عروس بغداد
دراما اجتماعية واقعية
بقلم أمل محمد الكشف
إستطاع
الأطباء السيطرة على حالة السيدة فوزية وإبقائها تحت الرعاية الخاصة بالمستشفى حتى
يطمئنوا على استقرار الحالة.
حزنت
العشيرة على وفاة زينة شبابها، أُقيم له عزاء كبير في العاصمة بغداد، لم تذهب سلمى
لاداء واجب العزاء بعد أن جاءتها صدمتها الاخرى بظهور نتائج تحاليل امها وتبين
إصابتها بمرض خطير هو من كان يؤثر على حالة القلب لهذه الدرجة.
انفطر
قلبها الصغير بأقدارها الثقيلة كما شعرت فوزيه
بإقتراب تحقق كابوسها فها هي ستترك ابنتها الوحيدة خلفها دون أن تطمئن
عليها، زاد خوفها وتألمها من إهمال زوجها لمشاعرها ومرضها فما يكفيه انشغال بعمله
واصدقائه وأقاربه عنهم ليأتي ويصدمها بتلقيه خبر مرضها بكل هدوء ووجه لم يتأثر
ملامحه، وكأن قطار العمر مر بسرعة كبيرة لدرجة لم تجعلها تلاحظ تغير زوجها المحب
لها.
أظلمت
الدنيا بعينيها كما انقبض قلبها من شعور قرب نهاية رحلتها ورحيلها عن وحيدتها دون
أن تطمئن عليها.
حدثته عن
مخاوفها تجاه وحيدتها وبدأت من جديد تأمنه عليها بقلب فُتر من حقيقة مرضها، لم
يهتم حسين لعيونها الدامعه وصوتها المغيم قاطعها بإبتسامة مصطنعة
"لا
ترهقي نفسك بهذه الأحداث ولا تقلقي على سلمى ستكون بخير رحمة الله على ابو بكر ذهب
واخذ معه فرحتنا، كما لا اريدك التحدث كالذهاب دون راجعه ستكونين بخير لا تقلقي من
المؤكد أن هناك خطأ بالتشخيص فليس كل من يصاب بألم في القلب يموت".
تحدثت
بحالتها المنتهية
"لا
تحزن عليٌ انا راضية بقدر الله أيًا كان فجميعنا جنائز مؤجله منا من يُنبأبرحيله
ومنا من يفاجئنا بذلك كأبو بكر الشاب العفي والمعافى أعان الله اختك على تحمل ما
صابها فاي خسارة أو ألم تهون إلا الضنى لا يمكننا تحمل أن يصابه اذى ولو صغير فما
بالك برحيله دون وداع أو نظرة اخيرة قبل دفنه"
تحدث
حسين بحزن
"نعم
صدقتي لا زال عقلي لم يصدق ما حدث، أين كنا ولأين وصلنا "
كانت ترى
بحالته ما سيصبح عليه بعد وفاتها سعلت عدة مرات وهي تضع يدها على قلبها
"رغم
معارضتي على زواجهم إلا أنني حزنت عليه ولم أتمنى ابدا نهاية كهذه له، حتى أنني
تمنيت زواجهم عن هذا القدر الثقيل على القلب بهت وجهها وكادت ملامحها ان تندثر
داخله من شدة حزنها على عريسها"
هز حسين
رأسه
"جميعنا
تأثرنا بوفاته ابو بكر لم يشبه غيره من الشباب كان رجل بقدر المسؤولية صادق وأمين
رحمة الله عليه"
صمت
مكملا بداخله
"يا
ليته صمد قليلا حتى نرتب اوراقنا ويذهب بسوءه للمكان الذي
قِدر
له"
نظر نحو
زوجته على الفراش ليجدها نامت فجأة على أثر مرضها والأدوية التي تتناولها.
تحرك
ليطمئن على ابنته اقترب من باب غرفتها مستمع لصوت القرآن يصل لأذنيه بصوت خافت مد
نظره داخل الغرفة ليجدها جالسة تدرس، تركها دون أن يقاطعها عائدا لغرفته كي ينام
بجانب زوجته وهي يتأمل ضعفها وما وصلت إليه من حال، حدثها بداخله
"وصلنا
لأخر المطاف يا فوزية لم أكن أتوقع فراقنا بهذه السرعة"
اغمض
عينيه متذكر اليوم الأول بلقائهم حين سحرته بالنشاط والطاقة والحيوية التي تشع من
عيونها.
مضى
اليوم بما يحمله من حزن ومخاوف وإجتهاد بالدراسة من جهة سلمى كي تحقق حلم أمها
وتحسن من حالة قلبها لتتعافى بفرحتها وتحسن نفسيتها كما أشار لهم الطبيب بأهمية
الحالة النفسية للمريض.
باليوم
التالي خرجت سلمى على عجل لتنهي بعض المتطلبات وتعود قبل نزول والدها للعمل لأجل
رعاية أمها.
تجهز
طارق واجمع الاوراق المهمة كي يأخذها معه وهو ذاهب إلى جامعته،
نظر
لمنزل الجار حسين متوجه نحوه عازمًا أن يذهب ليطمئن على الخالة فوزية ليحظى
بدعائها الخير في بداية يومه.
تحركت
بصعوبة لهثها بأنفاسها الضعيفة لتفتح له الباب ممسكة بيده بقوة وكأنها ستسقط، أسرع
بإمسكها وأجلسها على المقعد المجاور لهم قائلا
"بهدوء
التقطي أنفاسك بهدوء"
نادى على
سلمى لتحضر الماء لأمها التي اجابته
"لا
يوجد أحد بالمنزل ذهبت سلمى لطباعة أوراق مهمة، وحسين لم يستطع البقاء بجانبي حتى
عودتها كما وعدها لأجل بعض الاعمال التي طرأت عليه، لا تقلق أصبحت بخير الآن"
تحرك صوب
المطبخ ليأتي لها بكأس ماء اشربها منه ببطئ على مراحل متقطعة كي لا يجهد القلب
أكثر مما هو عليه، عاتبها على قيامها من الفراش ومخاطرتها بنفسها.
لتفاجئه
بدموعها الهادئه التي اصبحت تتساقط من عينيها المتعبة وهي تجيبه بصوتها الضعيف
"لا
تخف يا بني اقتربت نهايتي ولم يعد بيدنا شيء لنفعله غير الاستسلام لقدر الله. كنت
اشعر بذلك منذ عدة أشهر طويلة"
قاطعها
طارق
"لا تيأسي من رحمة الله سأفعل أقصى ما
بوسعي كي نصل لعلاج شافي بإذن الله"
حدثته
بصوتها الذي بالكاد يسمع
"انا
مؤمنة بقضاء الله وقدره ولكني حزينة على وحيدتي"
تغلب
عليها بكائها حتى اختلط بنبرة صوتها الصادر من اعماق النار المشتعلة بصدره وهي
تشتكي له همها
"كيف
سأتركها وحدها! كيف وانا اعلم حجم الصعوبات التي تحيط بها! ماذا أن اُجبرت على ترك
دراستها والارتضاء بأي شهادة صغيرة! ماذا أن تم تزويجها قبل إنهائها لدراستها!
ابنتي لا زالت صغيرة ليس لديها من الخبرة ما يكفيها لإدارة منزل وتحمل مسؤولية
"
حاول ان
يطمئنها وهو يعلم صدق ما تقول فكان تزويج الفتيات بسن صغير أحد الأعراف السائده
لدى العشائر التي لا زالت متمسكة بالعادات القديمة وخاصة إن كانت عشيرة آل فارس
التي رغم صغر عددها إلا أن رجالها أشداء في تنفيذ العادات والأعراف على نسائهم
وكأن لم يصل إليهم أي حداثة أو تطور قط.
امسكت
يده وهي تأمنه عليها ليعدها هو ان يكون بجانبها سند وحامي لها طوال الحياة.
كان
حديثها مؤلم وثقيل على نفسه فكم حبها و
وضعها موضع أمه بقلبه لما كانت تفعله معه دوما.
فما من
أحد يعلم مساندتها المالية والدعم النفسي الذي قدمته فوزية لطارق على مدار سنوات
دراسته للطب الذي فاق حد تكلفته ما لا تتحمله عايدة.
كاد أن
يترك حلمه بأن يصبح طبيب متفوق يعالج المرضى وخاصة الفقراء منهم دون مقابل. ولكن
فوزية رفضت حينها عاقدة معه اتفاق من الباطن ان تدفع هي مصاريف الجامعة وما يلزمه
طوال سنوات الدراسة على أن يعالجها وعائلتها بالمجان حين يكبر ويصبح طبيب مشهور لا
يستطيع أحد حجز موعد عنده من شدة تميزه و ازدحام المرضى لديه. فرح طارق يومها
ووعدها أن يجتهد بدراسته حتى يحقق ما قالته ويعيد لها جميع ما دفعته. أخبر أمه
عايدة بحصوله على منحة مجانية من قبل إحدى السيدات الداعمات لطلاب العلم كونه من
المتفوقين صدقت عايده ابنها وظل السر معروفا كبير حُفر بقلب طارق المحب للخالة.
كثرة
أحاديث فوزية لابنتها وهي تحاول توعيتها واتساع نظرتها الصغيرة نحو المستقبل
وكيفية تحمل المسؤولية إن كانت علم أو دين او اخلاق او حياة او زوج
"حياتنا
ليس ملك لنا نفعل بها ما نشاء بل هي أمانة أعطاها الله لنا وامرنا ان نصونها
ونحافظ عليها ونطورها، النجاح بدراستك ليس بخيار بل فرض تثابي عليه أمام الله. كما
هو الحال بأخلاقك ودينك جميعهم حلقة متصلة إن ضعف إحداها ترهلت وضعفت وخسرت. إن
أردتي النجاح بالحياة عليك أن تهتمي بأخلاقك ودينك وعلمك، ألم أخبرك من قبل أننا
خلفاء الله في الارض، كيفما اردتي أن يرى الله خليفته افعلي فالأمر من بعد الان
معك"
احتضنتها
سلمى لتبكي بحضنها مكرره وعدها في أن تكمل دراستها وتتميز بها كما كانت تتميز دوما
وان تنجب أبناء اقوياء يضيفون للحياة أكثر مما ستضيف هي يحفظون القرآن ولا يخافون
إلا ربهم، لم تسمح لأحد أن يضغط عليها او يهينها او يجبرها على ما لا تريده، ستكون
قوية مثابرة لا تيأس ولا تتراجع بسرعة، لم تسمح لأحد أن يرى ضعفها ودموعها كما لم
تسمح للدنيا أن تجرفها بعيدا عن دينها، ستهتم بكل ما تريد وأكثر بمقابل ان ترفع
الحزن والخوف من قلبها كي تتحسن بسرعه وتعود إليهم بأفضل حال.
بكت
فوزية وهي تستمع لأحلام قرة عينها في أن تنجب أبناء كثر تذهب هي لعملها وتتركهم
لأمها كي تعلمهم كما علمتها واكثر، استرسلت سلمى كلامها عن تربية أمها لابنائها
وهي تمسح وجهها المبتسم
"لا
دخل لي أن كسروا وخربوا ما في المنزل، ستتحملون أنتم نتيجة دلالهم الزائد
لهم"
ورغم
الحزن المخيم على حديثهم إلا إن وجوههم كانت تبتسم وتضحك بأحلامهم وتطلعات فوزية
بمواصفات زوج ابنتها التي لا تطمع إلا أن يكون صاحب قلب طيب حنون يحب الناس صادق
بعبادته مع ربه ليصدق معها بمشاعره، رجل بكل ما تتضمنها الكلمة من أخلاق ودين
وتحمله للمسؤولية يعتمد على نفسه لا يقبل ان يكون تابع بل قائد قوي ناجح وإن كان
قيادته بمحيط عائلته الصغيره فقط. أن يمشي بين الناس جابرًا للخواطر لا مؤذيا لها.
سألتها
سلمى يومها "ومن أين سنجد رجل بكل هذه المواصفات، وايضا لا تفكري بذلك الآن
لا زال الوقت مبكرًا وعدتك أن لا أفكر
بأمر الزواج إلا بعد انتهاء دراستي وتحقيق حلمك"
تغيرت
نبرة صوتها بآخر كلماتها بعد تذكرها لخطيبها
"بالأصل
كان شخص واحد يستحق التضحية وذهب لربه صدقت عمتي جميلة حين قالت الأخيار هم من
يسبقونا للجنة"
ضمتها
أمها بحضنها مجددًا مقبله رأسها "نعم انهي دراستك حتى ينضج عقلك وفكرك ومن
بعدها سيأتي صاحب النصيب انا متأكدة من كرم الله وإستجابته لي، وضعتك أمانه بين
يدي خير الحافظين وهو سيحفظك ويكتب لكِ كل خير"
أغلقت
سلمى يديها خلف ظهر أمها مغمضة عينيها المملوءة بالحزن وألم قرب الافتراق فحتى وإن
أرادت تكذيب الواقع ودعت ربها واكثرت من دراستها لأجل اسعادها وتحسين حالتها إلا
أن قلبها يعلم حقيقة المرض ونهايته.
مرت عدة
أشهر إضافية إزدادت فوزية سوءا حتى اصبحت ملازمة فراش المستشفى يغيثها بضعة أجهزة
طبية تعينها على التنفس وتنظيم ضربات القلب والتحسين من عمله.
بهذه
الأجواء الحزينة المتعبة خرجت نتيجة سلمى لتبهر الجميع كعادتها، فرحت العائلة كما
بارك لها الأطباء والممرضات من حولها في المستشفى إلا أن قلبها أبا ان يفرح أو
يسمح للوجه ان يبتسم قبل اسعاد والدتها بنتيجتها.
اقتربت
طبيبة شابة منها لتحدثها بعد أن اشفقت على عيونها الحمراء وهي جالسه بجانب أمها
تترقب استعادتها لوعيها كي تفرحها بنتيجتها وتحقيق حلمها بفتح جامعات الطب كل
ابوابه أمامها لتدخله من حيث تشاء.
حركت
مقعد وجلست بجانبها وهي تحنو على ظهره "علينا أن نؤمن بقدر الله و."
لم تكمل
الطبيبة حديثها حتى أتت البشارة بفتح فوزيه عينيها وقفت سلمى بجانبها بصوت هادئ
"الحمدلله
الحمدلله كنت اعلم إنك لم تتركيني أفرح وحدي"
امسكت
يدها مقتربة نحوها بانحناء قامتها الضعيفة لتتحدث بصوت ملغم بدموع خالطها الفرح
والحزن والخوف
"لقد
خرجت الأولى يا أمي، تحقق حلمك سادخل جامعة الطب كما دعوتي وتمنيتي"
ابتسمت
فوزية إبتسامة طافت على وجهها الذي ضاء وتورد بحيويته على غير العادة، ضغطت على يد
ابنتها تعبيرًا منها على فرحتها لتنهمر الدموع من عيناي ابنتها حتى حالة بينها
وبين رؤيتها لأمها وهي تكمل حديثها
"جاءتني
عدة عروض للدراسة في أفضل
جامعات
الطب بالخارج، سأطلب أن تأتي معي ليتم معالجتك هناك سيكون هذا شرطي لقبول المنح
المقدمة من قبلهم"
بكت
الطبيبة وهي تنظر لحالة الأم فهي من محض دراستها وعملها تعلم بقرب نهاية الأم.
قبلت
سلمى يد أمها ورأسها عدة مرات وهي تعيد نفس الكلمات "الأولى يا أمي تحقق حلمك
ساصبح طبيبة كما تريدين"
وصل حسين
واخوتيه جميلة ومحاسن في بهذا الوقت الموافق موعد زيارة المرضى ليكونوا شاهدين على
دموع ابنتهم الحزينة وهي تحدث أمها بحماس كبير، نظر حسين لوجه فوزية ليعلم ما أصبح
واضح للعامة.
امسك
ابنته من كتفيها
"مبارك
يا حبيبتي مبارك، من الجيد إنكِ اخبرتيها بنفسك، هيا تعالي معي لنخرج كي ترتاح
أخشى أن يتأثر قلبها بالفرحة"
رفضت
سلمى الابتعاد عن أمها وهي تكرر نفس كلماتها "هيا عودي لنفرح، أمي خرجت
الأولى، أمي هيا لا تتركينا"
مع الأسف
علمت سلمى هي أيضا قرب الفراق فهذا ما أصبح يقينا حين ثبتت الأعين وتغرغر الصدر
بآخر أنفاسه بكت جميله ومحاسن كما اقترب حسين من الجهة الأخرى لزوجته ليلقنها
الشهادتين بالقرب من اذنها اليمنى أصبحت سلمى تقفز بمكانها محركه يد أمها "لا
تتركيني أمي لا تتركيني أمي أمي أمي "
حاولوا
اخوات حسين إن يسيطرون على ابنتهم ولكنهم لم يستطيعوا فهم ايضا متأثرين من صعوبة
المشهد على قلوبهم.
صعدت
الروح لبارئها معلنين الأطباء بعدها عن سقوط ورقة الخالة فوزية من شجرة الحياة.
سقطت قرة
عين أمها أرضا تبكي أسفل فراش أمها "لا تتركيني أمي لا تتركيني"
اقترب
حسين من ابنتها جاثيا على ركبتيه بجانبها وهو يضم رأسها داخل صدره منهارا على فراق
حبيبة روحه.
كما جلسا
جميلة ومحاسن بجانبهم يحنو على ظهورهم المنكسرة بحزنهم.
كانت
صرخات سلمى تضرب صدره ابيها كالخنجر المدرج حده ينزف بحزنه وألمه كلما صرخت
باهتزازها داخل حضنه.
أشبه هذا
العام بالسنة الكبيسة السوداء التي لا معالم بها إلا الحزن والبكاء، إزدادت
العشيرة حُزنًا على فقيدتهم، وضعت سلمى حزنها وغضبها من عدم إستطاعت الأطباء
بإيجاد دواء يشفي امها في دراستها بجامعة البصرة للطب.
بعد أن رفضت الألتحاق بالجامعات الخارجية
واختارت البقاء بجانب أبيها كي تهتم به وتداوي حزنه الذي ظهر عليه وامتلكه بشكل
كبير.
فمن كان
يرى وضعه ايام مرضها لم يتوقع اطلاقا انهياره وحزنه عليها لهذه الدرجة.
ورغم كل
هذا الحزن إلا أن حسين اتبع مقولة الحي أولى من الميت حين اختار شريكة جديدة تؤنسه
حياته متأملا أن تأتيه بالولد والعزوة.
تحجج
أمام ابنته بأنه أشفق عليها من الدراسة والاهتمام بالمنزل وإعداد الطعام، أقيم حفل
زفاف ليس بكبير جاءت بعده شابة عشرينية تسمى نسرين الهيثم إلى منزلهم الذي جُدد
على بكرة أبيه كي يليق بصاحبة الفستان الأبيض.
نظرت
سلمي بحُزن كبير نحو سعادة والدها ودورانه بحماس حول عروسته ليجمع فستانها ويهتم
بها بكل جوارحه وكأنه عاد عشرون عاما للوراء.
مرت
الشهور وزاد ضغط وغيرة نسرين زوجة أبيها منها، لتبدأ بحياكة الخطط وإخراج الاحاديث
الكاذبة كي تحمل قلب زوجها حسين على ابنته.
لم يكن
لدى سلمى الوقت الكافي للرد أو مجابهة أفعال نسرين المبتذلة، ورغم الظروف العائلية
و وضع البلاد الذي لا ينذر بخير إثر التحذيرات والضغوط الخارجية، إلا أنها استمرت
بنجاحها وتفوقها وتميزها بصفوف الطب كي تحقق وصية وحلم أمها التي كانت تستمع
لصوتها بأذنها كلما ضعفت قواها وضاقت دنياها وهي تقول لها
"ستتنجحين
وتتفوقين وتصبحين أفضل من ألف رجل بالعشيرة والبلد كلها. أنتِ من سيغير الأفكار
الظالمة القاهرة لدى عشيرتك. عليكِ أن تثبتي لهم جميعا انكِ تعادلين جميع
شبابهم".
حملت
العروس ليزداد العبء والضغط على سلمى التي حاولت جاهده أن تثبت لأبيها سوء زوجته
وظلمها لها ولكنها لم تنجح بذلك حين عميت اعين حسين بمولوده فهد الأكرم حفيد أل
فارس فرح وكأنه لم يرزق بابناء قبله قط، تباهى به أمام عائلته وعشيرته متخذ نجاح
ابنته وتميزها بالعراق سمة خاصة بكل من يحمل إسمه.
بهذا
الوقت كان طارق قد انهى دراسة الطب وبدأ بتحضير رسالة الدكتوراه الخاصة به ليصبح
أستاذ دكتور امراض باطنة.
كان طارق
خير من اؤتمن على سلمى فلقد صان الأمانة وحافظ عليها حين ساعدها وشجعها طوال سنوات
دراستها بالجامعة حتى أنهت سلمى الجامعة وأصبحت طبيبة أمراض القلب وهي تحافظ على
مستواها العلمي المرموق، تنبأ الجميع لها بمستقبل كبير وهذا ما جعل اسمها يدور
بالجامعات الخارجية حتى بدأت عقود العمل بالمستشفيات الكبرى تأتيها من كل مكان.
لم يكتب
لهذه المسكينة الفرح حتى بنتيجتها وتكريمها حين هبت رياح الحرب بالبلاد لتعصف
بالأمن والاستقرار والمؤسسات والشركات الخاصة والحكومية والمستشفيات حتى كادت ان
تنهى البنية التحتية للبلاد، هربت عائلة
سلمى لبغداد حيث تجمعت عائلة والدها في منزل جدهم الأكبر كي يكون أكثر أمنًا لهم
وخاصة بعد أن أصبحت البصرة أكبر وأُولى ضحايا اندلاع شرارة الحرب.
ووسط هذا
الحدث الجلل وخوف الرجال على نسائهم وأعراضهم مما يسمعونه عن انتهاكات ممنهجة ضد
أعراضهم. وقف كبراء العشيرة وسط عقر ديارهم وقفة أدخلت الرعب بقلوب الرجال والشباب
الذين تسمروا ثابتين خوفًا من ملامح الوجوه حولهم.
بدأ كبير
عشيرة أل فارس حديثه بقوة تتخللها العجز والكسر والحزن قائلا
"قُضي
الامر وأصبح علينا الحفاظ على عرضنا ونسائنا، لهذا نحن بصدد أمر جلل يتوجب على
الجميع اإحكام عقله قبل الرفض، ذهب زمن رفاهية التفكير والاختبار فالعدو خلفنا
والموت أمامنا وفرصة النجاة بيد الله وحده، و لذلك قرر مجلس كبار وحكماء العشيرة
تزويج كل فتيات العشيرة من شبابها كي لا ينتهك أحد عرضنا، لديكم الحق بالمعارضة على القرار ولكن من يعترض
سيكون عليه المسؤولية الأول والأخير على
حفظ عرضه"
تحدث شاب
متمرد ثائر
"هل
تعتقدون أن بفعلتكم هذه تحافظون على فتيات العشيرة، نحن نتعرض لهجوم شرس من عدو
ليس لديه لا مبادئ ولا معايير، كيف تفكرون بهذا القدر هل سيميز العدو بين الفتاة
والسيدة حين يهمون على هتك العرض، جميعنا سمع عن نيتهم بآسر نسائنا سبايا
لهم"
قاطعه
ابيه بصفعه على وجهه كادت ان تشق شفاة
الشاب قائلا بقوة مخيفة
"كيف
تتجرأ على مقاطعة ومهاجمة كبار عشيرتك"
مسح
الشاب وجهه وهو يصرخ بأعين الجميع
"الحرب
قائمة، المنازل تُنهب، الأعراض تُنهك، الموت ملأ البلد حتى تعبئت سمائنا برائحة
دماء الشهداء، قامت القيامة بكل مكان ونحن جالسون هنا نفكر بعقولنا الصغيرة في
تزويج الفتيات والشباب كي لا تُنتهك أعراضنا"
ضحك
باستهزاء مكملًا
"إن
أرادوا زوجة كبيركم سيأخذوها ويفعلون ما يشتهون بها دون أن....."
صمت
الشاب ليس تراجع او خوف ممن ثاروا غضبًا بل صمتَ صمتًا ابديًا حين سقط جثة هامدة
على الأرض.
أفاض
الصمت وقوة الحدث على المكان السكون والدهشة
الجميع ينظر لبعضه البعض بعيون متسعه وحلق جف
وأصبح علقمًا بطعم ما هم به.
تحدث
كبير العشيرة بقوة أكبر
"ليس
لدينا وقت لنهدره، الليلة سيعقد شيخ العشيرة عقد قران فتياتنا على شبابنا هنا بشكل
جماعي".
.........
تخيل معي
ان يسقط على رأسك حكم ظالم لهذه الدرجة المظلمة.
ما
مستقبل شباب وفتيات العشيرة ، هل سيقبلون بالحكم أم سينجون منه ؟