، الوضع متخبط ، لا اعرف ما علي فعله كي تعودا كسابق عهدكم"
_" نحن بخير لا تشغلي نفسك بنا"
وتحدثت بصوت منخفض
"كيف لا اشغل نفسي، انتم عائلتي الوحيدة بالغربة ، وأيضا رشيدة تحبك ولا تستطيع تحمل حزنك هي فقط عنيدة وعصبية ولكنها تحبك"
رد خليل بضيق
"هذا يعني انك تعلمين اصل المشكلة"
أجابت عبير بتحفظ وحذر
" وهل لي ألا اعلم ، حزنت كثيرًا عليكم ، اود ان اصلح بينكما ولكنها تحذرني دومًا بعدم التدخل على أمل ان يصلح الله بينكما دون وسطاء"
_" هي من فعل ذلك بنا ، فلتتحمل ضريبة ما كانت تنوي فعله بطفلي ، افقد عقلي كلما أتذكر فعلتها ،كيف تتخلى عن طفلنا بهذه السهولة ، بل وكيف تهددني وتساومني ببقائها معي مقابل طلاقي من سلمى ؟"
علا صوت خليل
" أقسمت سأحاسبها على ذلك ولن أعود عن قسمي حتى اجعلها تندم على ما فعلته"
انصدمت عبير بما سمعت مسحت دموعها المصطنعة
"اعتذر منك تأثرت بضيقك وحزنك ولم اتحكم بدموعي ، لا اعرف ما يجب ان يقال في هذه المواقف ولكني سأكون محقة فلقد تغيرت رشيدة كثيرًا من بعد الهجرة ،اتعجب من حالتها وعصبيتها المفرطة أسأل نفسي هل الحمل يغير الطباع لهذه الدرجة!"
لم يقتنع خليل بما قالته عبير لتفاجئه هي بسؤالها الذي أتاه بصوت يتصنع الحزن والتأثر على حالته
" وماذا عن الدكتورة سلمى ؟ كيف تقبلت الوضع ؟ برغم قربي ومحبتي لرشيدة ومعرفتي لرغبتها بالتخلص منها إلا انني اشفقت على سلمى المسكينة كم تحملت من رشيدة لتأتي بالأخير وتكون سبب بخراب بيتها "
تأثر خليل حين تذكر حبيبة قلبه حتى بدى على وجهه الحزن الشديد ، استغلت عبير وضع حزنه وسكونه لتكمل بث سمها
" هل تتحدثان سويًا اقصد انت وسلمى ، هل اتفقتما على العودة بعد الولادة ، نعم من المؤكد اتفاقكما وإلا كيف ستتركها بعد كل هذه السنين من العشرة"
رد خليل بصوته الحزين
" لم استطع الوقوف امامها او التحدث معها بذلك ، كيف اتفق على الزواج مجددًا وأنا من طلقها لأجل رغبة زوجتي الأولى"
قاطعته عبير بحزنها وتمثيل تفاجئها
" هل طلقتها بدون ان تراضي خاطرها أو تعدها بالعودة"
_" أنتِ لا تعلمين عن سلمى شيء ، هي مختلفة عن الجميع ، يعتقدون أنها قوية وحادة ولكنها بالحقيقة تملك قلب بحجم قلب طفل صغير بمشاعره الرقيقة و حجم ام ناضجة بمشاعر الإيثار والعطاء المتفاني وإعطاء كل من حولها سبعين عذر ، لم تؤذي مشاعر احد منا كانت دوما تتخلى عن حقوقها لأجل سعادة ورضا رشيدة لا اعرف كيف هان عليها فعل ذلك بها "
ردت عبير بصوت حزنها المصطنع
" من الخسارة الكبيرة ان يجبر المرء على شق قلبه وتركه بمكان بعيد عنه ، كنت ارى ضياعك وحزنك والمك دون ان اعلم همك العميق ،عندما سمعت ورايت الوضع من الجهة المحقة علمت كم كانت رشيدة انانية و •ظالمة •بذلك يعني لو كنت انا مكانه كنت احتضنت سلمى واتحدت معها لبناء وسط هادئ سعيد وجميل الجميع يحب الخير لبعضه البعض"
أومأ خليل برأسه
" لا عليكِ تم الطلاق واغلق الباب وما علينا إلا التحمل والنسيان"
_"لم ولن تستطيع النسيان اعتذر منك على تدخلي ولكني رأيت بعيناك حبها الكبير ، لا تتنازل بسهولة عد وتواصل معاها اخبرها بحبك وحزنك ورغبتك بالعودة لها بعد ان ترتب امورك ، اجعلها تشعر بك كي تسامحك ، سلمى صاحبة عقل حكيم من المؤكد انها ستسامحك "
انصدم خليل بحديثها قائلا
"وهل يحق لي الاتصال وطلب العودة بعد الولادة !"
_" نعم يحق لك حتى انك ستتفاجأ بردة فعلها وتمسكها بك"
فكر خليل قليلا متحدثا بعدها ليشرح لها كيفية خذلانه لسلمى وطلاقه الغيابي لها .
لتجد عبير الفرصة لبث المزيد من السم بإصرارها على اتصاله بسلمى ومحاولة التودد لها واظهاره حزنه على بعدها عنه كما حثته على شراء خاطرها بالغالي حتى وإن وصل به الحال ان يعدها بأن يبيع الجميع لأجلها هي.
لمعت عيناي خليل وهو يستمع لعبير وهي تقول
"لا تتنازل بسهولة ،انا بجانبك لأجل نصرة •المظلوم •، لا تعتقد انني سأصمت على الوضع لأجل صديقتي بالعكس تماما لقد انصدمت بتفاصيل ما فعلته ، كيف يؤمن الإنسان نفسه بجانبها"
ظلت عبير تبث سمها لأقناعه بالعودة للدكتورة سلمى ومحاسبة رشيدة على الظلم •الذي اقترفته بحق للآخرين
كانت تريد أن تكسر اخر حطام بعلاقة خليل ورشيدة بعودة الأمل في كسب قلب الدكتورة من جديد ، وحينما يفشل سيعود اكثر حزنا والما وغضبا على رشيدة وهنا سيكون دورها في احتضانه ومداواة جرح قلبه .
راهنت عبير على قوة وحكمة و وضع سلمى وكسبها لحريتها التي من المستحيل ان تتنازل عنها لأجل أن تعود لخوض •معاركها •مع رشيدة.
………..
مرت عدة أيام أخرى لا تختلف عن ما سبقها ، فجميع ما يأتي ويذهب أصبح بعينيها سواء دون طعم او لون او رائحة.
تبدأ يومها وهي تحلم باللحظة التي سينتهي بها دون ألم أو صدمة أو خذلان جديد.
وككل يوم ذهبت بأول الصباح إلى غرفة تهاني الهاشمي ومن خلفها المساعدة الخاصة بها تنظر للملف الطبي وهي تسترق النظر لنوم تيّم العميق على الأريكة
تحدثت أمه لها
"ليس من عادته النوم حتى هذه الساعة ولكن من الواضح أن جسده متعب لذلك تركته حتى يكتفي من الراحة"
أومأت سلمى برأسها مقتربة من تسنيم لتحدثها
"كيف حالك اليوم هل كل شيء على ما يرام"
ردت عليها بحب
"نعم ما دامت امي واخي بخير فأنا أيضا بخير"
ابتسمت لها "من الجيد سماع هذا"
حلقت الأنظار نحو من فتح عينيه محاولًا استعادة وعيه وهو يجلس على الأريكة بجوار الباب.
فرحت تسنيم " استيقظ اخي"
تحدثت أمه متسائلة
"ما بك يا امي هل تشعر بالتعب . هل انت مريض؟"
اثار انتباه سلمى ما قالته تهاني الهاشمي تحركت نحوه خطوات
"هل تشعر بأي أعراض مرضية؟"
استقام تيّم بجلسته
"لا شيء أنا بخير كنت بحاجة للنوم فقط"
هزت رأسها وهي تتصفح أوراق الملف الطبي
"كل شيء على ما يرام ، يمكننا السماح بخروجكم ان أستمر الوضع على هذا النحو، طبعا مع استمرار المتابعة المنزلية"
صمتت مشيرة نحو تسنيم بعينيها.
وقف تيّم وهو يمسح عينيه النائمة شاكرًا لها
"تحدثت للممرضة فجر اليوم وهي وعدتني ان تطلب إخراجهم اليوم "
اجابته بتعجب
"ولماذا لم تطلب مني بشكل مباشر"
قالتها باستغراب أفاض الاحراج عليه وهو يسرع بإجابته
"حدث فجأة حين وجدتها اثناء عودتي أخبرتني باستقرار الوضع الصحي لأمي وهنا تحمست وطلبت منها تسريع أمر خروجها اليوم"
أومأت سلمى برأسها قائلة
"حسنا انتظرك بمكتبي لأجل لذلك"
أدارت وجهها نحو الام وابنتها
"سأذهب انا لمتابعة عملي عليكم العافية"
تحدث تيّم بصوت منخفض
"اعطني عدة دقائق اغسل وجهي لأستعيد وعيي بشكل كامل ومن بعدها أتي للمكتب على الفور"
أومأت برأسها مجددًا كإجابة على حديثه ثم خرجت من الغرفة دون كلام .
تحدثت أمه له
"وكأنها تدفع ثمن ما يخرج من فمها، ام ان الرد سيؤلم لسانها، تكتفي بتحريك رأسها وعينيها وتذهب دون سلام"
دافع تيّم عن سلمى
"كيف دون سلام، ألم تستأذن منكم للذهاب لعملها، الفتاة لديها الكثير من الحالات المطلوب منها متابعتها إن وقفت وتحدثت مع كل حالة بأريحية لن تنهي عملها طوال الشهر"
ابتسمت امه له
" وكأنك تدافع عنها امامي. ام انا مخطئة"
تحرك مقترب من الباب
"أقول الحق لا اكثر. سأذهب لغسل وجهي ومن ثم نرى أمر خروجنا والعودة لمنزلنا اشتقت لراحتنا به"
تحدثت تسنيم بهدوء
"وماذا عن الطبيبة كيف سنراها عند عودتنا للمنزل"
ابتسم وجه تيّم قائلا بفرح
" يمكننا حلها ان اردتي"
انتبه لوجه أمه المبتسم قائلا لها
"لأجلها. تعلمين لا يمكنني ان احزن جميلتي "
فرحت تسنيم وهي تستمع لأمها
"نعم لن يستطيع أحد احزانها ان ارادت رؤيتها فسنفعل وان كلفنا هذا أن تأتي بها للمشفى كل يوم "
ابتسم تيّم لعيون امه الغامز المبطنة بأحاديث أخرى مسرع بخروجه وذهابه للحمام وهو يحدث نفسه
"هل كان واضح لهذه الدرجة! ام ان استشعارات قلبك عادت لعملها بشكل جيد"
غسل وجهه وحسن وضع ملابسه مهتم بتصفيف شعره بأصابع يده متوجهًا للقائها والقلب ينسج آلاف الأحاديث والردود في محاولة منه ان يكون ثابت وجاهز دون ارتباك أو تأخر بالرد.
طرق الباب ليجد شخص يخرج من المكتب وبيده صينية فارغة، دخل بعده ملقي السلام
" أتمنى ان أكون أتيت على الموعد المحدد كي لا اشغلك عن عملك"
ابتسمت ابتسامه بسيطة مشيرة له نحو المقعد
"لا تقلق انهيت عملي قبل قليل امامي ساعه على الأكثر كي ابدأ مهامي من جديد، تفضل اجلس لنتحدث"
انحنت على المكتب لتضع كوب القهوة بالقرب منه وهي تقول
"بن مضبوط سكر زيادة"
ثم وضعت مخبوزات بالمربى بجانب القهوة مكملة
"طلبت لك بمربى الفراولة هذه المرة كما تحب"
لجم لسانه وطارت الأحاديث من خاطره حتى استصعب قول
"شكرا لكِ" حين نسي ما يقال في هذه المواقف.
تحدثت سلمى وهي تشرب القهوة الخاصة بها
"اردت ان نتحدث بشكل خاص بعيدا عن العائلة، فرغم ان الوضع مستقر إلا ان نسب التحاليل حتى الان غير مطمئنة، بجانب الجلسات المكثفة الخاصة بتسنيم تعلم امر الأطباء النفسيين ، ان خرجت من المشفى لن تتمكن من تلقي الدعم الكامل ، من الجميل رؤيتنا انسجامها مع الممرضات والأطباء حتى أصبحت تطلب المشي بطرقات المشفى والحديقة الملحقة بنا معهم دون •خوف"
ابتسم بقوله
"انتِ محقة حتى إنها تساءلت بعد خروجك من الغرفة عن كيفية رؤيتها لكِ بعد عودتنا للمنزل"
فرحت سلمى وهي تجيب
"ننتظرها دائما فلتأتي بأي وقت تحب"
فكر تيّم ثواني قليلة مجيب بعدها
" رغم انني اشتقت للنوم بفراشي وعودتي لروتين حياتي السابق إلا أن صحتهم أهم لدي من أي شيء آخر"
_"لا تحزن يومين على الأكثر ويحدث ما تريد"
شكرها على اهتمامها ممسكا بكوب القهوة وهو يقف مستأذن منها
"والان اترككِ لعملك"
نظرت لمعجنات المربى قائلة بحرج
" طلبتها لأجلك "
ابتسمت عينيه وهو ينظر الى شطيرة الجبن الخاصة بها
"ولكني أحببت التغيير"
ومد يده ليأخذ خاصتها من جانبها
"لنبدلها بالجبن "
وتحرك ليخرج من المكتب وهو يحتسي رشفة من قهوته مكمل اخر كلماته قبل إغلاقه للباب
خلفه "شكرا على القهوة جاءت بوقتها "
ظلت تنظر نحو الباب بوجه مبتسم شارد الذهن منسجم بسلام وهدوء كبير.
عكس تيّم الذي خرج متأجج بحماسه وفرحته بمشاعره الجديدة، لمس اهتمامها وتغيير حديثها معه وهذا اكثر ما جعله يستمتع بمشاعره براحة دون قلق وتوتر .
لم يكتمل هدوء وسلام سلمى الروحاني وكأنه كتب عليها الاصطدام بالألم كلما استطاعت التنفس من جديد.
فتحت هاتفها لتجيب على الاتصال دون النظر للرقم الغريب لتتفاجئ بصوت رجع داخلها
"هل يحق لي أن أسألك عن حالك!"
تلجم لسانها وتخشب حلقها وثبتت عيونها المتسعة وهي تنظر للأمام مستمعة لصوته
"اعلم إنه لا يحق لي الاتصال بعد ما فعلته معك، ولكنك لا تعلمين ما حدث ، اقسم لكِ انني اموت كل ليلة ببعدي عنكِ، يتقطع قلبي حزنا على حزنك مني، لم اعد خليل الذي تعرفيه قطعت الحياة من بعد هذا اليوم الذي غربت شمس حياتي دون عودة"
لم تجب عليه محاولة وضع الهاتف على المكتب لتهدأ من ارتعاش يديها وهي تستمع لصوته
"لا انتظر منك مسامحة ولكني اعدك انني سأجعلك تسامحيني"
اغمضت عينيها محاولة تهدئة أنفاسها المتسارعة داعيه الله ان يمنحها القوة كي تجيب عليه ولكنها لم تستطع فعلها هذه المرة .
توسل إليها كي تجيب عليه ليسمع صوتها ولو مرة واحدة ومن بعدها تغلق .
ابتلعت ريقها وهي تسأله
_ " مسامحة ! هل اتصلت لتطلب مني المسامحة !"
اسرع خليل بالإجابة " أعلم أنها كبيرة عليّ"
ضمت شفائفها بين فكيها لتهدأ من ارتجاف جسدها متحدثة بعدها بثبات واهي
"لا ليست بكبيرة بالعكس تمامًا انت اخر شخص يمكنه طلب المسامحة مني"
اسرع خليل بمداخلته
"كنت أعلم أنني لن اهون عليكِ ولكني لم أتوقع مسامحتك لي بهذه السرعة، قلبك الطيب وعقلك الكبير …"
قاطعته بحديثها
" أي شخص بمكاني كان سامحك كما سامحتك، بل وسيزيد الشكر على المسامحة، أليس أنت من أنقذني من قدري المجهول ، أليس انت من فك قيودي وحملني لمنزله ، أليس انت من ضحى باستقراره العائلي لأجل نصرة مظلوم، كلما أظلمت دنياي أضأتها انت بوعودك وأحلامك بتحقيق أمنياتي"
_" نعم وسأحقق لكِ كل ما تتمنين واكثر، سنعود للعراق لنفتح مركز طبي كبير بل سأفتتح لكِ مشفى خاصة تحت ادارتك، حتى سأكتبها باسمك وحدك كي تتأكدي من صدقي"
ردت عليها بصوت خاوي من الروح
" اصدقك ولم أكذبك قبل ذلك، ولكن أخبرني ماذا عن رشيدة وطفلها، ماذا ستفعل لهم؟"
رد عليها بضيق
"لا تذكريني بها ،انتظري حتى تلد وننتقل للعراق مجددًا لأريها قدرها الحقيقي، اقسم أنني سأجعلها تندم على ما فعلته"
_" وماذا ان طلبت الطلاق واخذت طفلها وعادت لبلدها"
ضحك خليل ضحكة مخيفة
"لا يمكنها اخذه حينئذ، هل نسيتي أنني كبير عشيرة العوايلة، ان فكرت بفعلها ستجدني انا وعشيرتي أمامها حتى تندم على مولدها وليس فقط اللحظة التي وقفت أمامي بها"
اختنقت سلمى حين تذكرت تجبر كبار العشائر ونبرة عموماتها وهم يتحدثون عن الأعراف وقوة اتحادهم في تحقيق ما يريدون، ردت عليه قائلة
" سامحتك يا خليل على ما فعلته في حقي، سامحتك على خذلانك وكسرك لي ، سامحتك بكل مرة كنت تكسرني وتفضل غيري عليّ"
اسرع بمقاطعته لها
" لا تكملي لا اريد ان أتذكر، اعدك ان اعوضك عن كل ما سبق ستكونين أنتِ أولا والجميع سيأتي بعدك، سأجعلك ملكة عشيرة العوايلة"
ردت بقوة جسدها المرتجف
"لا احتاج لتعويض ، يكفي ما فعلته لأجلي ، سامحتك دون ان أنتظر اعتذار او تعويض ، فإن كان يحق لأحد الاعتذار فسيكون عليّ ان اعتذر على دخولي لحياتك ولخبطة توازنك العائلي، أما عن التعويض فلقد وفيت بوعودك وعوضتني حين وهبتني وثيقة حريتي نعم وثيقة حريتي وميلادي، كلمات الشكر لا تكفيك حقك، سأتذكرك دائما على هذا النحو، شكرا لأنك أعدت لي روحي وحياتي التي ظننت انني لن استطيع استرجاعها وتحريرها مرة أخرى ".
.......
لا شيء يؤذي الروح أكثر من بقائها عالقة في مكان لا تنتمي إليه.
دوستويفسكي...
إلى لقاء أتمنى ان يكون قريب
بحبكم في الله